أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4















المزيد.....



الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3336 - 2011 / 4 / 14 - 22:21
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


2/ الغربة (Estrangement)

بَعْد المصالحة بين أنكيدو و گلگامش ، يأخذ گلگامش صديقه الجديد الى معبد "إي-أنا"، و يقدمه لأمه الكاهنة العظمى ننسون قائلاً :

"هو ذا البطل الأقوى في البلاد و المكين ،
إن قوته مثل قوة الشهاب النازل من السماء ،
و هو فارع الطول ، و باسل في القتال ."

فتحت أم گلگامش فاها و تحدثت
قائلة لگلگامش ...

"يابني .... في بوابته
بمرارة أنت .....
.................
إنك تمسك .....
.... في بوابته ....
بمرارة هو ........
ليس لأنكيدو أهل و لا أقارب ،
و شعره الكث ينسدل بلا هندام ،
إنه مولود في البرية و ليس له أخ ."

واقفاً هناك ، أصغى أنكيدو لكلامها ،
و راح يتفكر به ، ثم قعد و انتحب ،
و اغرورقت عيناه بالدموع ،
و فُتَّ في عضديه ، و تلاشت قوته .

أمسكا ببعضهما و ....
و عقدا كفيهما مثل .....
گلگامش .....
و خاطب أنكيدو قائلاً:

"يا صديقي ، لم اغرورقت عيناك بالدموع ؟
و قد فُتَّ في عضديك و تلاشت قوتك ؟"
رد أنكيدو عليه ، على گلگامش:
"يا صديقي ، إن الحزن يأخذ بمجامع قلبي ...

و عندما أنتحِبُ فإن رجليَّ ترتجفان ،
و يتغلغل الرعب في فؤادي ."

يصوّر النص المخروم أعلاه مأساة أنكيدو : إبن البرية الحر والمتفرد ، المجلوب من التلال و مجمعات الرعاة الريفية الى المدينة العاصمة حيث التيه وسط أهلها الغرباء ، الذين عقّدتهم الحضارة ، و ولّدت لديهم مسلمات متحذلقة عن مواصفات الأنسان المحترم تجـعلهم ينظرون اليه نظرة دونية بسبب منشأه غير المديني . و لذلك نجد أن أم گلگامش لا تتوانى – بحضوره – عن وصفه بكونه إنساناً مقطّع الجذور لا عزوة له و " لا أهـل له و لا أقارب" ، كما تعرِّض به لعدم لياقة مظهره بسبب "شعره الكث المنسدل بلا هندام" ، و لكونه "محروم الأخ" الذي يستطيع شد أزره . و ما يزال البدوي و أبن الريف العراقي حتى زماننا هذا رمزاً للغباوة ، و لـ "فقدان الأصل" ، و عدم النفع ، و موضوعاً للتندّر عند بعض أبناء المدينة .
هذه الماساة تبرر إعتبار أنكيدو أقدم و أعظم شخصية تراجيدية متغربة في تاريخ العالم ، لكونه أول حالة موثقة للغريب الشهم المقطَّع الجذور المستدرج إغواءً من البيئة الحياتية-الإجتماعية التي كرّس نفسه لها و التي يحن اليها إلى بيئة "غريبة" لا يحس أنه ينتمي اليها و لا يستطيع ممارسة وظائفة المحببة اليه فيها أو التي يشعر أنه قد خلق للإيفاء بها . والرمزية واضحة في عبارات أنكيدو الذي يحس فجأة بغربة الإنسلاخ الإجتماعي عن وسطه حال سماعه كلمات الكاهنة ننسون ، و هذا الإحساس يصيبه ليس فقط بالضعف الجسدي الشديد – لعدم وجود هدف رفيع ينجزه – بل و أيضاً بالإحباط النفسي ، و بالكآبة لهذه النظرة الدونية غير المبررة نحوه ، و التي تجرح كرامته ، و هو ما "يجعل الرعب يتغلغل في فؤاده" . فهو لا يستطيع أولاً فهم سبب اعتبار أهل المدينة-العاصمة أن الحرمان من الأهل و الأخوان لبطل مقدام – و مكتفٍ ذاتياً – من طرازه منقصةً لشخصه ، و لا السبب في إعتبارهم شعره المنسدل بلا هندام سُبَّةً له . و ليس هذا بالأمر الغريب عن ثقافة المجتمع المديني العراقي القديم و الحديث و الذي يشهد تاريخه الطويل على مآسي غربة الآلاف من أبناءه العظام المرتحلين من الريف إلى المدينة حيث يتحولون الى أُضحوكة المجالس هناك رغم مواهبهم الفذة حسب مقولة "من ترك داره قَلّ مقداره". و تليق بهؤلاء كنية "الآلهة الغريبة المغدورة" ، حيث تثبت سير حياة العديد منهم أنهم مخلوقات متفردة و قديسة بكل المقاييس . و في حالة أنكيدو إزاء ننسون ، نجد أحدى أبكر تجليات الفكر الإجتماعي المديني التزويري المبني على "وصم الإنسان" أولاً بالنقصان كوسيلة للتدجين ، و من ثم – بعد تجذر هذا الوعي بتعقد المجتمع الخانع المدجن – تعظيم هذه الذات الإجتماعية المدجنة بالإستعلاء عن طريق "وصم الآخرين" من الأغيار بالدونية ، بدلاً من إعتبار الإنسان قيمة عليا تتفوق على قيمة كافة الظواهر الطبيعية الأخرى ؛ و كل قوم بما لديهم فرحون .
و السبب الثاني لمأساة أنكيدو يتأتى من عقابيل الوعي بالنقصان نتيجة تأثره المحتوم بثقافة "قطيعه الجديد" في المدينة العاصمة لأن الوضع الإجتماعي هو الذي يحدد الوعي الإجتماعي . فإذا كانت أم صديقه الملك گلگامش - الإلهة الحكيمة و الريم البرية ننسون - على قناعة تامة بأن أنكيدو ليس "كـامل الأوصاف" و لا "عظيماً مثل الإله" (حسبما سبق لشمخت و أن أكدت له ذلك) بدليل "عدم إمتلاكه للعـزوة و المظهر اللائق" ، فلا بد أنها تقول الحق . و لذلك فإن الواقع يفرض على أنكيدو أن يعي حالاً هذه الحقيقة العارية بكل مرارتها . و الوعي المفاجيء بالحرمان أو النقص القَدَري الكائن خارج حدود الإرادة الذاتية أمر مأساوي دائماً لدى العظماء . و يدرك گلگامش مأساة أنكيدو المركبة هذه ، و حاجة صديقه الماسة الى القيام بعمل فذ يعيد النشاط إليه و يستعيد أمجاده فيزيل الغم عنه ، و لذلك فأنه يسارع الى مـواساته كصديق ، و يتخذه أخاً له ، و من ثم يقترح عليه مصاحبته للسفر الى غابة الأرز لقتل حارسها التنين الشرير "خمبابا" ، و هذا هو موضوع الفصل التالي . إن ستراتيجية گلگامش هذه بالغة الأهمية ، فهي تقارع فكرة "وصم الآخر" بفكرة إعتبار الأنسان – كل إنسان – سيد مصيره ، و سأعود إلى هذا الموضوع عند الكلام عن گلگامش بعد موت أنكيدو.
و لكن كيف نفسر موقف ننسون في إشارتها المباشرة و المتعمّدة الى كون أنكيدو شخصاً مـحروماً من العزوة و من الأخوة و من لياقة المظهر ؟ أكبر الظن أن إشاراتها هذه قد جاءت ضمن إطار ستراتيجية تداولية محسوبة لتوعية أنكيدو بما هو محروم منه أولاً ، و من ثم تدجينه بجعله يمتن لها و لگلگامش اللذين سيأخذان على عاتقهما مهمة تعويضه عما هو محروم منه مثلما سنرى . و عندها لا بد لإبن البرية البريء و الشهم أن يخلص كل الاخلاص لأولياء نعمته الجدد ممن يسدّون خواء الغربة عنده و يعيدون إليه ثقته بنفسه ، ولذلك نجد أن النصوص السومرية الأقدم للملحمة تصف أنكيدو بإعتباره خادماً لگلگامش و الأدنى مرتبة من الصديق المؤاخي له ( 22) .أما كيف يمكن التوفيق بين هذا الوعي المديني المتعالي لننسون على ربيب البر أنكيدو و بين لقبها الشعبي-الأسطوري-الديني "ريم البر" فهذا إشكال لا حل له ، و هو أحد مظاهر المعضلة الأزلية المميزة لكل الأساطير الدينية المبنية على الذاكرة الإجتماعية-الفولكلورية الهلامية ، و على الغموض و التناقض بإحتمال هذا التفسير أو ضده ، أو حتى اللاتفسير ، ضمن إطار هيمنة ثقافة التقديس المطلق للأفكار الميتافيزيقية . ولكن هذا الإشكال يُظهر أيضاً أن وعي ننسون – في نهاية المطاف – هو وعي مؤسسي مديني مدجَّن و مخلص تمام الإخلاص لمصالح المعبد و الدولة و المجتمع ، ولهذا فإنه يتعالى على الوعي المثالي و البراءة الذي تتأسس عليه آيديولوجيته . و حيال مثل هذا الوعي التسلطي ، فإنه ليس ثمة أمل لأنكيدو غير الأنصياع و التسليم بوعي قطيعه الجديد ما دام قد إختار – مرغماً – إنتماءً جديداً له . و سنرى بعدئذٍ كيف أن وعي أنكيدو للإختلاف بين وضعه القديم والجديد يحرك تطوره الذاتي ، و من ثم تطور فعله الدرامي-الملحمي-التاريخي .

