القاهرة من جديد وتخطيط المدن


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7151 - 2022 / 2 / 1 - 13:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كما أن المدن تتكون تدريجيا في التاريخ فإن معمارها المتغير بالضرورة في كل فترة، ونوع وطريقة التغير، تعكس طابع العصر. تاريخيا، ولأن القاهرة محصورة بين جبل المقطم شرقا ونهر النيل غربا، فقد كان التوسع يتم غالبا في اتجاه الشمال. ومنذ إنشاء القاهرة على يد الفاطميين في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي وهي مصداق للحقيقة السابقة.
وحتى لا نغوص بعيدا في التاريخ نكتفي بالقول هنا أن ملامح القاهرة الحالية يرجع الفضل الأول في تشكيلها إلى الخديوي إسماعيل الذي استقدم المهندس هاوسمان، الذي صمم مدينة باريس، للقيام بتخطيط القاهرة التي أرادها إسماعيل على غرار باريس. فباريس يقسمها نهر السين إلى قسمين شمالي وجنوبي، وأراد هو أن يجعل النيل يقسمها إلى قسمين شرقي وغربي.
أولا نقل هاوسمان نصف البلد من منطقة الأزهر وشارع المعز لدين الله الفاطمي قلب القاهرة المعزية إلى قلب القاهرة الجديد بشارع عماد الدين وشارع 26 يوليو والمنطقة المحيطة، واستقدم بناؤون إيطاليون لبناء أول عمارات بالأسمنت المسلح، والتي مازالت قائمة تشهد بجمال العاصمة، فاستحقت جائزة أجمل مدينة في العالم عام 1925. ووضع في قلب القاهرة "الجديدة وقتها حديقة الأزبكية المصممة على غرار حدائق اللوكسمبورج بباريس، حتى في أشجارها المستوردة من الهند والمغرب وأفريقيا، بل حتى في طريقة تصميم السور الحديدي بها، وجعلها تطل على بركة الأزبكية الواصلة عبر ترعة إلى النيل. ولكن حدائق اللوكسمبرج الأقدم مازالت حية حتى الآن بباريس، بينما قضينا على حديقة الأزبكية.
ومن أجل تحقيق حلم الخديوي بجعل النيل منتصف العاصمة، كان لابد من تحويل مجرى نهر النيل، الذي كان قريبا من الأهرام، لكي يجعله قريبا يجعل ضفة الجيزة مقابلة مباشرة للقاهرة. استقدم هاوسمان مهندسا هيدروليكيا صديقا له من فيينا لإنجاز تلك المهمة. من أجل تقريب النيل إلى العاصمة كان الحل هو بناء حائط حجري مائل يصطدم به النهر أثناء اندفاعه زمن الفيضان فينحرف شرقا إلى وضعه الحالي. ولما قال الخديوي أنه لا يملك كل المبالغ المخصصة لذلك، تم الاتفاق على أن تقوم الشركة بذلك في مقابل جزءٍ مساحة الأرض التي "ستدخل كوردون العاصمة" بتعبيرنا الحالي تقسمها وتبيعها كأجر لها. أما بقية الأراضي فقد أقيمت عليها حديقة الأورمان (على غرار واسم أورمان دى بولوني في باريس)، وحديقة النباتات التي تحولت إلى حديقة الحيوان. كما أدي تحويل النهر إلى تكوين جزيرة الزمالك، جمع زملك وهو الشاليه، حيث كانت منطقة مساكن استجمام للأرستقراطية.
عام 1954 أراد عبد اللطيف البغدادي، وزير التنمية المحلية وقتها، إعادة تصميم القاهرة. وحين أرسل لليونسكو يطلب خبيرا في تصميم المدن، قالوا له عندك خبير مصري عالمي في تصميم المدن هو سيد كريم (وهو الذي صمم بعد ذلك مدن جدة وأبو ظبي وغيرها). اتصل البغدادي بكريم، وكان مشروعه الذي ننعم بمزاياه حتى الآن رائعا: لقد بدأ بشق طريقين يحيطان بالقاهرة من الشرق والغرب. من الشرق أقام طريق صلاح سالم، ومن الغرب شق شارعا طويلا على النيل، أزال في طريقه حدائق مساكن وفيلات فاخرة تطل على النيل مباشرة، يمتد من شبرا المظلات إلى حلوان.
