كمال غبريال في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: العلمانية وثقافة السلام في مواجهة الأصوليات المتوطنة بالشرق الأوسط


كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 3185 - 2010 / 11 / 14 - 12:40
المحور: مقابلات و حوارات     

أجرى الحوار : حميد كشكولي


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 14 - سيكون مع مع الأستاذ كمال غبريال حول: العلمانية وثقافة السلام في مواجهة الأصوليات المتوطنة بالشرق الأوسط.



1. يجري الحديث منذ فترة عن قضية قبطية في مصر، فكيف ظهرت، وما الخلفيات التاريخية لها؟ وهل هناك تمييز ديني في مصر؟


يرجع ما يحدث في مصر الآن ويمكن تسميته بقضية قبطية إلى قسمين رئيسيين، أولهما تمتد جذورة في التاريخ إلى القرن السابع الميلادي، فلقد اضطهد الغزاة العرب المصريين متسيدين عليهم ومستنزفين مواردهم ، ولم يسلم من هذا الوضع بداية حتى من أسلموا من المصريين، وإن كان الاضطهاد قد تركز مع الوقت على الأقباط الذين تمسكوا بمسيحيتهم. . ولقد اختلفت وطأة ذلك الاضطهاد من عصر إلى عصر، ونستطيع أن نقول بصفة عامة أن فساد الحكم العربي أو المملوكي لمصر كان يعم بسوءاته على جميع المصريين، لكن يختص المسيحيون بنصيب أوفر من سوء الأحوال الناجم عن الاضطهاد والاستهداف. . وأن تحسن الأحوال أيضاً كان يعم على الجميع، وإن بقى هامش من التضييق يلازم الأقباط المسيحيين، حيث تسمية أقباط كانت في البداية تنسحب على جميع المصريين بغض النظر عن دينهم، فيما هي الآن تستخدم للإشارة للمصريين المسيحيين فقط. . نعم تحسنت أحوال الأقباط مع بداية حكم أسرة محمد علي، التي سعت لتأسيس دولة حديثة في مصر، وقد زاد هذا التحسن أثناء ثورة 1919 وما عرف بالفترة الليبرالية في مصر، وكانت الأحوال تنزع للتحسن المستمر، مع التقدم الحضاري للمجتمع المصري ككل. . لكن تبقى حتى منتصف القرن العشرين الكثير من النقاط التي تحسب في عداد التمييز الديني ضد الأقباط، لكنها لا تصل إلى درجة توصيفها بالاضطهاد. . مع بداية حكم ما سمي بثورة أو انقلاب يوليو 1952 يبدأ الجزء الثاني من قضية الأقباط، الذين تراجع وضعهم الوطني في المجال السياسي، نتيجة فكر الإخوان المسلمين الذي انطلق منه العديد ممن تسموا بالضباط الأحرار الذين حكموا البلاد، رغم المظهر العلماني الذي اتخذته المرحلة الأولى من حكم رجال الانقلاب، أي مرحلة جمال عبد الناصر. . لكن الأحوال في ظل خليفته السادات قد تدهورت كثيراً من هذا الجانب، فهو لميوله الفاشية المبكرة، علاوة على محاولته توظيف تيار الإسلام السياسي لصالحه، ترك الساحة المصرية لتلعب بها مختلف الجماعات الإسلامية كما تشاء، فتأسلمت العديد أو حتى كل مؤسسات الدولة، واتسم أداؤها بالعنصرية والتعصب، ليأتي خلفه مبارك بسياسة مهادنة مع التيارات التي اغتالت سلفه، تجمع بين التوظيف والنفاق والمزايدة والقمع المحدود، لنشهد ما نشهد الآن من توترات وجرائم ترتكب في حق الأقباط والوطن، ولا تبدو الدولة قادرة أو راغبة في وقفها واجتثاث جذورها. . مع ذلك فإننا حتى الآن لا نستطيع توصيف ما يحدث للأقباط على أنه اضطهاد منظم ومتعمد، إذا يكفي أن نقول عنه تمييز ديني، علينا كمصريين جميعاً أن نسعى إلى براءة بلادنا ومجتمعنا منه.