3/ التكامل

فتح گلگامش فاه
قائلاً لأنكيدو:
..............
".... خمبابا الشرس ،
لنذبحه فتزول قوته !

في غابة الأرز يسكن خمبابا ،
لنخيفه في موطنه !"
فتح أنكيدو فاه ،
قائلاً لگلگامش :

"لقد سبق لي ، ياصديقي ، و أن عرفته في المرتفعات ،
عندما كنت أجوب هنا و هناك مع القطيع .
هناك تمتد الغابة المجهولة مسافة ستين فرسخاً ،
فمن الذي يجروء على الولوج إليها ؟

أما خمبابا ، فإن صوته هو الطوفان ،
و خطابه هو النار ، و زفيره هو الموت .
فما الذي يجعلك تريد القيام بهذا الأمر ،
إنها لمعركة مستحيلة أن تكمن لخمبابا."

فتح گلگامش فاه
قائلاً لأنكيدو:
"سأتسلق يا صديقي منحدرات الغابة ."
..
فتح أنكيدو فاه قائلاً لگلگامش :
"ياصديقي ، أنّى لنا الذهاب إلى موطن خمبابا ،
و هو حامي غابة الأرز الذي
حباه إنليل بالمقدرة على إرعاب الرجال ؟"

"تلك رحلة لا ينبغي القيام بها ،
وخمبابا رجلٌ لا ينبغي النظر إليه .
فحارس غابة الأرز طويل الباع ،
إنه خمبابا ، و صوته هو الطوفان .

خطابه هو النار ، وزفيره هو الموت ،
و هو يسمع همس الغابة على مبعدة ستين فرسخاً .
فمن الذي يجرؤ على دخول غابته ؟
الإله أدد في المنـزلة الأولى ، وخمبابا هو الثاني .

و من الذي يعارضه من بين آلهة الإگيگي ؟ (23)
و لكي يحمي غابة الأرز ،
فقد حباه إنليل بالمقدرة على إرعاب الرجال ،
فإن توغلت في غابته فستأخذك الرعشة ."

فتح گلگامش فاه للتحدث
قائلاً لأنكيدو:
"مالي أراك يا صديقي تتحدث بحديث الضعفاء ؟
إن كلماتك الخائرة تثبط عزمي .
.....
[ أين هو الإنسان الذي يستطيع ألإرتقاء إلى السماء ؟
و حدها الآلهة تحيى خالدة مع الشمس .]
أما البشر فأيامهم معدودات ،
و أفعالهم كلها ذاهبة في مهب الريح .

[كيف يحصل هذا ؟
إنك خائف و نحن مازلنا هنا !
سأتقدم المسيرة و إن كنت مليكك ،
فتهتف بي : تقدّم فلا خوف عليك .

فإن سقطت فسأترك بعدي إسماً خالداً ،
و سيتحدث الرجال عني قائلين:
إن گلگامش قد سقط في ساحة المعركة
ضد خمبابا الرهيب .

و لآماد طويلة بعد مولد ذريتي في بيتي ،
سيلهجون بذلك و يتذكَّرونني ."]

"أنت الذي ولدت و ترعرعت في البرية ،
و حتى السباع تهابك ، و لقد عركت كل الأخطار .
و الأبطال يولون أمامك الأدبار ،
و قلبك مجرب و ثابت الجنان في الحراب ."

[فتح أنكيدو فاه
قائلاً لگلگامش:

"يا مليكي ، إن كنْتَ قد عَزمتَ على دخول ذلك البلد ،
فعليك أولاً أن تقصد ألبطل شمش .
أبْلِغْ إله الشمش فالبلد بلده ،
و الأرض التي يُقطع منها الأرز تعود له ."

أخذ گلگامش طفلاً أبيض بلا شيَّة
و معه طفلاً أسمر ثانٍ
حملهما على صدره ،
و رفعهما في حضرة شمش .

و حمل بيده صولجانه الفضي ،
و قال لشمش المجيد :
"إنا عازم على الذهاب إلى ذلك البلد
و حقك ياشمش ، إنني ذاهب لا محالةَ .

إنني أتضرع إليك يا شمش ،
فبارك روحي ،
و ارجعني إلى ميناء أوروك سالما .

إنني أتضرع إليك ،
فامنحني حمايتك ،
و أجعل فألي حَسَناً .
فما قيمة أرض الحياة بالنسبة إليك ؟

أيها الإله شمش ، إصغ لي ،
إصغ لي يا شمش ،
و استمع إلى مقالتي:

في هذه المدينة يموت الإنسان كسير الفؤاد ،
و يفنى البشر و في قلوبهم حسرة ،
لقد نظرت من أعلى السورِ ،
و شاهدت الأجساد تطفوا على النهر .

ومثلها سيكون مصيري ،
أنني أعلم ذلك علم اليقين ،
فحتى أطول الرجال لا يستطيع بلوغ السماء ،
و لا يستطيع أعظمهم الإحاطة بالأرض .

لذا فقد عزمت دخول ذلك البلد ،
لأنني لم أؤسس بعد اسمي منقوشاً على الآجر ،
مثلما هو مكتوب في مصيري .

سأذهب إلى البلد الذي يقطع منه الأرز ،
و سأرفع إسمي عالياً مع أسماء الرجال العظام .
و حيثما لا يوجد أسماء الرجال ،
سأرفع النصب للآلهة ."

سالت الدموع على وجهه و قال :
"إيه ياشمش ، إنها لرحلة بعيدة .
فقد كتب علي أن أذهب إلى بلاد خمبابا .

فإذا كان مقدّراً لي أن لا أنجز هذا ،
فلماذا زرعت في نفسي ياشمش
الرغبة الجامحة فيه ؟
و أنّى لي الظفر إن لم تباركني ؟

حتي إذا ما متّ في تلك البلاد ،
فسأموت قرير العين .
و إن عدت ، فسأقدم لك النذور
و العطايا المجيدة و أسبح بحمد شمش ."

قَبِلَ شمش تَقْدُمةَ دموعه ،
و رقّ له مثل الإنسان الرحيم .
و عيّن حلفاء أقوياء لگلگامش ،
كلهم ابناء أُم واحدة
و وضعهم في كهوف الجبال .

و سخّر له الرياح : ريح الشمال و الإعصار و العاصفة ،
و الرياح الجليدية و الدوّامة و ريح الجنوب الحارقة .
سخرها له كالأفاعي و التنانين و النار المحرقة ،
كالحيّات التي تجمد القلب و مثل الطوفان المهلك ،
و مثل شوكة الرعد .
هكذا كانت هي ،
و هذا ما أسعد قلب گلگامش . ]

"لنسرع يا صديقي بالذهاب إلى مصهر المعادن !
.........
لنجعلهم يصبّون لنا الفؤوس أمامنا !"

أمسك أحدهما بيد الآخر و أسرعا إلى المصهر ،
حيث عقد الحدادون مجلساً إستشارياً .
فصبوا فؤوساً كبيرة و حراباً زنة كل واحدة منها ثلاثة طالنتات ،
و صبوا خناجر كبيرة وزن كل نصل لها طالنتان ،
و نصف طالنت وزن زخارف مقابضها ،
و نصف طالنت وزن الذهب المطعم فيها ،
و حمل گلگامش وأنكيدو عشر طالنتات لكل منهما .