طرح كريم، ونفذ، في تصميمه، حي مدينة نصر شرق شارع صلاح سالم، ووراءه فكرة أن يتم التوسع السكاني للقاهرة على حساب الصحراء وليس كما كان يحدث سابقا على حساب الأرض الزراعية في شبرا وعلى ترعة الإسماعيلية. واقترح كريم نقل معسكرات الجيش بالعباسية إلى خارج القاهرة في الكيلو 4.5 طريق السويس، عزبة الهجانة وجوارها حاليا، فقيل له أن الوحيد الذي يمكن أن يصدر مثل هذا القرار هو عبد الناصر، فقابله كريم وكان له ما أراد.
وعرّف كريم الناس وقتها أن تخطيط المدن يتضمن بناء مرافق المدن، فحدد مواقع وبنى بعض مرافق القاهرة الحالية: الاستاد، ودار الأوبرا، وأرض المعارض، وقاعة المؤتمرات، حيث اختار موقعها الحالي وأقيمت فيما بعد؛ كما أقام التوازن بين مساحات المباني والخضرة. وجدير بالذكر أن كريم دُعِيَ لحضور حفل مرور عشرين عاما على إقامة مدينة جدة؛ فسألهم: ما عدد سكان المدينة حاليا؟ فقالو له أربعة ملايين، فقال جيد، لقد كان عددهم مائتي ألف منذ عشرين عاما فصممتها لتسع أربعة ملايين بعد تلك المدة!
سقنا ما سبق لتوضيح أن علم تصميم المدن هو علم هام وله أساتذة ومختصون، وأن طابع العصر، كل عصر، يظهر في معماره. وقد أوضحت الخبيرة الدكتورة أمال سيد في مقال لها على موقع السلطة الرابعة فقالت إن تعريف المدن الحديثة ليس بعماراتها الشاهقة ولا بالشوارع الواسعة والكباري الضخمة، ولكنها، بنص كلامها: "مصطلح المدينة الحديثة يرتبط بشكل أساسي بدرجة جودة الخدمات بها ودرجة مواءمتها مع البيئة فضلا عن مراعاة الاشتراطات المتعلقة بالكثافة السكانية ومراعاة العلاقة النسبية بين الكتل السكانية والأبنية باستخداماتها المختلفة والمساحات الخضراء داخلها".
الكاتبة بعد هذا تمتدح بناء الطريق الدائري وبعض الطرق المحورية، وإزالة العشوائيات ونقلها لمساكن جديدة، ولكنها تنتقد إزالة مناطق مخططة جيدا مثل مناطق في ضاحية ألماظة بمصر الجديدة وخطة إزالة مساكن الحي السادس والسابع بمدينة نصر. فهي ترى أن إزالة مساكن مواطنين فقراء أو متوسطين لإقامة مساكن فاخرة أو مناطق ترفيهية للأغنياء يغير الطبيعة الديمغرافية للمدينة ويجعلها مدينة للأغنياء فقط وينفي الطبقات المتوسطة والفقيرة للأطراف وخارج المدينة، كما أن هذا يعد تدميرا للثروة العقارية المفترض أنها تعيش بين خمسين ومائة عام!
والآن، ما هي خطة تحديث بناء القاهرة؟ الكارثة هي أنه لا توجد خطة معلنة، وربما لا توجد خطة متكاملة على الإطلاق، ولكنها عدد من القرارات التي تؤخذ بالقطعة، وتنفرد باتخاذها السلطة التنفيذية، دون مراجعة وحتى بدون إعلان أحيانا. خير مثال على هذه العشوائية مشروع الكوبري المجاور لكنيسة البازيليك بمصر الجديدة الذي بدأ حفر أماكن أعمدته وإقامة غرف المهندسين المكيفة للإدارة وسط حدائق المنطقة دون إعلان. وتم سحب المشروع، ربما للمعارضة الهائلة التي لقيها، وربما لمعارضة الحكومة البلجيكية المالكة للكنيسة لكوبري سيؤدي إلى دمار الكنيسة التي بها شقوق!