2. ما أسباب هيمنة الظلامية والفكر الديني المتعصب على معظم مناحي الحياة في مصر التي كانت مهدا للنهضة العربية الحديثة؟

النهضة الحضارية المصرية مع بداية القرن التاسع عشر هي ما يشير إليه السؤال على ما أعتقد، ولقد حققت هذه النهضة الكثير لمصر وللمنطقة المحيطة من الوجهة الحضارية، بل وأستطيع القول أنها مازالت تحقق وستحقق الكثير رغم ما يعترضها من عقبات وما تواجهه من انتكاسات. . لكننا لابد وأن نتساءل عن ضعف وهزال نتائج هذه النهضة، مقارنة بنهضات متزامنة لأمم أخرى، كما يحق لنا بالفعل أن نتساءل عن سر هيمنة الفكر الظلامي، بالتواكب من النهضة الحضارية المادية الملموسة في جميع مناحي الحياة المصرية.

الحقيقة أن هذه النهضة لم تكن نبتاً طبيعياً للتربة الثقافية والاجتماعية المصرية، وإنما يصح القول أنها كانت نهضة مصطنعة ومفروضة من قبل حكام أسرة محمد علي، الذين استهدفوا إنشاء مملكة لهم على الطراز الغربي، ونستطيع القول أن استجابة المصريين لمحاولة التحديث هذه كان ضعيفة وعلى مضض، لذلك لم تذهب بعيداً في تغيير مفاهيم وحياة المصري، إلا بالقدر الذي تحتمة تغيرات الظروف المادية، من تغيرات مماثلة في الفكر وطرائق الحياة. . في ثلاثينات القرن الماضي ظهر حسن البنا بجماعة الإخوان المسلمين. . حدث هذا في أوج الفترة الليبرالية المصرية، وقد لاقت دعوته الرواج ليس فقط بفضل التمويل المالي الذي جاءه من السعودية، لكن بالأساس لأنه بَشَّر الناس بمنهج فكري فاشي ومتعصب هو الأقرب لثقافتهم، لينتصر على المد الليبرالي المصطنع والمجلوب بواسطة صفوة تعرفت على قيم الحداثة والحرية الغربية بمجهوداتها الفردية، وحاولت أن تجلبها لوطنها، الذي لم تكن تربته مهيأة لاستقبالها، فتوارت الحداثة لصالح دعوات الرجوع إلى ما كان قبل أربعة عشر قرناً مضى. . فمحاولات النهضة أو التحديث بقيت طوال الوقت هامشية، وتتركز في المدن الصناعية الناشئة، ولم تتغلغل لتصل للريف بعمقه السكاني وجذورة الثقافية، ثم مع تزايد معدل الهجرة من الريف للمدن، حدث تريف لهذه المدن، التي عجزت عن تمدين الطوفان الوارد من الريف. . حتى الآن مازال التريف يفعل فعله في المدن المصرية، كما أن آلية التمدين والتحضر تمارس أيضاً فعلها. . هو صراع يدور بمصر حالياً بين الماضي والحاضر. . بين التمدن والتخلف.