سَدَّ گلگامش أبواب أوروك ذات الطباق السبع ،
و عقد اجتماعاً للمجلس ،
و الحشد يتجمع حوله .

في شارع أوروك المدينة المسورة جلس گلگامش على عرشه ،
و في شارع أوروك المدينة المسورة ،
جلس الحشد أمامه .
فتكلم گلگامش قائلاً
لشيوخ أوروك المدينة المسورة :

"إسمعوني يا شيوخ اوروك ،
سأركب الطريق إلى خمبابا الشرس .
و سأواجه الإله الذي يتحدث عنه الرجال ،
و الذي تردد البلدان إسمه بإستمرار.

سأدحره في غابة الأرز ،
لتعرف البلاد مدى عظمة ذرية أوروك .
لذا إسمحوا لي ببدء الحملة ،
فسأقطع أشجار الأرز ،
و أصنع لنفسي إسماً خالداً إلى الأبد ."

ثم وجّه گلگامش كلامه
إلى شباب أوروك المسورة :

"إسمعوني ياشباب أوروك الراعية ،
يا شباب أوروك يا من تفهمون القتال .
ساطأ بقدمي الطريق البعيد لموطن خمبابا ،
و سأخوض معركة لا أعرف نتائجها.

سأركب طريقاً لا أعرفه ،
فامنحوني بركاتكم كي أبدأ رحلتي ،
عسى أن أرى وجوهكم ثانية بخير ،
فأعود داخلاً من بوابة أوروك منشرح القلب .

و عند عودتي سأحتفل بعيد السنة الجديدة مضاعفاً ،
سأحتفل بالعيد مرتين في العام .
لذا أقيموا الإحتفالات الآن و ابدأوا الأفراح ،
و اجعلوا الطبول تقرع أمام البقرة البرية ننسون ."

قدم أنكيدوا إستشارته للشيوخ ،
ولشبان أوروك العارفين بالحرب :

"قولوا له ألّا يذهب إلى غابة الأرز ،
فتلك رحلة لا يجب القيام بها .
وخمبابا رجل لا يجوز النظر إليه ،
فهو حارس غابة الأرز الطويل الباع .

خمبابا هذا صوته الطوفان ،
وكلماته النار ، و زفيره الموت .
و هو يسمع همس الغابة على مبعدة ستين فرسخاً ،
فمن الذي يجسر على دخول غابته ؟
إن الإله أدد هو الأول و خمبابا هو الثاني .

و من الذي يستطيع الوقوف ضده من الإگيگي ؟
و لكي يحمي أشجار الأرز ،
فقد منحه إنليل المقدرة على إرعاب البشر ،
فإذا توغلت في الغابة فستأخذك الرعشة ."

قام المستشارون الشيوخ ،
و قدّموا لگلگامش ألنصيحة النصوح :
"إنك شاب يا گلگامش تركبك العاطفة ،
و كل هذا الذي تتحدث به لا تفهم معناه ."

سمع گلگامش كلمات المستشارين الشيوخ ،
و نظر إلى أنكيدوا ضاحكا ..
"ياصديقي كم أنا خائف ألآن ،
فهل ينبغي لي أن أبدل رأيي لكوني أخاف ؟"

تكلم شيوخ أوروك المسورة
قائلين لگلگامش :

"عد سالماً إلى ميناء أوروك ،
و لا تعتمد يا گلگامش على قوتك حسب ،
أُنظر بعيداً و انظر عميقاً و اجعل ضربتك الوثقى !

و الذي يتقدم منكما ينقذ رفيقه ،
و الذي يعرف الطريق يحمي صديقه .
دع أنكيدو يتقدم أمامك ،
فهو يعرف الطريق إلى غابة الأرز .

إنه مجرَّب في الحراب وعارفٌ بالقتال ،
و هو الذي سيحرس صديقه و يحافظ على رفيقه ،
سيعيده أنكيدو سالماً إلى زوجاته !"

و قالوا لأنكيدو :
"إننا ، في مجلسنا هذا، نضع المَلِك في رعايتك
فعد به سالماً إلينا و كن بديلاً لنا !"
فتح گلگامش فاه قائلاً لأنكيدو:

"تعال ياصديقي نذهب إلى القصر الجليل ،
إلى حضرة الملكة العظيمة ننسون .
إنها ذكية وحكيمة و تعرف كل شيء ،
و ستثبِّت أقدامنا بمشورتها الطيبة ."

أمسك أحدهما بيد الآخر ،
و ذهب گلگامش و أنكيدو إلى القصر الجليل .
في حضرة الملكة العظيمة ننسون ،
صعد گلگامش و مَثُل أمامها .

خاطب گلگامش ننسون قائلاً:
"سأطأ بأقدامي - ياننسون - أنا الجسور ،
الطريق البعيد إلى مسكن خمبابا ،
سأواجه معركةً لا أعرفها.

سأركب طريق المجهول ،
و هاأنا اتضرع إليك كي تباركي رحلتي ،
كي أرى وجهك ثانية بسلام ،
و أعود سعيد القلب عبر بوابة أوروك .

و عند عودتي ساحتفل بعيد السنة الجديدة مضاعفاً ،
سأحتفل بالعيد مرتين في العام .
فلتبدأ الإحتفالات الآن و تقام الأفراح ،
و اجعلي الطبول تقرع أمامك ."

أصغت البقرة البرية ننسون طويلاً بحزن ،
إلى كلمات إبنها گلگامش و أنكيدو .
و ذهبت الى بيت الإستحمام سبع مرات ،
و استحمت بماء الطرفاء و السدر .

لبست فستاناً جميلاً لتزيّن نفسها ،
و اختارت قلادة لتزيّن صدرها .
و بعد أن إرتدت عصابتها ، وضعت عليها التاج ،
و عندما رأتها البغايا ، سجدن على الأرض .

تسلقت السلالم و صعدت الى السطح ،
و على السطح أقامت مجمرة لشمش .
نثرت البخور و رفعت ساعديها متضرعة لشمش :
"لم إبتليت ولدي بروحٍ وثّابة ؟

لقد أصابه مَسُّك الآن ، وسيركب
الطريق البعيدة الى موطن خمبابا .
سيواجه معركة لا يعرفها ،
و سيركب الطريق الذي يَجْهلُ .

طوال أيام رحلته إلى هناك و العودة ،
من بلوغه غابة الأرز ،
و حتى ذبحه لخمبابا الشرس ،
ليخلِّص البرية من الشر الذي تبغض ،

كل يوم وأنت ترحل بدورتك على الأرض ،
لتذكِّرك العروس الجسور آيا :
"أن إجعله برعاية حراس الليل !"
في المغرب ....

لقد فتحت ياشمش الباب للقطعان كي تخرج ،
لأن .... تتقدم للأرض .
و المرتفعات تتشكل و السماء تتنور ،
و بهائم الأرض ... تجعلها تَـتوهج بألقك .

