ليبيا بين الانتخابات والتقسيم الإخواني


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7321 - 2022 / 7 / 26 - 00:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يتصور من يطالع الكثير من الأخبار والتحليلات الجارية في الصحافة أن الحل "السهل" و"الواضح" للوضع في ليبيا هو الديمقراطية وتوحيد البلاد من خلال انتخابات ديمقراطية، وبالتالي فسبب المشاكل هو القوى المعرقلة للانتخابات، والتي تتعدد فيها الآراء. ولكن هذا التصور المبسط يتعالى على التناقضات الحقيقية للوضع الليبي، وبالتالي يعجز عن اتخاذ موقف من الوضع الراهن وقواه المختلفة.
بالطبع أصبح من المفهوم بشكل واسع أن السبب الرئيسي للمشكلة في ليبيا نتجت عن عدوان الناتو الذي أسفر عن تحول ليبيا إلى دولة فاشلة ومجتمع مُقَسَّم، مع عودة الميول القبلية، غير التدخلات الخارجية، والاختلافات السياسية؛ كما أن الأطراف المختلفة مدججة بالسلاح بحكم الأسلحة التي ألقتها طائرات الأطلنطي، وبحكم الأسلحة التي نهبت من مخازن جيش القذافي بعد سقوط وتحلل الدولة.
ليبيا دولة ريعية بترولية شديدة الثراء من حيث الأساس، تعد تاسع دولة في العالم من حيث الاحتياطي النفطي، بنوعية نفط جيدة وقرب من أوروبا. وهى دولة فائقة المساحة (1.8 مليون كيلومتر مربع) ونادرة السكان ( 6مليون نسمة). وتأثرا برياح الموجة القومية التي أطلقتها الناصرية قام فيها نظام "جمهوري" منذ 1969، قام بإجلاء القواعد الأجنبية وبناء جيش ومحاولة إقامة مجتمع حديث وصناعة متوسطة.
لكن ليبيا تميزت عن كل الخليج باستخدام ريع النفط في تحقيق أفضل رعاية اجتماعية لمواطنيها تفوق حتى دول الرفاه الاجتماعي غرب أوروبا من حيث مجانية التعليم حتى الدكتوراه في الخارج، مجانية العلاج، ومجانية السكن والمرافق من مياه وكهرباء، حتى بلغ مؤشر التنمية البشرية بها 0.896، أي مؤشر تنمية بشرية شديد الارتفاع. ولكنها كانت نظاما استبداديا، مع تحكم لقبيلة القذاذفة، وحتى لأسرة معمر القذافي نفسه. كما رسخت التمييز ضد الأقلية الأمازيغية، مع حرمانها من التعليم والإعلام باستخدام لغتها الخاصة. وجاء رد فعل الثورات العربية على ليبيا في صورة انتفاضة محدودة في بني غازي، وكان المتوقع أن ينجح النظام الليبي في قمعها، لولا انتهاز الغرب، أمريكا والناتو، الفرصة لاحتلال ليبيا واقتسام خيراتها.
تدخل الناتو بكل قوته، وأسقط نظام القذافي، و"نجح" في احتلال ليبيا وتقسيم ثرواتها وامتيازاتها البترولية، وعلى حساب تحويلها إلى دولة فاشلة ومجتمع منهار، ورجوع إلى الصراعات القبلية والجهوية المدججة بأسلحة الناتو وأسلحة جيش القذافي المنهوبة من مخازنه، ودعم الإخوان المسلمين وفتح الباب واسعا أمام الإرهابيين الإسلاميين من كل نوع، في إطار خطته للتحالف مع الإسلام السياسي لإسقاط الدول العربية وتفتيتها والسيطرة عليها وعلى مواردها.
ومثلما حدث في الدول الأخرى التي مرت بثورات وانتفاضات فيما عرف بالربيع العربي، فإن الجماهير التي اكتسبت وعيا ضد فساد واستبداد النظام السابق وانتفضت وثارت عليه، لم تمتلك وعيا يفرق جيدا بين المعارضة الديمقراطية واليسارية، والمعارضة الليبرالية، والمعارضة الإسلامية. على العكس منحوا أصواتهم في البداية للمعارضة الإسلامية، ولم يدركوا أن تلك هي المعارضة المتحالفة مع الغرب من أجل تفتيت أوطانهم ونهبها. فازت المعارضة الإسلامية بأكثرية الأصوات (41%) في أول انتخابات في ليبيا بعد الثورة في يوليو 2012، انتخابات المؤتمر الوطني العام.
