|
قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3327 - 2011 / 4 / 5 - 02:11
المحور:
الادب والفن
بعد أن أنهى "عزيز" تناول فطوره المكوَّن من لفَّة القيمر و الدبس بالصمّون بمطعم "زيّا" في "كانتين" مركز التدريب المهني للطائرات في معسكر الحبّانية ، عاد إلى القاعة المخصصة لمبيت المدرّسين من الجنود المكلَّفين ، و الكائنة في مبنى قاطع الثقافة العامة - أو قاطع المستجدين - مثلما يسميه الطلاب . أحس بالسعادة الطاغية صبيحة يوم الجمعة الآذاري ذاك كما لو كان يستند مكيناً على أنفس كنز ، رغم علمه علم اليقين أنه مجرَّد جندي مكلف براتب قدره سبعة دنانير و نصف الدينار شهرياً ، و في فصيل بإمرة أحد طلابه في المركز برتبة عريف . كان زملاؤه – و جميعهم من الجنود المكلفين من خريجي الكليات العلمية – قد نزلوا من المركز إلى بلداتهم البعيدة أو القريبة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع عائلاتهم و ذلك فور إنتهاء الدوام يوم البارحة ، وبقي هو المدرّس المجنّد الوحيد في القاعة . لم يختر النزول مثل البقية لأنه كان قد عقد العزم على تخصيص يوم العطلة هذا للتمتع بالقراءة المتأنية للعدد الجديد من مجلة "الثقافة الجديدة" الذي إشتراه له قبل يومين زميله و رفيقه أستاذ الرياضيات المجنّد "سريِّح صاحب" من سوق السراي ، و أدخله المعسكر خلسة في فراغٍ مخفي عند كعب حقيبة ملابسه ، و دسّه ملفوفاً بمنشفة حال دخوله قاعتهم في الدرج الأسفل من دولابه ، وهو يتلفت قائلاً : - دير بالك ، رفيق ، ترى هليّام الزنابير صايره هوايا هنا . حصل كل هذا رغم أن من شأن إكتشاف عناصر حزب البعث وجود رائحة للمطبوع المذكورة عند أي جندي داخل المعسكر ، سواء كان جندياً مكلفاً أم متطوعاً ، خريج كلية أم أمياً ، أن يؤدي به إلى الإعدام رمياً بالرصاص حسب القانون و الأصول الثورية للحزب الطليعي الحاكم قائد النضال الثوري و التقدمي للأمة العربية . أقفل "عزيز" باب القاعة بالقفل الحديدي من الداخل ، و إستلقى على سريره ، و تناول المجلة الملفوفة ، و أخرجها من المنشفة ، و راح يلتهم صفحاتها إلتهاماً . أعجبته خصوصا قصيدة : "هذولا إحنا ، زلم خشنين تدرينا " ، و أسف لأنه لم يستطع حفظها كلها لطولها . و عندما أنهى قراءة الغلاف الأخير من المجلة ، إنتبه حوله ، ثم نظر إلى ساعته : الثانية عشرة ظهراً . لقد أمضى خمس ساعات متواصلة يتفاعل بلذّة مع النصوص التي تفتن العقول بتحدٍ و ذلك في إنقطاع تام عن العالم الخارجي . طوى المجلة بيده ، وفتح قفل باب القاعة ، ونظر حوله : لا يوجد أحد . أسرع إلى غرفة الحمامات ، و ولج إحدى المرافق ، وراح يمزّق – و هو محروق الفؤاد – مَلازِم المجلة ورقةً ورقة ، ثم أحرقها و هو يتطامن بقامته ليرقب المكان بوجل . و بعد إكتمال تفحم كل الأوراق جيداً ، كنس آسفاً رمادها المتكرمش نحو فتحة المرافق ، و فتح صنبور المياه بأقصى طاقته ، و تركه مفتوحاً ، و أنزل زر مروحة التهوية الضخمة ، و عاد إلى قاعته . فجأة أحس بالجوع و الوحدة ، و بدأ الكدر يزيح تدريجياً مشاعر اللذة القريبة العهد ، ففكر بالنزول إلى بغداد لتزجية الوقت ، و العودة للمعسكر مساء . أخرج كل النقود التي لديه : خمسمائة و خمس و سبعون فلساَ . طيب : بما أن معاشهم الشهري سيدفع يوم السبت بكرة ، فإن المبلغ الذي في حوزته سيكفيه للنزول إلى بغداد بخمس و سبعين فلساً لتناول وجبة لذيذة من طبق أكباد الدجاج بالسوب بمبلغ سبعين فلساً في مطعم "شمعون" ، و مشاهدة فلم جديد في سينما "غرناطة" أو "الخيّام" أو "سمير أميس" بمبلغ مائة و خمسين فلساً ، و من ثم تناول طعام العشاء عند "أبو يونان" بستين فلساً ، و العودة مساء بباص المرسيدس 18 راكب بخمس وسبعين فلساً