لابد للتساؤل عن الدافع الحقيقي وراء إصرار گلگامش على القيام بهذه الحملة أن يجرنا الى ألتفكير بالواقع الإقتصادي لدولة مدينة أوروك التي كانت تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات في أقصى الزاوية الجنوبية لمساره القديم ( الكائن إلى الشرق من مساره الحالي) و على مبعدة حوالي أربعين ميلاً عن سواحل الخليج العربي الذي كانت تقع عليها مدينة "أورى". و يتضح من المدونات المسمارية أن هذه الدولة – المعروفة في التاريخ بإسم سلالة أوروك الأولى – كانت تسيطر على كل سهل جنوب وادي الرافدين (من شمال بغداد إلى الخليج) مع أجزاء من بلاد عيلام (وادي نهر الكارون – وإسمه القديم "أوكنو" و الذي كان يصب في الخليج العربي و ليس شط العرب ألذي لم يكن قد تكوَّن بعد)( 24) . الواضح من نصوص الملحمة أن إقتصاديات هذه الدولة كانت مزدهرة و ذلك بفضل الإستقرار السياسي و وفرة المياه و الأراضي الزراعية الخصبة و تربية الدواجن و المواشي و صيد الأسماك . كما إزدهرت فيها الصناعات الحرفية و أهمها الصناعات المعدنية . و علاوة على هذا و ذاك ، فقد كانت أوروك هي أيضاً العاصمة الدينية للسومريين ، و محجَّهم ، و سوقهم التجارية-الدينية الغنية . و أخيراً ، فقد كان الإستقرار السياسي فيها مستتباً بفضل نظامها السياسي الذي يجمع بين الأوتوقراطية (الملك يسيطر على العرش وأمه تسيطر على المعبد) و الديمقراطية (مجلسي الشيوخ و الشباب) و العسكرتارية (الجيش الحسن التدريب القادر على حماية الدولة) .
تاريخياً ، فأن السهل الرسوبي لبلاد سومر القديمة في وسط و جنوب العراق كان محروماً من الأخشاب و التي كان بأمس الحاجة اليها لعدة أغراض حيوية من أهمها البناء (صناعة السقوف و الأبواب و الشبابيك و الأعمدة) ، و في صناعة الأثاث و القوارب و السفن و العربات و الأسلحة و الجسور و السدود و معدات الزراعة والحرث و غيرها من الإستعمالات . و يبدو أن زراعة أشجار النخيل لم تكن منتشرة على نطاق واسع في تلك الفترة (حوالي 2800 - 2700 ق.م.) على أرض جنوب وادي الرافدين الكثيرة الأهوار لكي تغطي بعض تلك الإحتياجات على الأقل . و أقرب الأمكنة إليه التي تتوفر فيها الأخشاب الثمينة هي كل من بلاد الشام (جبال لبنان و الأمانوس) و جبال زاگروس . و للمصدر الأول أفضلية واضحة على المصدر الثاني بسبب قلة وعورة جباله ، و لتوفر إمكانية نقل الأخشاب منه بيسر بواسطة نهر الفرات حيث كانت أغلب المدن السومرية مشيدة على ضفافه الجنوبية . و هناك سبيلان للحصول على الأخشاب الجيدة من جبال بلاد الشام ، إما سلماً عن طريق التجارة أو حرباً بتنظيم الحملات العسكرية لقهر السكان المحليين و نهب ما يمكن نهبه من الأخشاب من غابات بلادهم . و لقد إختار گلگامش سبيل الغزو . و لما كانت الحرب تحتاج دائماً إلى تبرير دعائي ، لذا فإن الملحمة تروّج المسوغ الأخلاقي-الديني المتمثل بقتل التنين الشرير للغابة السوداء . و المقصود بيافطة "التنين الشرير" كونه إلهاً أو ملكاً نجساً أو "مارقاً" مثل الشيطان الرجيم الذي تعتبر محاربته واجباً مقدساً على الأتقياء في كل العصور؛ رغم أن إنليل هو الذي "حباه بالمقدرة على إرعاب الرجال" . و من يريد الحرب لا يعدم إختراع تبريرات لها ، مثلما لا يعدم إيجاد مهللين لها من تجار الحروب . و أقوى تبرير للحروب على مر عصور التاريخ هو – طبعاً – التبرير الديني-الأخلاقي لكونه التبرير الوحيد القادر على تحويل بشاعة ذبح البشر إلى عمل بطولي مقدس في أذهان المحاربين المتَّقين . هنا نجد أن السومريين هم أول من يستخدم ستراتيجية "تكفير" أو "أبلسة" (demonization) العدو في الدعاية الحربية أو الحرب الدعائية لتسويغ الغزو. و هذه الستراتيجية هي أعقل من الأُسطورة الأمريكية القائلة بأن أشرف و أنبل سبيل لـ"تحرير العراق من الشيطان المارق صدام" هو تدمير البلد بآلاف الصواريخ الغبية و القنابل الجبارة أولاً ، و فرض الحصار المبيد جماعياً عليه ثانياً ، و إحتلاله ثالثاً ، و من ثم إستكمال تدميره إقتصادياً وسياسياً وحضارياً كلياً ، و تقتيل شعبه ثالثاً بتسليط الأحزاب المليشيوية-الفئوية عليه ، و شن آلاف الحملات التدميرية على مدنه . و على العكس من الرئيس الأمريكي "بُش الإبن" الذي باشر حربه الصليبية "المقدسة بالقذارة" بلا تفويض شرعي ضد العراق – الذي سبق للمخابرات الأمريكية و أن سلطت قادته من الشياطين "المارقة" على رقاب شعبه المظلوم – فإن غزوة گلگامش المقدسة لم تبدأ إلا بعد حصول گلگامش التقي على المباركة الشرعية و الأكيدة لإله العدل شمش له بفضل الوعود التي حصل عليها الأخير بنشر عبادته و ببناء معبد جديد على شرفه . و هذا ما يثبت أولاً بأن كل الآلهة – مثل بعض البشر و الحكومات – ترحب دائماً بالرشاوى الدسمة ، و يثبت ثانياً بأن الدعاية الحربية السومرية القديمة قبل ما يزيد على أربعة آلاف عام كانت أقل رياءً و صفاقةً ، و هي بالـتالي أنجعَ ، من تلك التي أنتجتها ماكنة الدعاية الحكومية الأمريكية إبان حرب إحتلال العراق عام (2003) . و على العكس من الحرب الأخيرة ، فقد كانت غزوة گلگامش لبلاد الشام مؤكدة النتائج بدليل تلك الأخشاب الضخمة و الكثيرة التي جلبها گلگامش من غابة الأرز لشعب أوروك السعيد مثلما سنرى ، في حين لم يشغل "بُشْ الإبن" نفسه بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي زوّد حلفاؤه في الغرب صدام بها و قبضوا أثمانها من أنهار الدماء للشعب العراقي المحاصر، بل تركها تحت الأرض كي تسمم مئات الأجيال من العراقيين التعساء المغلوبين على أمرهم و ذلك حسب القوانين و الأصول النافذة المفعول للشرعية الدولـــية الممثلة بمنظمة "الأمم المتحدة الأمريكية".
و لما كان المنتصرون في كل الحروب هم دائماً الزعماء و ليس الجنود ، لذلك نجد أن الملحمة لا تضيع وقتاً في ذكر آلاف المقاتلين من أبناء أوروك الذين لابد أن يكونوا قد جُندوا لأغراض هذه الغزوة عندما تصورها باعتبارها إنجازاً شخصياً خالصاً لگلگامش و أنكيدو . و هنا نجد أقدم مثالٍ على الإختزالات التاريخية لمنجزات الشعوب عن طريق تظهيرها جملة و تفصيلاً لحساب قادتها الميامين . و يلاحظ أن النص السومري الأقدم لهذه الغزوة يذكر صراحة أن گلگامش قد اصطحب معه في رحلته هذه خمسين مقاتلا شاباً روعي في إختيارهم عدم إعالتهم لأم أرملة و لا لزوجة و أطفال (25). و هذا ما يوحي أنه كلما تطورت الآلة الحربية للدولة الشمولية كلما أصبحت عملية الأختزال لمصلحة "القائد الرمز" أتم .
و تدشّن هذه الغزوة في تاريخ الشعوب و الميثولوجيا البشرية أولى بعثات الأبطال إلى المجهول في مهمات صعبة و محفوفة بالمخاطر لجلب الكنوز (أخشاب الأرز) و قتل الأشرار (التنين الشيطان) . و سيزودنا التاريخ بعدئذ بقصص رحلات الروّاد لآلاف الأبطال الأسطوريين و الحقيقيين المتطوعين من أمم أخرى في مثل هذه البعثات البطولية في العوالم المـجهولة ؛ سواءاً كانت لجلب الفروة الذهبية أو الكأس المقدسة(26) أو قتل التنانين من كل نوع(27) أو الحروب الصليبية و الإستكشافات الجغرافية ، أو كانت حروباً للنهب الأستعماري أو رحلات لإستكشاف الفضاء . و إذا ما وضعنا جانباً الأُطر الآيديولوجية و الدعائية التي تحاط بها هذه البعثات البـطولية ، فإن أهدافها النهائية هي إقتصادية-سياية بحتة ، و تتمثل بالإستحواذ على مصادر جديدة للثروة و للقوة و للهيمنة .
و إذا ما عدنا إلى الإطار ألآيديولوجي ، فإنَّ نص الملحمة - الذي يذكر صراحة بلسان گلگامش أمام الإله أوتو (شمش) عن عزمه على " تأسيس إسم لشمش حيثما لا يوجد إسم له " - يوضح أنَّ گلگامش كان يعتبر بعثته نوعاُ من "الحملة المقدسة" لقتل الإله المحلي خمبابا بغية نشر عبادة الآلهة السومرية و خصوصاً شمش و إنليل (مردوخ-بعل) و عشتار محل عبادته . و لا ريب أنه قد نجح في مسعاه ذاك ، فقد بقيت هذه الآلهة تُعبد هنا و هناك في بلاد الشام و شبه الجزيرة و اليمن ( أحياناً بأسماء محلية ) حتى الفتح الإسلامي ، و بقيت الدعاية لها من القوة و التأصل طوال ثلاثة آلاف عام بحيث أن حتى التوراة تنقل وقائع تخلي بعض اليهود عن العبادة ألوحدانية ليهوه لصالح بعل و عشتار (28). و من الشام إنتقلت عبادة الآلهة السومرية عن طريق الفينيقيين إلى الأغارقة سكان بلاد اليونان القديمة [و من بعدهم الرومان] و الذين صاغوا مجمع آلهتهم على غرار مجمع الآلهة السومري . و هكذا فقد كانت الديانة السومرية أول دين ذي طابع عالمي في تاريخ البشرية .
