تونس: قيس سعيد، والنهضة، والثورة، والشعب!


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7320 - 2022 / 7 / 25 - 12:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في العام الثاني عشر من عمر الثورة التونسية، أولى الثورات العربية، تبدو الصورة في تونس مرتبطة بشدة بخيط تطور الثورات العربية، وفي نفس الوقت بمعدلات مختلفة جد الاختلاف، وخصوصيات لابد منها.
إن الجماهير الثائرة في تونس، كما في مختلف الثورات والانتفاضات العربية، قد ثارت ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والفساد، معلنة دخولها معترك الحياة السياسية دخولا واسعا بعد عقود من التراجع، مسقطة حكامها ورافضة لشرعيتهم المزيفة. ولكن وعي الجماهير بفشل السلطة لا يقدم وحده بديلا عمليا. وانعكس الاستبداد السابق على تدني وعي الجماهير بنوع المعارضة، حيث لم تفرق جيدا بين المعارضة الدينية والمعارضة الليبرالية المعارضة الديمقراطية واليسارية.
ورغم طابع شعارات الثورة الديمقراطي واليساري بتركيزها على "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية"، إلا أنها في أول انتخابات في تونس كما في كل التجارب العربية، أولت ثقتها الأساسية لتيارات الإسلام السياسي لتعطيه أعلى الأصوات. لقد تناقضت اتجاهات تيارات الإسلام السياسي مع برنامج الثورة بعدم ديمقراطيتها، وانحيازها للاقتصاد الليبرالي الحر وانحيازها للتحالف مع الغرب الاستعماري حتى في المشاركة في مخططاته للتفتيت الإقليمي للدول العربية. ولكن لم يرتق وعي الجماهير العربية لإدراك تلك الحقائق إلا بعد الثورات، وتدريجيا، وبناءً على تجربته الملموسة معها، خصوصا بعد مشاركتها في السلطة بدرجات مختلفة. وكان من أهم مكاسب تلك الثورات، بعد الدخول الواسع للجماهير في الميدان السياسي بشكل مستقل وفضح الأنظمة القائمة، هو فضح الإسلام السياسي.
ورغم شعبية الإسلام السياسي في تونس الممثل بالنهضة، وحلفائها السلفيين (ائتلاف الكرامة)، إلا أن النهضة لم يمكنها تقاسم السلطة إلا بتحالف بدأ مع اليساري منصف المرزوقي كرئيس للجمهورية لثلاث سنوات بدءا من ديسمبر 2011. كما لم يتمكن من تعيين رئيس وزراء من رجال النهضة إلا لعامين، ديسمبر 2011- يناير 2014 في وزارة حمادي الجبالي ثم وزارة على العريضي. بعد هذه الفترة تولى رئيس وزراء مدعوما من النهضة ومستندا إلى تحالف أوسع (أساسا مهدي جمعة المستقل، ثم الحبيب الصيد من نداء تونس وغيرهم)، وصولا إلى هشام المشيشي كمستقل بين 2020 و2022 حتى أقاله قيس بن سعيد.
تدهورت شعبية النهضة والإسلام السياسي في تونس كثيرا كما حدث في دول الربيع العربي الأخرى. ولكن موقف انتخابات البرلمان التونسي الأخير يستدعي توضيحا: فقد ساد الإحباط الشديد وقتها، 2019، كل من الجمهور والقيادات التقدمية، بحيث لم يصوت في الانتخابات البرلمانية سوى 7% ممن لهم حق التصويت! وبفضل تنظيمها الشديد كانت نتيجة التصويت أن نالت النهضة نحو 24% فقط من أصوات ال7%! وتمكنت من عقد التحالفات مع السلفيين في ائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس ذو الرئيس المتهم بالفساد والذي تم سجنه من قبل، واستقطبت المشيشي رئيس الوزراء.