أخرى . فإذا ما إختار المشي كعادته لإرتياد كل تلك الأماكن بدلاً من ركوب باص مصلحة نقل الركاب ، فسيتبقى لديه ما يكفي لفطور اليوم التالي قبل توزيع الراتب الشهري ! إرتدى بذلته العسكرية الزرقاء و حذاءه الأسود الخفيف و سدارته ، فومضت في ذهنه الذكرى العطرة للشهيد عبد الكريم قاسم . توجه نحو باب النظام للمعسكر ، و سلّم على حرس باب النظام عند الخروج ، ثم انعطف نحو مرأب الباصات القريب . كان سائق باص المرسيدس ينادي : واحد بغداد ، واحد بغداد ! ركب الباص ، و جلس على المقعد الأول المتحرك ، و بدأت السفرة نحو بغداد الجميلة . عند وصوله مرآب علاوي الحلة ، ترجل متوجهاً نحو جسر الأحرار . لم يكد يقطع بضع خطوات حتى قابلته إمرأة متوسطة العمر ، تحمل بيدها الممتدة من العباءة إضبارة ضخمة ، و كلمته بعيون دامعة قائلة : - عيني أبو خليل ، خويا ، فدوى أروحن إلك ، آني أخيتك جاية من الناصرية ، و صار لي تلثتيّام هنا إبّغداد ، عندي هاي معاملة شهادة الجنسية ، وخلّصِتْ فلوسي كِلْهن هنا ، و المعاملة المَهَجومة بعدها ما خلصت لَلحين ، و ما بقت عندي كروة أرجع للبيت ! ساعدني الله يساعدك ! آني أخيتك مريّة غريبة هنا ! حَسَنة في سبيل الله ، و صَدَقة عن راسك ! شوف بعينك : هاي هي المعاملة ! شعر عزيز بالدنيا تدور حوله ، و لم يعد يستطيع رؤية أي شيء ؛ فمد يده باستجابة شرطية إلى جيبه ، و أخرج ورقة النقد من فئة خمسمائة فلس من جيب بنطاله ، و سلمها للسائلة دون أن ينظر إليها ، و أسرع بالإبتعاد عنها كي لا يسبب المزيد من الإحراج لها ، و قد تناهى إلى مسامعه دعائها له : - رحم الله البطن اللي نِگلتك ، خويا أبو خليل ؛ أدعو من ربّي الكريم يوفّقك ، و يطوّل عمرك ، و يحفظك من شر التايهات ، آمين يا رب العالمين ! عندما بلغ عطفة الشارع الكائنة أمام المتحف العراقي ، عاد الدم إلى رأسه ، و شعر بالغبطة لمقدرته على مساعدة السائلة بكل ما يحمل في جيبه ، ثم توقف ، و راح يبحث في جيوب بذلته ! لم يبق لديه و لا حتى فلس واحد ! ما العمل ؟ بسيطة ، ليتوجه نحو مقهى "شط العرب" في الشارع الفرعي الكائن قبل "أسواق الأوروزدي" ، و لا بد له أن يجد هناك أحد أصدقائه العديدين من طلبة الجامعة يقرأ دروسه فيها ، فيستلف منه أجرة العودة إلى معسكر الحبّانية ، و ينتهي الأمر على خير ! كما أن بمقدوره البقاء بدون غداء و لا عشاء و لا فطور حتى موعد صرف الراتب بكرة ! أسرع الخطى و هو يتلفت متبحّراً في وجوه المارّة ، و يحس بالحرج الشديد . عَبَر جسر الأحرار و الريح القوية تعصف وجهه ، و راقب طيور النورس البيضاء بلون الورد الجالسة بسعادة على نسيج صفحة المياه المتماوجة و كأنها صفوف من شتلات القدّاح . توجه بخطى سريعة نحو مقهى "شط العرب" القريب ، و دخله مترقباً . فتّش في وجوه جلاس المقهى ، فلم يلحظ وجهاً يعرفه ، و راح بعضهم يخزره بارتياب! كرّر التنقل بين ممرات موائد الجالسين و هو يرهف السمع و البصر عسى أن يرى أو يسمع نداء الخلاص يأتيه من مكان ما ، و لكن ما من عريف و لا منادي ! مالعمل ؟ نظر إلى ساعته : الثالثة بهد الظهر . ترك المقهى ، و عبر الشارع متجهاً نحو سينما "روكسي" المقابلة ، وهو يمنّي النفس بلقاء أحد معارفه خارجاً من عرض الساعة الواحدة ظهراً ! إزدادت قوة الريح ، فوضع كفّه فوق حاجبيه وهو يبحلق بالناس من دون طائل ! ندم على تسرعه الأحمق بهبته لكل ما في جيبه دفعة واحدة . و و جد نفسه و هو يخاطب نفسه بالقول : - إي ما معقولة أطلِّع لها النص الدينار ، و أگول لها : هاچ هذا نص دينار ، و رجِّعي لي منه ربع دينار . إمنين تجيب المگرودة خردة نص دينار و هيَّ ما عدها و لا فلس واحد ؟ وقف عند عمود و هو يتفرس في وجوه الرائحين و الغادين حتى خلا الشارع من المارة . عبر الشارع مرة أخرى ، و استند إلى جدار مخزن "دنيا" لبيع القمصان ، كل المخازن مغلقة في هذا اليوم ، و حتى الأرصفة أصبحت خالية وسط الريح . فكر بالمشي نحو سوق الهرج بالحيدرخانة لبيع ساعة يده "الجوفيال" هناك . نعم ، هذا هو الحل ! بحلق في ساعة يده كأنه يريد إلقاء نظرة الودائع عليها ، فلمح ورقة حمراء لامعة و هي تحط عند حذاءه . إنحنى و التقطها خطفاً : أنها ورقة نقدية من فئة الخمسة دنانير ! بقي ممسكاً بطرفها ، و راح ينظر يمنة و يسرة . ما من أحد من المارّة ! لا بد له أن يتلبَّث في مكانه ممسكاً بطرف الورقة شاخصة للعيان بعض الوقت ، عسى أن يراها في يده من أضاعها أو من تكون قد طارت منه ، فيعيدها إليه ؛ و يستطيع إقتراض مائة فلس منه للعودة إلى المعسكر . مسكين صاحبها ، لابد أنه في حيرة من أمره الآن . لبث "عزيز" نصف ساعة واقفاً يستند إلى جدار مخزن "دنيا" ، و هو يمسك بطرف الورقة النقدية بثبات ، و قد ازداد صرير الريح ، و امتلأت جفونه بالغبار ، و لكن ما من سائل عن الخمسة دنانير . وضع الورقة النقدية في جيبه ، وقد عزم على أمر ما . عبر الشارع ، و أنتظر مجيء باص "فورد" الخشبي إلى "الكاظمية" . دقائق و لاح الباص الخشبي ؛ أشَّر له ، و أستقلَّه . لم يكن "عزيز" يثق إلا بالقليل جداً جداً من رجال الدين ؛ و لكن "سيد شهيد" شيخ مسجد "البهلول" كان في مقدمة أولئك الموثوقين ! لقد كان مثالاً لرجل الدين المتنور ، الفقير الحال ، الغني النفس ، و الذي يقطر علماً و تواضعاً . كان "عزيز" قد تعرَّف عليه عن طريق إبنه طالب الطب "حسين" ، أحد رفاقه في "إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية" ، فأسره بسحره من أول لقاء ! دخل المسجد ، و نزع حذاءه عند باب المصلّى . رفع رأسه ، فابتهج لمرأى السيد "شهيد" الجالس لوحده على فراش الأرضية و هو يسبِّح . توجَّه نحوه ، و سلّم عليه ، و أنحنى لتقبيل يده ؛ و لكن السيّد سحبها بقوّة ، و قام نصف قيام ، و عانقه . جلس "عزيز" بين يديه ، و حكى له قصته من الألف للياء ، و عرض عليه إعطاءه الخمسة دنانير كلها ناقصاً العشرين فلساً أجرة الباص ليتصرف بها حسبما يشاء ، و أن يقرضه مائة فلس للعودة للمعسكر . ما أن أنهى "عزيز" كلامه ، حتى بانت الإبتسامة العريضة على وجهه ، و قال : - بارك الله فيك ، يا ولدي عزيز ! أنّك يا ولدي من أحباب الله الذي أثابك ثواباً معجّلاً ، فأعطاك الحسنة بعشرة أمثالها ! و مثلي لا يأخذ عطية الله من عباده ! إستبقِ المبلغ لديك يا ولدي لقضاء حاجاتك بمنّة الله عليك الآن ، ثم تصدَّق به على المستحقين حالما يرزقك الله بنعمته التي وسعت كل شيء ! بابل 4/4/2011
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
-
ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
-
خَلَفْ
-
دِشَرْ
-
ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20
...
-
قصة الخنزير البهلوان -نجم-
-
رسالة قصيرة
المزيد.....
-
دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار
...
-
تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025
...
-
-خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
-
لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا
...
-
حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة
...
-
التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
-
“رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس
...
-
الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
-
أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين
...
-
75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|