و الأمر الآخر المهم في الفكر الديني السومري هو عدم وجود فكرة "شعب الله المختار" لديهم . و مثلما سنرى بعدئذٍ ، فإن عالمية الفكر الديني السومري تنطلق من فكرة أن الشعوب آلهتها واحدة ، ولذلك فإن الإله شمش – مثلاً – هو إله الشاميين مثلما هو إله أهل أوروك و أريدو و نفر الخ . و التميز المسموح به ينحصر بالتميز الشخصي و القائم على الإستحقاق بفعل الإنجاز الفردي ، و ليس على الأفضلية المؤسسة على إمتياز الإنتماء إلى دين معين أو قبيلة بذاتها أو المنطلقة من تمييز "رباني" فوقاني يسبغه المؤمنون بالدين أو المنتمون للقبيلة أو العشيرة على أنفسهم بأنفسهم عبر فبركة آيديولوجيا تقسيم البشر إلى مجموعتين :مجموعة "نحن أصحاب الإمتياز من الرب" ، إزاء كل المجموعة الأخرى من "الآخرين الشياطين من أعداء الرب" ، أو "الأغيار من الغرباء" .
ننتقل الآن إلى نوع النظام السياسي السائد في مملكة اوروك الأولى . ألواضح من نص الملحمة أن هذا النظام كان ملكياً أوتوقراطياً و وراثياً . و في حالة وفاة الملك و عدم وجود خلف له ، يمكن لأم الملك أو زوجته أن تصبح هي الملكة ، خصوصاً إذا كانت ذات شخصية قوية و مؤثرة إجتماعياً و دينياً و لم يكن لديها منافسون أقوياء ؛ و بعكسه يتولى الملوكية أقوى مدعٍ للعرش . و في حالة گلگامش ، يتضح من المدونات السومرية أن أمه الملكة ننسون كانت – مثل زوجها الملك المؤله "لوگال بندا" – تجمع بين صفتي الملكية و الإلوهية على دولة أوروك بعد وفاة الأخير . ثم تزوجت الملكة المقدسة ننسون ( و هي أيضاً كاهنة معبد إي-أنّا ) من كاهن "كُلّاب" المدعو "لِلّا" أو "لِللو" ، فولدت منه گلگامش الذي أصبح بعدئذ الملـك الخامس لسلالة أوروك الأولى . و عندما يغيب گلگامش عن أوروك فإن أُمه تعود إلى ممارسة مهامها الملكية مكانه(29) بمعاونة مجلسي الشيوخ و الشبان . و من المهم ملاحظة كيف أن الطقس الذي تؤديه ننسون للإتصال بالإله شمش هو نفسه الطقس الذي تؤديه المرأة يوم عرسها في ليلة دخول عريسها عليها ، و هو يؤشر مرة أخرى لقداسة فكرة الجماع الجنسي عند السومريين باعتباره أهم فعل تواصلي لتوحد البشر مع الآلهة عبر الإنتشاء بشهوى الإستسلام لها .
و يوضح نص الملحمة وجود مجلسين إستشاريين للملك هما مجلس الشيوخ ومجلس الشباب ،و اللذين يمثلان أول تجلٍ فطريٍّ لنظام الحكم الديمقراطي في التاريخ . و لكونهما مجلسين إستشاريين ، فإنّ واجبهما هو تقديم المشورة و النصح . و بوسع الملك تجاوز قراراتهما ، ولكن ليس تجاوز إبلاغ كيانيهما في القضايا المصيرية . و هذا يعني أن من واجب الملك أن يقدم مشروعه للمجلسين للمناقشة قبل الإقدام على تنفيذه و ليس بـعد تنفيذه ؛ و يحاول الحصول على مباركتهما بعد شرح دواعي تقديم المشروع لهما . و النقاش يتم بـمقارعة الحجة بالحجة للحصول على الإجـماع الـمطلوب في إطار الحرص على مصلحة الدولـة . و بـعد الإتفاق على الرأي النهائي ، فإن المجلسين يعملان مع الملك يداً بيد لتنفيذه . ولذلك فإنّ الشيوخ – بعد فشل جهودهم في ثني گلگامش عن عزمه – يقدمون النصح لگلگامش و لأنكيدو حول كيفية تحقيق أهداف الحملة بنجاح ؛ أي أنّهم يتحولون من معارضين للقرار إلى مساهمين إيجابيين في تنفيذه لمصلحة شعب و دولة أوروك و مليكهم . كما نجد أن گلگامش – بتوجيه من أنكيدو – يقيم طقساً رمزياً مهماً يسبق تقديم القرار للمجلسين ، ألا و هو إستصدار موافقة إله العدل و الحكمة أوتو . هذا الطقس مهم جداً لأنه يعني بوضوح أنه ليس للملك الحق في إتخاذ قرارات لا ترضى عنها الآلهة ، مثل القرارات المتهورة أو الظالمة ، بل إن من واجبه الإلتزام بتوجيهاتها بإعتباره ظلها على الأرض ، و المعبر عن إرادتها العادلة ، كتعبير عن التكامل بين السلطة السياسية و السلطة الدينية المستند على "سلطة الحق". و بإمكان الباحث أن يعتبر شكل الإطار الديمقراطي لمثل هذا النظام السياسي المميز لدويلات المدن السومرية في عصر فجر السلالات – على الأقل بشكله التجريدي – متقدماً على زمنه بكثير . وأساس هذا النظام هو ثقافة الشورى المنوّه عنها سابقاً والمستندة على مبدأي الإلتزام بالأصول و الأعراف الدينية-الإجتماعية أولاً ، و إلإحتكام لآراء "ذوي الشأن" أو "أهل الحل والعقد" ، و الإستفادة منها ثانياً ، و كذلك توخي العدل ثالثاً . و المراد من المبدأ الأول كسب ودِّ الآلهة ومؤسساتها الدينية و طبقة رجال الدين ، فيما يراد بالمبدأ الثاني كسب الرأي العام و المجتمع ككل من خلال كسب إرادات و عقول رجالاته من الشيوخ و الشباب . أما المبدأ الثالث ، فيجمع بين رضا الآلهة و المجتمع . و يشبه الشكل التنظيمي لهذا النظام الديمقراطي مؤتمر القبيلة أو العائلة الكبيرة برياسة قائدها ذي الكلمة المسموعة المعترف بها . و يمكن القول بكل ثقة أن هذا النظام كان أرقى نظام ديمقراطي عرفه الشعب العراقي في كل التاريخ حتى عامنا هذا (2006م) ، بل و حتى في المستقبل المنظور في ضوء سيادة ممارسات "الديمقراطية القذرة" حالياً . و للأسف ، لم يقيِّض التاريخ لهذا النظام السياسي الأوَّلي أن يتطور إلى أمام ، و ذلك لنفس السبب الأقتصادي الذي أدى إلى قيامه : طبيعة العلاقات الإنتاجية . لقد نشأت جذور الديمقراطية السياسية كإنعكاس فوقي للعلاقات الإجتماعية للمشاعية الإنتاجية و ما تستلزمه المصالح الإقتصادية المشتركة لأفرادها من عدم التصرف بأموال المشاعة إلا بموافقة بقية الشركاء للحيلولة دون الإضرار بمصالحهم المشتركة و ذلك بالإلتزام بثقافة الشورى . و إستمرت هذه الثقافة تطبَّق بهذا الشكل أو ذاك حتى نهاية عصر فجر السلالات بفضل تداخل المصالح و توازن الصراع بين السلطة الإقتصادية للقصر و المعبد و الملكية الفردية الحرة في ظل نظام إنتاج زراعي-رعوي-حرفي صغير تلعب فيه مؤسسة المعبد و القصر دور أكبر مالك للأراضي ، مع وجود الملكية الفردية للأراضي الزراعية و الحيوانات و غيرها من وسائل الإنتاج . و باستثناء أروقة المعابد الكبيرة ، لم يكن يوجد العبيد على نطاق واسع في هذا النظام ؛ خصوصاً و أنه كان بالإمكان إستخدام أعمال السخرة الجماعية بتجنيد المواطنين الأحرار لتنفيذ المشاريع الضخمة للمنافع العامـة كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، و هذا ما يلغي أو يقلل الحاجة إلى قوى العمل المجانية للـعبيد . و لهذا ، فإن أنكيدو إبن البرية الغريب لم يُستعـبد عندما دخل مدينة أورورك ، الأمر الذي يعزز فرضية سيادة مبدأ حرية الأنسان بالولادة في المجتمع السومري إبان عصر فجر السلالات . كل هذا يؤيد الإفتراض أن مجتمع سلالة أوروك الأولى لم يكن مجتمعاً طبقياً ، و ما تقتضيه من وجود طبقات مستغِلة و مستغَلة .