أيضا مثل أغلب الدول العربية، فقد هؤلاء الإسلاميون الكثير من مقاعدهم في ثاني انتخابات، فلم يفز الإسلاميون في انتخابات مجلس النواب الليبي في يوليو 2014 إلا بنحو 20% من المقاعد. إلا أن الإخوان لم يقبلوا بنتائج تلك الانتخابات، ورفضوا دخول البرلمان المنتخب إلى طرابلس، فذهب إلى طبرق، ونشأت "شرعيتان مختلفتان"! وإذا كانت ليبيا لم تشهد انقساما بين طرف ديمقراطي أو ثوري وطرف آخر رجعي، فإنها شهدت نوعا آخر من الانقسام، لعبت مصر دورا هاما فيه، لأن وجود دولة فاشلة في ليبيا وهيمنة استعمارية ورجعية بها سمح بتمدد داعش والإسلاميين فيها بالذات في شرقها، مما شكل تهديدا استراتيجيا لمصر قام بتدعيم الإرهاب الإسلامي فيها.
لهذا بادرت مصر بمحاولة ضرب نفوذ الإرهاب الإسلامي وتدعيم استرجاع دولة مركزية موحدة في ليبيا من خلال دعم اللواء خليفة حفتر. تدعم المعسكر التوحيدي لليبيا في الشرق الليبي على يد حفتر ومجلس نواب الشرق في طبرق، بينما تدخل الغرب دعما للرجعية الإسلامية التفتيتية التي يمثلها الجمعية التأسيسية في الغرب الليبي منعدم الشرعية في طرابلس. بدأ الغرب بمحاولة استعادة شرعية الغرب المنهزم من خلال وساطة مكوكية بين الشرق والغرب، انتهت بعقد اتفاقية الصخيرات في المغرب في ديسمبر 2015 بإشراف غربي مباشر. لم يدعُ الغرب في الصخيرات سوى الشرق والنواب العشرين الإخوان في الشرق، ولكن مع الدعم الغربي، لينتهي بإعطاء قبلة الحياة لشرعية المؤتمر العام في طرابلس تحت غطاء ما سمي بمشروع لتوحيد السلطة في ليبيا، ليستمر النزاع حتى تسوية الصراع بالقوة على أرض الواقع.
نجح الشرق وحفتر، بدعم مصري وإماراتي وروسي، في تحرير الشرق بالكامل، وبسط سيطرة الشرق على مناطق داعش في الجنوب الشرقي، وفي الجنوب الليبي، وتقدم لتحرير القوس النفطي وانفتح الطريق أمامه للوصول للسيطرة على طرابلس، بعد أن تحالف مع قبائل جبل نفوسة في أقصى الغرب. لم ينقذ الإسلاميون لثاني مرة من السقوط ويمنع إعادة توحيد ليبيا سوى قيام حكومة طرابلس "ببيع" البلد من خلال اتفاقية مع تركيا في نوفمبر 2019، مما أعطى إردوجان امتيازات استراتيجية في ليبيا وفي بترولها، وامتيازات لا يملكونها في تقسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في البحر المتوسط على حساب مصالح مصر واليونان وقبرص، في مقابل إنقاذ نظام الإخوان في الغرب.
بعد أن دخل حفتر ضواحي طرابلس واستولى على مطارها وأوشك الغرب على السقوط، جاء التدخل التركي-الإسلامي الداعشي الكثيف ليقلب ميزان القوى وينقذ حكومة الغرب الإسلامية، وتستقر الحدود ثانية بين القوتين على أساس الشرق والجنوب لحفتر، وطرابلس الغرب للسراج، مع وساطات غربية محابية للإخوان بوساطة الأمريكية ستيفاني ويليامز مبعوثة الأمم المتحدة، ثم في الفترة الحالية مجرد سكرتارية للأمين العام، ولكن ذات النفوذ القوي هناك.
في ظل التناقض الكبير بين مواقف الأطراف، الغرب المدعوم من تركيا التي تهيمن على قاعدة عقبة ابن نافع وتسلح الجيش الغربي وداعش، والشرق الهادف لانسحاب القوات والميليشيات الأجنبية، لم يكن من المتوقع أن تنجح أي اتفاقات أو انتخابات، ولازال الاستقرار في ليبيا أمامه أشواط متعددة. مازال الطريق مفتوحا حتى يستقر ميزان القوى المحلي على أرض الواقع، وميزان القوى الإقليمي وعلى رأسه مصر وتركيا، وميزان القوى الدولي، بالذات علاقة تركيا بالغرب وما تقدمه له وما تأخذه منه في مختلف المجالات، التي لا تمثل ليبيا سوى واحدة منها.