3. لكم تعبير" المواطنة العلمانية" وتعني به أن يمتلك كل مواطن الوطن بكامله وأن تتسم العلاقات بين فئات المجتمع بالحوار لاكتشاف أفضل السبل لتحقيق هذا الامتلاك الكامل للوطن، ما آلية ذلك؟

الآلية التي تنشدها تعمل الآن بالفعل، وهي مع الأسف آلية خارجية، تتمثل في ارتباطنا بالعالم، الذي يعيش عصر الفرد وليس عصر المجموع أو الكيانات الاعتبارية التي ينسحق تحت وطأتها الفرد. . الآن صوت الإنسان الفرد وحقوقه يعلو على كل ما كان من قبل مقدساً، ليصير الإنسان هو المقدس الوحيد. .هذا انتقل إلى عالمنا المصري، رغم ما يظهر من تدهور وسيادة للفكر الظلامي. . البسطاء الآن في مصر يخرجون للتظاهر والتنديد بقرارات حكومية يرون فيها (ولو على غير حق) تعدياً على حقوقهم. . الشعارات القديمة التي تتغنى بالوطن ككيان اعتباري قد فقدت بريقها، ليحل محلها مساءلة هذا الوطن عما حققه من مصالح للإنسان الفرد. . في هذا الشأن مثل كل شأن جديد، نقول أنه موجود، لكننا نتساءل عن معدل التقدم باتجاهه. . فالتقدم البطيء هو بالتأكيد تأخر محقق.

4. ما دور العلمانية في الجدل الدائر حول علاقة الدين بالدولة؟ وكيف تقييم العلاقة بين الكنيسة القبطية والدولة في مصر؟

السير باتجاه العلمانية هو ذات الطريق نحو تأسيس دولة حديثة حقيقية، ونعني بها الدولة التي تتوافق مؤسساتها الحداثية الشكل، مع المضمون الثقافي الذي تعمل بموجبه، ونحن في منطقتنا عموماً قد استوردنا -أو فُرِضَ علينا- شكل الدولة الحديثة، لنديرها بمضمون ثقافي متخلف، يعتمد على الفكر الذي كنا نعيش به في ظل الكيانات القائمة على دعاوى دينية أو عنصرية، وهذا هو السر وراء فشل دولنا ومؤسساتنا في تحقيق التقدم المرجو لشعوبنا. . نحن جميعاً باختلاف انتماءاتنا متمترسون ومتحصنون في قواقعنا الدينية والقبائلية، نرفض ونخاف مغادرتها إلى فضاء الحرية والعلمانية الرحب، وأصحاب المصالح المسيطرين يتولون محاصرة وتكفير وتخوين كل من يحاولون الخروج عن السياق. . هذا هو حال العلاقة بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبين الدولة العلمانية شكلاً والدينية مضموناً. . تفضل الدولة التعامل مع مكونات دينية تجيد التعامل مع قياداتها، على أن تتعامل مع ملايين من الأفراد الأحرار الذين يطالبون بحقوقهم في وطن حديث ومتقدم، وقيادات الكنيسة بالطبع لا تريد أن تتخلى عن سلطانها وامتيازاتها، لتتوارى داخل الكنائس تؤدي الصلوات. . إن أي خلافات تظهر بين الكنيسة وبين الدولة هي خلافات هامشية تماماً، فالتوجه الاستراتيجي للطرفين واحد، وهو إحكام القبضة على رقاب الملايين، لسوقهم كقطيع أخرس، ينساق صاغراً إلى حيث يقوده أسيادة المقدسون دينياً أو سياسياً. . هكذا يكون ضرب ذلك التحالف غير المقدس بين حامل السيف وحامل النص المقدس، هو الخطوة الأولى لتحرر الإنسان المصري أو إنسان هذه المنطقة عموماً، وللتقدم للسير باتجاه العصر، الذي هو عصر العلمانية.