بعد ذلك بحوالي خمسمائة عام ، أنشأ بطل عراقي أخر مثل گلگامش ، و هو سرجون الأكدي ، الدولة الأكدية ألتي وحَّدت كل أرض العراق القـديم (الهلال الخصيب حالياً) ، و تعدت ذلك ببناء أول إمبرطورية في التاريخ ، فانتهت بذلك السيادة السياسية للسومريين حوالي عام (2330 ق.م) . و في ظل هذه الدولة-الامبراطورية ، حُسم الصراع الإقتصادي بين سلطة المعبد و القصر لصالح الأخير (30) ، بعد أن تركزت الثروة بأيدي القصر على حساب ملكية المعابد (31)، وكذلك بفضل حروب التوحيد التي شملت تركيا الحالية و إيران و سوريا-فلسطين و البحرين و حتى عُمان . و لقد جلبت كل هذه الحروب جيشاً من أسرى الحرب إلى العراق القديم ، مع ثروات ضخمة بـهيئة غنائم منقولة ، والتي خلقت طبقة أرستقراطية- عسكرية جديدة حاكمة تمتلك قوة العمل (العبيد من أسرى الحرب) ، و رأس المال (غنائم الحرب من الأموال المنقولة و الجزية المنتظمة المفروضة على الأقاليم المحكومة ) لإستثمار الأرض و العقارات لحساب القصر و لحسابها ، و هذا ما أنهى سيادة علاقات الأنتاج القديمة القائمة على مبدأ حرية الإنسان بالولادة (32) ، و تكامل السلطة بين القصر والمعبد . و لما كانت هذه الطبقة الجديدة الصاعدة هي جزء من آلة الدولة العسكرية ، لذا فقد إقتضت مصالحها الأقتصادية أن تستند على سلطتها ألمركزية القوية و المستبدة لتدافع عن مصالحها ؛ و لا مكان في هذه السلطة الغاشمة لآراء أفراد الشعب في مجلسي الشيوخ و الشباب من غير اللاعبين الكبار بالأموال و قوة العمل من أفراد الأرستقراطية الملكية و القادة و الحكام العسكريين و وكلائهـم . و شيئاً فشيئاً، إمتدت شهية هذه الطبقة الأرستقراطية إلى مدينيهم المفلسين من أبناء جلدتهم الأحرار ليصبحوا عبيداً لديها، و لتكتسب بذلك مصدراً لا ينضب لقوة العمل المملوكة ، و التي تعوض عن شحة الأسرى في عصور الإنحطاط الإمبراطوري . و في ظل مثل هذه التشكيلة الإجتماعية-الإقتصادية ، لم يعد ثمة مكان أو ضرورة للمؤسسات الديمقراطية ، بعد أن تحولت إلى عبء ثقيل على الجيوب و الأحلام المريضة للحكام الطغاة . و هكذا فقد أُسدل الستار على عصر الديمقراطية الفطرية السومري المجيد في مدن جنوب و وسط العراق ، و لم يسمح حكام العراق - المحليون والأجانب على حد سواء - و منذ ذلك التاريخ بقيام أية مؤسسات ديمقراطية حقيقية فيه حتى الآن (عام 2006 م) ، حيث تم و يتم فيه إرتكاب أرعب الجرائم في تاريخ البشرية بإسم إرادة الشعب العراقي الـمغلوب على أمره ، إما تـحكّماً ، أو تزويراً . أما عند البدو ، فقد بقيت بعض أسس و تجليات هذا النظام الديمقراطي الفطري قائمة فيه حتى يومنا هذا ، بفضل فاعلية وضيفتها الإجتماعية ، و إن تفاوتت هذه الأسس والتجليات تفاوتاً مـكانياً و زمانياً و قبلياً و شخصياً .
و يعلمنا التاريخ أنه بدون إنجاز الوحـدة الداخلية بين مختلف المكونات الإجتماعية للعراق و سيادة السلام الاجتماعي فيه فإنه ليس بالامكان لقيادة البلد إيلاء الاهتمام الكافي لرعاية مصالحها الداخلية و الخارجية و التأثير إيجابياً بمقدرات الامور فيها ، هذا إن لم يؤدي الصراع الإجتماعي إلى التشرذم و فقدان القيادة المركزية أصلاً . هذا هو الدرس الذي تنقله الملحمة لأبناء العراق في كل العصور عبر رمزية إتحاد المكوّنين الرئيسيين للشعب العراقي آنذاك و هما البدو (أنكيدو / الطفل الأسود) مع الحضر (گلگامش / الطفل الأبيض) عندما توضح بشكل ضمني أثر هذا الإتحاد على رفع المظالم عن شعب أوروك و نجاحه في توسيع نطاق هيمنة سلطة دولته على الجوار .
نعود الآن إلى موضوعة وعي السومريين لعلاقة الإنسان بالآلهة مثلما تصورها الملحمة . و لعل أهم وجه لهذه العلاقة في الملحمة هو صراع الإرادات ، و به ترتبط موضوعة التلاقي و التقاطع بين إرادة الإنسان و إرادة الآلهة . أساس هذا الصراع و محركه هو التطلع المشروع و الطموح لدى الإنسان لتحقيق المعجزات بتجاوز حدود المستحيلات و بلوغ شأو الآلهة باقتحام السماء . و هذا الصراع هو سلطوي بالدرجة الأولى ، يحكمه مدى التقاطع المترتب على هذا الصراع بين مصالح الأنسان و مصالح الآلهة في الحفاظ على القوة و السيطرة و المهابة و المكاسب . و مثلما يحصل في الصراع بين جبّارين (أنكيدو و گلگامش على سبيل المثال) فمن الممكن لهذا الصراع أن يتحول إلى التكامل و التعاون عن طريق إيجاد قاسم مشترك بين مصلحة الطرفين ، و من ثم الإتحاد معاً لتوجيه أسلحتهما إلى طرف ثالث (خمبابا على سبيل المثال) . و تتأثر إمكانيات تحقق مثل هذا التلاقي سلباً و إيجاباً بدرجة قوة الإغراء للمكاسب التي يحصل عليها كل من الطرفين بموجب الإتفاق المبرم ، و ذلك وفقاً لمبدأ "هات و خذ" ، أي حساب "الأرباح و الخسائر" للطرفين . فإذا بقيت كفَّة قيمة المكاسب متوازنة نسبياً بين الطرفين ، فيمكن التلاقي بينهما ، سيما و أن كل طرف يعرف جيداً ما لديه من أسباب القوة و مدى بأس غريمه . أما إذا مالت كفة الميزان لصالح طرف واحد و على حساب وجود و حقوق الطرف الثاني ، أي إذا ما كانت الخسائر ثقيلة على أحد الأطراف (تنطوي على "كسر عظم" حسب التعبير العراقي) ، فإن الصراع بينهما يمكن أن يستمر سجالاً بلا غالب و لا مغلوب عند توازن القوى ، أو أن يتصاعد مع تغيرات توازن القوى حتى النهاية المرة بإنتصار أحد الأطراف ، أو فنائهما معاً . و في الصراع ، فإن كل شيء يعتمد على توازن القوى ، طبعاً . و تنطبق هذه القواعد على الصراع بين الأشخاص و الجماعات و الدول ، و بين السلطة و المعارضة ، و على صراع الطبقات فيما بينها . و يمكن القول أن كل صراع – حربياً كان أم سياسياً ، شخصياً أم إجتماعياً : طبقياً أو وطنياً أو قومياً أو دينياً أو طائفياً أو قبلياً – يقبل قاعدة "هات و خذ" إذا ما توفرت الإرادة للإتفاق عند الطرفين لأعتبارات شتى مثل حـقن الدمـاء ، أو الجـنوح إلى السلم ، أو التعايش المشترك و تبادل المصالح ، أو الإصابة بالإعياء نتيجة الإستنـزاف توازن القوى ، أو التحصُّل على المكاسب أو الحقوق "الجزئية" نتيجة للتنازلات المتبادلة ، أو التخوّف من العواقب الوخيمة ، أو منع الإنهيار الداخلي-الذاتي المحتمل أو الناشيء ، أو كإجراء مرحلي لحين حصول تغير ما في الوضع قد يقلب الموازين . و في حال وجود حقوق للطرفين ، فإن كل إنتصار "حاسم" لا بد أن ينطوي على هضم حقوق أحد الأطراف ، ولذلك فلابد له أن يتجدد عاجلاً أم آجلاً .
و قد عرف السومريون هذه القواعد ، فطبَّقوها لأول مرة على الصراع بين الأنسان و الآلهة . و صوروا هذا الصراع غير المتكافيء على غرار صراع المتهم البريء أو التائب المتواضع أمام قاضٍ عادل ، أو الخصومة بين المواطن المطيع و الملتمس أمراً أمام مليك متنوّر و متفهم . و لم ينسوا قاعدة "هات وخذ" . و لكنهم أهتموا كثيراً بوجوب تضرع الإنسان أمام الإله كشرط أساسي للإستجابة لطلبه ، فالآلهة السومرية لا تغفر العقوق و التعالي عليها من بني البشر أبداً ، لكي لا يتحول الإنسان إلى إله ينافس الآلهة على سلطتها ، و لكي يحفظ كلٌ مركزه . و گلگامش يدرك هذه الحقيقة جيداً عندما يتساءل :"أين هو الإنسان الذي يستطيع ألإرتقاء إلى السماء ؟" ثـم يـؤكد : "و حدها الآلهة تحيى خالدة مع الشمس ". و إزاء خلود الآلهة خلودَ الشمس ، فإن الإنسان " أيامه معدودات " ، و "أفعاله كلها ذاهبة في مهب الريح " ، و لا خيار لديه إلا أن "يترك بعده إسماً خالداً". هذا هو أُس الصراع الداخلي-الخارجي الذي يعيشه گلگامش المشغول بالقصور الذاتي للحي الفاني ، و التطلع المشروع لهذا الفاني للخلود التاريخي بفضل الإنجازات العملية الفذة على وجه الأرض . ومن واجب "التابع" أنكيدو أن يبارك مثل هذا المسعى النبيل لدى مليكه گلگامش "فيهتف به – مثلاً- قائلاً : تقدّم فلا خوف عليك ". و لهذا فإن گلگامش يعاتب أنكيدو على معارضته لمسعاه في تثبيط عزمه ، بدلاً مـن أن يضع يده بيده و يتـقدم المسيرة ، و يتـهمه بـ"الخوف" أو "الخَوَرْ"، ويبين له عزمه الأكيد بكونه "سيتقدم المسيرة و إن كان مليكه "، و أن الرجال سيتحدثون عنه قائلين : "إن گلگامش قد سقط في ساحة المعركة ضد خمبابا الرهيب" لكي يتخلد ذكره في ذاكرة الأجيال . و يلاحظ هنا ألمعية مقولة "خلود الشمس" ، والتي أخذتها التوراة بعبارة "وحدها الشمس تبقى مشرقة إلى الأبد" و ربطتها بسياق تعارضها مع واقع موت الإنسان و عودته "من الطين إلى الطين".
أما أنكيدو فإن همه منصب على وجوب أن يأخذ گلگامش بعين الإعتبار قوة خمبابا ، و كون الإله إنليل هو الذي "حباه بالمقدرة على إرعاب الرجال" ، و عدم التجاوز على حق الإله شمش الذي يعود له البلد. و لذلك فإنه يخاطبه بالقول :
"يا مليكي ، إن كنْتَ قد عَزمتَ على دخول ذلك البلد ،
فعليك أولاً أن تقصد ألبطل شمش .
أبْلِغْ إله الشمش فالبلد بلده ،
و الأرض التي يُقطع منها ألأرز تعود له ."