ولكن رغم هذا فإن ملامح القاهرة التي يتم التخطيط لها في حدود ما يظهر منها مرعبة! هل ستتحقق رؤية العبقري المرحوم الدكتور رشدي سعيد التي طرحها منذ نحو ثلاثة عقود، وخوفه أن تتحول القاهرة إلى وسط بلد تجاري، تحيط به بعض مساكن الطبقة المتوسطة، ومجمعات (كمبوندات) فاخرة للأثرياء، ثم يحيط بالجميع إطارٌ من العشوائيات!
السائد في التخطيط منذ الانفتاح والتخلي عن التنمية وحتى الآن هو إقامة مدن جديدة لحل مشكلة السكن دون أن ترتبط بمشاريع إنتاجية فيكون قدرها أن يظل معظمها مدن أشباح. كما لا يحترم في المدن القائمة أي من الأسس الموضوعية لبناء المدن: لا يحترم حق المواطنين في السكنى وينقلهم لأتفه الأسباب، ولا يحترم حق القاهرة في رئاتها التي تتنفس بها ويزيل أشجارها وحدائقها، ولا يحترم مرافقها الخدمية، حيث من حق الشعب أن تكون تلك المرافق العلاجية والخدمية والثقافية قريبة في متناوله وليس في الأطراف والضواحي البعيدة.
إن ما يتم ليذكِّر بقوة بمشاريع فترة مبارك حيث يُقتَرَحُ الاستيلاء على كل المواقع المهمة وسط المدينة وعلى النيل لإقامة مناطق الإسكان الفاخر والمنتجعات وأماكن الترفيه، حيث طرح عمل هذا في منطقة العجوزة، وفي منطقة جزيرة القرصاية في النيل، ومستشفى هليوبوليس، وبالنسبة لحدائق مستشفي حميات إمبابة على النيل، ومخازن الشركة المصرية لتجارة الأدوية بشبرا، وفق قاعدة أن ما يحتاجه "الأغنياء" أو "البزنس" للعمل أو للسكن أو للترفيه يحرم على الشعب سكنا ومرافق! كان هذا تجسيدا لمنطق المقاولين في التخطيط بدلا من منطق العلم المتخصص، منطق "أصحاب المصلحة" المباشرة قصيرة النظر من الأغنياء وليس منطق مصلحة الجمهور. وقد فجر هذا وقتها الكثير من حركات المعارضة الضخمة والوقفات الاحتجاجية في مختلف الأماكن ونجح في إيقاف أو تأجيل بعضها حتى توقف تماما هذا الاتجاه في أعقاب ثورة يناير عام 2011.
أما ما يتم الآن فهو يُذَكِّر بقوة بانبعاث تلك الاتجاهات المرفوضة، فيتم نقل أرض المعارض من القاهرة حيث يكون (مرفق المدينة الذي حدد موقعه محمد كريم)، ولا يفكر أحد في العناء الذي سيلاقيه المواطنون في الذهاب ولا في تلويث الجو بكل تلك المواصلات التي سيأخذها عشرات الآلاف من زوار المعرض. كما تعتدي الكباري على حقوق الناس في السكن دون خطة معلنة لمدى فائدة ذلك ودون مناقشة مجتمعية واتفاق ديمقراطي عليها من الجمهور. أخطر من هذا ما تردد عن أن الحفر الجديدة قرب المتحف الزراعي بالدقي تمهد لإقامة مشروع استثماري كبير سيزيل المتحف!
آن الأوان لكي تطالب الأحزاب السياسية، والأعضاء الممثلين للشعب حقا في مجلس النواب، ومنظمات المجتمع المدني في عام المجتمع المدني 2022، وأساتذة الجامعات وبالذات المهندسين وخبراء تخطيط المدن، آن الأوان لكي يطالبوا جميعا بوقف العبث بتراث القاهرة ومساكن أهلها ومرافق شعبها، ولابد أولا من إعلان خطة تطوير مدينة القاهرة، إعلانا من أجل مناقشة تلك الخطة مناقشة ديمقراطية، أو وضعها إذا لم تكن موجودة. إن سبب "المنفعة العامة" الذي تبرر الحكومة به كل قراراتها العمرانية يجب أن يحترم أن المنفعة العامة لابد وأن يشترك "العامة" في إقرارها وليس الحكومة وحدها، فليست هي التي تنفرد بمعرفتها وتنفيذها دون مشاورة ولا إخطار ولا حتى إعلان!