5. صرحتم مرة أن السلام الشامل مع إسرائيل سيحل كل مشكلات المنطقة، كيف يمكن تحقيق هذا السلام وكيف سيحل مشكلات المنطقة؟

إذا كنا نتساءل عن كيفية تحقيق السلام، فإن السلام يمكن أن يتحقق بواحد من طريقين، أو بمزيج بينهما، أولهما أن ترغب شعوبنا في السلام عن اقتناع ومحبة لخيار السلام، باعتبار السلام هو البيئة الوحيدة المناسبة للسعي نحو تقدم ورخاء شعوبنا التي ترزح في الفقر والجهل والمرض. . الوسيلة الثانية هو أن يفرض العالم علينا هذا السلام فرضاً، عبر تقليم أظافرنا، وسوقنا مكبلين للسير بأدب ولياقة وحسن سلوك. . هكذا يبدو كلا الطريقين أو الوسيلتين بعيدتي المنال، فمن الصعوبة بمكان أن نقتنع بخيار السلام، في ظل ثقافة عروبية تعادي الآخر غير العربي، وتعتبره عدواً متربصاً. . كما يستحيل خيار السلام في ظل رواج تيار الإسلام السياسي، الذي يعادي اليهود والنصارى إلى يوم الدين على أسس دينية دائمة وباقية بقاء الدين ذاته، لتكون الخلافات حول الأرض الفلسطينية أو الحقوق المسلوبة مجرد تعلة أو ورقة توت، لا تكاد تخفي العورة المقدسة لذلك الصراع الأبدي بين الذين آمنوا والذين كفروا. . أما الطريق الثاني المتمثل في فرض العالم للسلام علينا، فنحن نشهد تعثره الآن، حيث تنجح الضغوط الخارجية على أنظمة الحكم، لإجبارها على حسن السلوك، لكنها تكاد تفشل في مواجهة تنظيمات شعبية مارقة، ترفدها أنظمة مارقة أيضاً بمقومات الحياة.

هذه هي الصورة لأرض الواقع الحالي، والتي تختلف عن نظرة فوقية بانورامية، ترى المشهد اللحظي كنقطة ضمن مسيرة إنسانية ممتدة من الماضي إلى المستقبل. . فلحسن حظنا أن شعوبنا أعجز من أن تمتلك مقومات السيطرة على حاضرها ومستقبلها، نحن نمتلك بعض العناصر والمقومات، لكنها غير كافية للتحكم في المحصلة النهائية لمسيرتنا على المدى الطويل، وهي المسيرة المرتبطة بالضرورة بالمسيرة العالمية. . النظرة البانورامية تخبرنا أن مسيرة الإنسان عبر التاريخ تتجه دوماً للتقدم للأمام من منظور الإنجاز الحضاري، رغم ما يعتريها من تراجعات وانتكاسات مرحلية، وهذا يعطينا الثقة في أن المصير هو توطن السلام في هذه المنطقة التي تنتهبها الآن دوامات وتيارات عديدة، فالمصير لابد وأن يتطابق مع مصير سائر شعوب الأرض. . مهما بلغ تخلفنا وعجزنا وتعصبنا، فلن نستطيع الصمود طويلاً في مواجهة موكب الإنسانية.
 

هل من الجائز أن نتساءل كيف سيحل السلام مشكلات المنطقة؟
السلام شرط ضروري ولكنه غير كاف بالطبع لحل مشكلاتنا، فمعركتنا الحقيقية هي في مجال التنمية بمختلف مناحيها، التنمية البشرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. . بغياب السلام نغيب تماماً عن ساحة معركتنا الحقيقية، لكن هل تحقيق السلام كاف لنجاحنا في التنمية؟

لو نظرنا للتجربة المصرية في السلام مع إسرائيل، سنجد أن السلام قد وفر لنا البيئة المناسبة للسعي نحو التنمية، لكن ما حققناه كمصريين من نجاح لم يكن بحجم الفرصة المتاحة لنا، ويرجع هذا إلى عاملين، أولهما تدخل التيارات العروبية والإسلامية المعادية للسلام، والتي تعوق التعاون المثمر مع قوى الحداثة والحضارة وفي مقدمتها إسرائيل، وثانيهما عوامل عجزنا الذاتي وهي عديدة، وقد يتاح لنا تلافي بعضها لو أخلصنا العمل والتوجه، ليتبقى بعضاً قد يستعصي على المعالجة!!