إذن أنكيدو يدرك حقيقة التناقض الكامن بين رغبة گلگامش الإنسان في قتل خمبابا و نهب أرزه الثمين المقدس و بين مصالح الآلهة ، و أهمها الإله شمش الذي تعود له ملكية غابة الأرز . و يبدو أن العراقيين القدماء كانوا يؤمنون أن الشمس – مثل الراعي أو الفلاح أو العامل – تعود إلى "بيتها عند الغروب" ، و لذلك فإن أرض لبنان الكائنة إلى الغرب من العراق تعود إلى شمش . و لا يجوز لگلگامش دخول "بيت شمش" و قتل حارسه المصطفى خمبابا الذي يمتلك المقدره على إرسال الرياح الغربية – بمشيئة إله الهواء أنليل – دون إستحصال الإذن المسبق من شمش . كل هذا يؤكد المفهوم السومري بكون الإنسان و الأرض و مواردها الطبيعية هي ملك للآلهة ، و أنه لابد من إستصدار تفويض مسبق منها عندما يزمع الملك (گلگامش) قتل ملك آخر (خمبابا) و إحتلال أرضه و سلب كنوزها (الأرز) . و قد سبق الكلام عن أثر هذه الفكرة في تحوّل المعابد الرئيسية في العراق إلى أكبر مالك لوسائل الإنتاج في عهد فجر السلالات العراقي ، بل و البؤرة لنشوء المدن الكبيرة و تأسيس دويلاتها الثيوقراطية-الديمقراطية-العسكرية "تحت أجنحة الألهة ".
و يتبيَّـن من الحوار مدى تَـوحُّد شخصيتي كلاً من گلگامش و أنكيدو إتحاداً ملازماً بحيث يصبح رأي الواحد منهما هو الوجه المكمَّل للآخر. و ستكون المحصلة الأخيرة هي دائماً تحقق إرادتي "الإثنين في الواحد". ففي هذا السياق يوافق گلگامش على رأي أنكيدو و يستحصل موافقة شمش ، و من ثم يوافق أنكيدو على المشاركة في مسعى گلگامش لغزو غابة الأرز ، و سيتبادلان الأدوار بعدئذٍ .
و رمزية الطقس الذي تصفه الملحمة لعملية "المرافعة و إستصدار الإذن" واضحة من الرموز التالية :
• الطفلين بلا شيَّة ( البراءة من العيب أو الذنب و توافر حسن النية) .
• الحمل على الصدر (حب گلگامش لكل مكونات شعبه و إهتمامه بتحقيق مستـقبل زاهر لـه) .
• الصولجان المحمول باليد (سلطة الملكية الممنوحة من طرف الآلهة لگلگامش) .
• توكيد العزم على الغزوة (سياسة الأمر الواقع و وجوب التعامل معها بأخذها بعين الإعتبار).
• القَسَم بشمش (القسم واجب البر ، و الحنث به ينال من قدسية شمش نفسه) .
• التضرع و ذرف الدموع أمام شمش (التواضع أمام الآلهة : گلگامش لا ينافس الآلهة و هو ليس شخصاً متكبراً) .
• طلب المباركة و النصر من شمش ( توكيد إيمان گلگامش بتحكم الآلهة بمصائر البشر) .
• تقليل أهمية أرض الحياة بالنسبة لشمش (التفاوض – هات و خذ) .
• الترافع أمام الإله عن هَمِّ الأنسان المحكوم – على العكس من الإلهة – بالموت المحتم و حاجتة إلى نوع من الخلود ( مشكلة الإنسان الفاني).
• لما كانت الآلهة خالدة فإن بإمكانها أن تتنازل قليلا فتمنح الفرصة لگلگامش لتخليد إسمه (الحل لمشكلة الإنسان يكمن في تنازل الإلهة عن بعض إمتيازاتها).
• أن مثل هذا الخلود الإسمي للإنسان لا يمكن يحط من قدرة الآلهة فالأنسان لن يبلغ شأوها أبداً (يمكن للآلهة أن تقبل ببعض التنازلات للإنسان دون أن ينال هذا التنازل من سلطتها).
• أن الحملة تهدف أيضاً إلى رفع إسم شمش في أرض الحياة و جلب النذور السخية له (وحدة المصالح و المشاركة – هات و خذ) .
• أن توق گلگامش للحملة قد غرزته في نفسه إرادة شمش نفسه (مسؤولية الآلهة عن تطلعات و "فكر" الإنسان).

