حرب أكتوبر والمفارقة الكبرى


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 6735 - 2020 / 11 / 17 - 08:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا شك فى أن الجماهير المصرية والعربية قد استقبلت بفرح غامر أخبار معارك أكتوبر عام 1973 والنجاح فى عبور قناة السويس والسيطرة على خط بارليف، ورأت فيه ردا ساحقا على مرارة هزيمة 1967 وتحطيم أسطورة إسرائيل التى لا تقهر. لقد أدت الحرب بالفعل إلى تحطيم نظرية الأمن الإسرائيلى وأدت إلى تحريك الأزمة الخامدة وبدء الزيارات المكوكية لكيسنجر إلى مصر للبحث عن حل سياسى للأزمة.
ولكن المفارقة الكبرى تكمن فيما حدث فى أعقاب هذا "الانتصار". كانت البداية بإعلان السادات فى 16 أكتوبر 1973 "ماحاربش أمريكا"، ثم بإعلان حرب أكتوبر آخر الحروب بينما إسرائيل مازالت تسيطر على معظم سيناء. وجاءت اتفاقية الفصل الأولى بين القوات فى أعقاب الحرب مباشرة لتقرر انسحاب إسرائيل من الثغرة وحصار السويس فى مقابل العبور العكسى للقوات المصرية من سيناء إلى غرب القناه تاركة فى سيناء فقط 30 دبابة ومقاتلين بالأسلحة الشخصية!
ولكن الأفدح من هذا كان إعلان السادات فى يناير 1974 لورقة أكتوبر التى لا تكتفى بتقنين أكتوبر كآخر الحروب، ولكن أيضا تزيد على ذلك التغير الشامل فى السياسة المصرية بعهد السلام وانتهاء الحرب مع إسرائيل وإعلان الصداقة مع أمريكا والرجعية العربية. أما فى السياسة الاقتصادية فبشرت بالانفتاح الاقتصادى وانتهاء سياسات "عهد الانغلاق" وتحرير التجارة الخارجية والاستثمار الخارجى.
ما هو السر فى أن "الانتصار العربى الكبير" على إسرائيل ينتهى بتحقيق مطالب الغرب من مصر؟ ما علاقة حرب أكتوبر بما تلاها من سياسات الاستسلام الشامل لمصر لمطالب الغرب؟ فى الحقيقة هذا يعود بنا إلى أهداف حرب 1967. والحرب، كل حرب هى امتداد للسياسة بطريقة أخرى كما يقول كلاوزفيتز، فهل كانت أهداف حرب 1967 هى التوسع الإسرائيلى واحتلال أراض عربية؟
لم تكن حرب 67 مجرد حلقة فيما سمى بالصراع العربى الإسرائيلى ذات أهداف توسعية، ولكنها كانت حلقة حاسمة فى المواجهة الإمبريالية مع حركة التحرر الوطنى العربية. وكما اتضح فيما بعد فإن الإعداد لحرب 1967 بدأ منذ 1963 بين أمريكا وإسرائيل فيما عرف بعملية "اصطياد الديك الرومى".
كان العالم العربى وقتها منقسما بين التيار القومى بزعامة مصر، والذى ساهم فى مساعدة نشأة أنظمة قومية فى العالم العربى متحررة من الاستعمار فى الجزائر واليمن، ومعسكر الرجعية العربية التابع للاستعمار بزعامة السعودية. شن المعسكر القومى هجوما كبيرا لقى استجابة جماهيرية ساحقة فى الوطن العربى كله، وساعد حركات التحرير العربية والأفريقية والعالمية، فضلا عن اتباع سياسات للتنمية المستقلة نسبيا عن الاستعمار.
كان تغيير تلك السياسات هو سبب أمريكا لشن الحرب، وغنى بالذكر التقاء هذا بمصالح إسرائيل فى تأمين وجودها فى مواجهة الدعاية الناصرية الجماهيرية فى العالم العربى، وفرض وجودها على العالم العربى وقبوله لها واشتراكها فى استغلاله اقتصاديا، وتحقيق التوسع الإقليمى كلما كان ذلك ممكنا. كانت تلك الأهداف تتلخص فى فرض خريطة أمريكية استعمارية جديدة للمنطقة متخلصة من كل محاولة لمعاداة الاستعمار، وللتنمية المستقلة نسبيا.
لم تؤدِ الهزيمة الساحقة فى حرب يونيو إلى الاستسلام الفورى لتلك الأجندة الاستعمارية، ولكنها بدأت تدريجيا تؤتى أكلها. كان رد الفعل الأولى فى مؤتمر القمة العربى فى الخرطوم فى أغسطس 1967 متمثلا فى اللاءات الثلاث الشهيرة برفض الاعتراف بإسرائيل ورفض التفاوض معها، وتعهدت السعودية ودول خليجية بدعم مصر والأردن ماليا تعويضا لهما عن الخسائر الاقتصادية للحرب.
كسبت الرجعية العربية بالطبع تأمين استقرارها السياسى بالتخلص من الدعاية القومية ضدها، وظهر هذا فى الاتفاق على انسحاب القوات المصرية من اليمن وتحقيق مطالب السعودية فيها. واتضح بالطبع الغرض من هذا التكتيك السعودى فى الرسائل السرية التى أرسلها الملك فيصل إلى الرئيس الأمريكى حول العلاقة مع مصر وكيف أنها لا تسمح بغرق مصر ولا بتعويمها ولكن أن تظل بين بين، وتشجيعها من خلال المساعدات على التهادن التدريجى.
وكان أول مكسب حققته إسرائيل من حرب 67 هو اعتراف مصر بها عمليا من خلال الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 242 الشهير لسنة 67. لم يعد الهدف حتى على مستوى الدعاية هو تحرير فلسطين بل تحرير الأراضى المحتلة فى 67. لم تكن رغم ذلك معدلات تنازلات الدول العربية للأهداف الغربية سريعة، لذلك لم ترَ أمريكا بأسا فى ترك الأمور تنضج على نار هادئة، حيث الاحتلال الإسرائيلى يضغط على مصر (مع غيرها) اقتصاديا وسياسيا وجماهيريا.
لذلك وضعت القيادة المصرية خطة لحرب محدودة لتحريك الأزمة، بدلا من الخطة التى طرحتها القوى التقدمية المصرية والعربية بشن حرب تحرير شعبية طويلة الأمد على غرار فيتنام. عمل السادات، بالمشاركة مع سوريا ومعرفة الملك فيصل، على شن حرب أكتوبر لتحرير عشرة كيلومترات بطول القناه (أى أقل من 5% من مساحة سيناء) حتى تفرض على الغرب تحريك الأزمة التى تهدد النظام المصرى، خصوصا فى ظل الانتفاضات الجماهيرية السنوية التى تطالب بتحرير الأرض.
بالطبع استبسل الجنود والضباط المصريين فى الحرب من أجل استرداد الكرامة وتحقيق التحرير، ولكن خنقت الأهداف المحدودة للحرب من قبل النظام كحرب تحريك للأزمة تلك الآمال. وتحت ظلال الحرب قبل السادات مطالب أمريكا والغرب، سواء سياسيا بتوقف آية سياسة أو دعاية معادية للاستعمار فى العالم العربى وأفريقيا وغيرها، أو بالعدول عن السياسات الاقتصادية التى تحاول "التنمية" وفتح الأسواق واسعة أمام التجارة والاستثمار الأجنبيين.
صدقت مخاوف الجماهير المصرية والحركة الطلابية المصرية أعوام 1972 و1973 حينما كانت تهتف: "ياخوفى يوم النصر نكسب سينا ونخسر مصر"!