والنهضة، مثل اتجاهات الإسلام السياسي في الدول الأخرى، تتقنع بالديمقراطية في المعارضة، ولكنها ما أن تشارك في السلطة حتى تستبيح كل الوسائل من أجل تثبيت وتأبيد سلطتها وتنفيذ برنامجها الرجعي. حامت الشبهات القوية حول دور حركة النهضة في التورط في حادثي اغتيال رمزين من رموز اليسار التونسي، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، عام 2013. ولكن النهضة لعبت دورا هاما في التلاعب بالقضاء وتعيين قضاة موالين ومتهمين بالفساد والتستر على قضايا ومخالفات النهضة. وفي الفترة الأخيرة، فترة وزارة المشيشي ورئاسة البرلمان لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة قام الأخير بسلوكيات خيانة لكل قيم الوطنية والثورة والمؤيدة للإرهاب، حينما قام بزيارة تركيا ولقاء إردوجان، وهو شيء ليس من سلطاته كرئيس للبرلمان، بل ووصل إلى تدبير إنزال قوات إرهابيين إسلاميين قادمين من تركيا على ساحل تونس ودخولهم ليبيا من حدودها الغربية مع تونس، للمشاركة في إنقاذ حكومة السراج الإسلامية في طرابلس التي يحاصرها حفتر. يضاف إلى هذا تدهور الأوضاع المعيشية للشعب التونسي بتأثير البرنامج النيوليبرالي الذي كانت النهضة من أشد مؤيديه. وبالطبع تناقض برنامج النهضة مع حريات المرأة الراسخة في تونس.
تصاعد التناقض بين الشعب والنهضة من ناحية، والنهضة وقيس سعيد من ناحية أخرى. حدث الصدام المتوقع بينهما وتم إقالة المشيشي في 25 يوليو 2021، وتم تجميد ثم حل البرلمان. بالطبع رفضت النهضة تلك القرارات ورفعت لواء الديمقراطية التي خانتها من قبل، ولكن بان واضحا أن أغلبية شعبية تؤيد قرارات سعيد في تحجيم النهضة.
وتواجه الثورة التونسية في أعقاب الإطاحة برؤوس النظام، مثل كل ثورات ما عرف بالربيع العربي، تواجه تحديات الصراع بين الثورة والنظام القديم كما في كل الثورات، حيث إن إجبار النظام القديم على التخلي عن قياداته لا يعني سقوطه وسقوط مؤسساته وعلى رأسها جيشه وشرطته وأجهزة أمنه، حامية أمنه الداخلي والخارجي! ويبرز الصدام بينهما على محورين أساسيين: تقنين النظام الديمقراطي وترسيخ قواعده الدستورية. أما النظام القديم فيبدأ بتقديم التنازلات الديمقراطية وفي مجال تحقيق بعض المطالب الفئوية الاقتصادية للثوار، مع سعيه التدريجي إلى تبريد الثورة تمهيدا للالتفاف عليها، واستعادة ما يمكن استعادته من الأوضاع السابقة.
والتحدي الثاني هو مقتل الثورات: الأزمة الاقتصادية. لا يكفي أن يرفع الشعب برنامجا مطلبيا فيما يخص رفع الأجور وتحسين الخدمات وخلافه، فالأزمة الاقتصادية مستحكمة، والحل الجاهز، الأقرب للنظام نظرا لطبيعته، هو الاستدانة من صندوق النقد الدولي، وشرطه الموافقة على برنامجه القائم على التقشف بتخفيض الدعم، ورفع أسعار الخبز والطاقة، وفرض الضرائب غير المباشرة (ضريبة المبيعات أو ضريبة القيمة المضافة)، وتخفيض سعر العملة، وتخفيض العمالة وتخفيض نسبة الأجور والمعاشات منسوبة للناتج المحلي الإجمالي، مع خصخصة الأصول الإنتاجية والخدمية للدولة بالبخس في ظل تدهور العملة. ورغم الرفض الشعبي لتلك الإجراءات، إلا أن الرفض ليس بديلا، حيث لابد من تقديم برنامج تنمويّ بديل متكامل مقنع لأغلبية الشعب. يلي اقتناع أغلبية الشعب بمثل هذا البديل سعيا لفرضه.
لهذا فإن عملية صنع البديل الثوري هي عملية تاريخية، تبدأ بدور الثوريين في تحديد برنامج ثوري متكامل بديل، وتنتهي بوعي الجماهير وتنظيمها وحركتها من أجل فرض برنامج يعبر عن مصالحها. لقد أنجزت الثورة الكثير، ولكن مازال أمامها ما هو أكثر. وفي تونس تتجاور التحديات كلها في وقت واحد: الصدام مع النهضة، والصدام مع برنامج صندوق النقد الدولي التقشفي، ومواجهة سعي النظام القديم لتحجيم التنازلات الديمقراطية للشعب واستعادة أغلب ملامح النظام القديم. مازال الطريق طويلا، والشعب التونسي صاحب تاريخ نضالي طويل، نجح في قطع أشواط كثيرة ومازال أمامه أشواط أكثر!