و يقبل الإله شمش مرافعة گلگامش "مثل الإنسان الرحيم" ، ثم يعين له حلفاء "كلهم ابناء أُم واحدة و يضعهم في كهوف الجبال" . و للعبارة الأخيرة أهميتها الرمزية البالغة المعنى . النص ينطلق أولاً من مفهوم موروث بكون "أبناء الأم الواحدة يشكلون صفاً متراصّاً أكثر من أبناء الأب الواحد " . هنا الرحم الواحد يؤشر للإرادة الواحدة ؛ و في هذه الإشارة إحالة إلى واقعين تاريخيين-إجتماعيين مختلفين و متباعدين . أولهما عصر المشاعة البدائية الملتفة حول سلطة الأم (البطن الواحدة) ، و ثانيهما صراع الأخوة المنحدرين من أب واحد لزوجتين إثنتين . و بالنسبة للأشارة الثانية فهي الأقرب تاريخاً . و يزخر التاريخ بالعديد من قصص الصراعات الدامية بين أبناء القادة (الدينيين والسياسيين) النابعة أصلاً من الصراع بين الزوجتين الضرتين و أبنائهما على نيل إمتيازات و ميراث زوجهما (قصص التوراة مثلا ، على وجه الخصوص) (33).
أما الأشارة الأولى ، فهي الأبكر تاريخاً و الأقرب إلى الحقيقة بسبب السياقين النصي و الزمكاني ، لكون الأخوة "أبناء البطن الواحدة" يقطنون "كهوف الجبال" بالتحديد و ليس أي مكان آخر ، ضمن إطار مجتمع رعوي بالدرجة الأولى . و لا يمكن تصور توحد إرادة الأخوة من أبناء بطن واحدة ممن يسكنون العديد من كــهوف الجبال و في منطقة واسعة نسبياً (جبال لبنان الغربية و أنتـي لبنان و الأمانوس ) بعيداً عن مفهوم الإنتماء للمشاعة الرعوية الأمـومية السائدة عبر كل هذه المنطقة . و يصور النص مدى التآزر بين أفراد المشاعة الأمومية في الصراع المسلح بفضل رابطة الأرحام . و من مظاهر هذا التآزر الموروث اليوم هو مفهوم رابطة الأرحام عند اليهود و الشيعة الإمامية – رغم الإختلاف الجوهري في تطبيقاته و دواعيه بين القومين . و في اللغة العربية ، فإن من معاني مفردة "البطن" هو "العشيرة" أو "ما دون القبيلة" ، من أبناء الأم الواحدة (34).
أما المعنى الثاني للنص أعلاه فهو أن السكان المحليين في أرض الحياة (سوريا-لبنان) قد "تحالفوا في الحرب" مع گلگامش ، و لهذا فقد أضطر خمبابا أن يقاتل وحيداً في المعركة بعد أن تخلى عنه شعبه . وهذا يعني أن الحرب الدعائية لأوروك قد نجحت في كسب ود سكان أرض الحياة خلال هذه الحملة المقدسة و ضمان تعاونهم ، و التي تشتمل فيما تشتمل عليه من أهداف إلى نشر عبادة شمش في بلاد الشام القديمة .
والآن لابد من التساؤل عن العلاقة بين مفهومي "خلود الإنسان" في العالم الآخر و مفهوم تحكم الأنسان بمصيره على الأرض عند السومريين ، لكونهما مترابطين . ألواضح أن هَمّ گلگامش في نيل الخلود هو هَمّ دنيوي محض ، و هذا ما يؤكد أن السومريين كانوا غير مهتمين بالأخرويات أو معولين عليها للظفر بالخلود الأخير ، بل أن العكس هو الصحيح بفضل تركيزهم على حياة الإنسان على الأرض ، و على محصلة عمله فيها و ذلك إنطلاقاً من إيمانهم بكون الإنسان هو سيّد ذاته بشرط إسترضاء الآلهة (القدر) ، و هو الذي يصنع مصيـره و يصنع بذلك نفسه ذاتها ؛ و إعتبارهم الإنسان ذاتاً أرقى من جميع المظاهر الأخرى ، بأستثناء الآلهة طبعاً. أما مفهومهم عن الآخرة فهو أبعد ما يكون عن خيار ثنائية الخلود في الجنة أو النار الذي سيسود بعدئذٍ ، بل هو مفهوم أحادي عن أرض الظلام الواحدة و التي تتفاوت فيها حظوظ الموتى مثلما سنعرف بعدئذٍ .
و بعد أن ينجح گلگامش في نيل بركة شمش ، فإن الأخير "يسخِّر له الرياح : ريح الشمال و الإعصار والعاصفة ، و الرياح الجليدية و الدوامة و ريح الجنوب الحارقة ". و مفهوم "تسخير الرياح" من طرف الآلهة للملوك موضوع بالغ الأهمية الإقتصادية-السياسية بالنسبة للعراقيين القدماء ، لأن اقتصادهم الرعوي-الزراعي-التجاري يعتمد بدرجة كبيرة على مؤاتاة تلك الرياح الجالبة للمطر و مياه الأنهر أو المسببة للجفاف أو الفياضانات المخربة للحقول الزروعة (هبوبها المفيد منها في الوقت المناسب أو عدمه) ، و لإيمانهم بأن غياب مثل هذه المؤاتاة إنما هو مظهر من مظاهر غضب الآلهة (إنليل خصوصاً بإعتباره سيد الهواء) على ظلها في الأرض : ملك البلاد . هكذا يمتزج الفكر الديني بالمصير الإقتصادي و السياسي في علاقة منطقية شكلية .
وبعد أن ينفّـذ گلگامش مشورة أنكيدو في "ترضية شمش" و نيل مباركته و مباركة شيوخ و شباب أوروك للحملة ، يأتي دور أنكيدو لتنفيذ رغبة گلگامش باستحصال مباركة أمه ننسون للحملة و الأستعانة بدالَّتها على شمش . و يبيّن وصف النص للطقس الذي تؤديه الشكل النموذجي لمستلزمات الإتصال بالآلهة عند السومريين : الغسـل ، و التزين بالملبس و الحلي ، و لبس العصابة و إعتمار التاج ، و تسلق سلالم الزقورة -المعبد ، و حرق البخور على السطح ، و من ثم التضرع إلى السماء برفع اليد . و يجمع هذا الطقس بين مراسيم الزفاف و الصلاة . أما إشارة النص إلى "بغايا المعبد" فتقدم دليلاً إضافياً لما نوقش من قبل بخصوص هذه الطبقة من نساء المعبد مثل شمخة اللائي يكتسبن القدسية بفضل ما يجلبن من الإيرادات لإله المعبد (= مجتمع المعبد).
و أخيراً ، تأتي الإشارة إلى ذهاب گلگامش و أنكيدو إلى مصهر المعادن ، و قيام الحدّادين بعقد مجلس إستشاري لهم . هذه الإشارة تبين وجود "نقابة صنف" للحدادين في أوروك على الأقل منذ بداية الألف الثالث ق.م ، و أن الحاجة إلى تصنيع أسلحة جديدة و ثقيلة للمعركة القادمة ( أي إختراع التقنية الحربية الجديدة ) يتم الإيفاء بها عن طريق التشاور الجماعي بين المتخصصين من "أهل الصنف" لتقديم الحلول العملية و ذلك وفق مبدأ "أن الحاجة هي أم الإختراع". و إذا ما أخذنا بعين الإعتبار خلو السهل الرسوبي العراقي من الحديد و النحاس و القصدير ، فإن تطور صناعة التعدين في أوروك لابد أنها كانت تعتمد على إستيراد المعادن عبر النشاط التجاري الخارجي .

ملاحظة / الهوامش سيرد شرحها في الجزء الأخير .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /3
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /2
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
- قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
- حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
- ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
- خَلَفْ
- دِشَرْ
- ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20 ...
- قصة الخنزير البهلوان -نجم-
- رسالة قصيرة


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4