موازنة الديون والتضخم والتقشف على المواطنين


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7628 - 2023 / 5 / 31 - 17:45
المحور: الادارة و الاقتصاد     

قراءة في موازنة مصر للعام المالي القادم 2023-2034
تأتي موازنة العام المالي القادم لكي توضح حجم المشكلة الاقتصادية في مصر. يبلغ الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للعام القادم حوالي 11.8 ترليون جنيه، بينما تبلغ الموازنة العامة للدولة حوالي 4,3 ترليون ج بنسبة حوالي 37% من الناتج المحلي الإجمالي (ن م أ). أضخم رقم في الموازنة هو أعباء خدمة الدين، حيث تبلغ 2.4 ترليون جنيه، وتبلغ نسبتها حوالي 56% من الموازنة أو حوالي خمس (20.6%) من ن م أ. والسبب الرئيسي في تلك النسبة الهائلة من الموازنة ومن ن م أ هي سياسة الاقتراض الواسعة، الداخلية والخارجية، دون حساب كيف ومن أين سيتم سدادها.
والمشكلة الاقتصادية الرئيسية هي نقص الإنتاج مع تخلف الهيكل الإنتاجي الزراعي والصناعي عن الوفاء باحتياجات المواطنين، والاحتياج للسوق العالمية لاستيراد أكثر من 60% من الغذاء واعتماد الصناعة المحلية على استيراد الآلات ومستلزمات الإنتاج بحكم قصور الهيكل الإنتاجي عن إنتاجها وضمان استقلالها؛ ولهذا فعجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات هي المظاهر المالية، والاقتصار على معالجتها بعلاج مظاهرها المالية والنقدية فقط دون تطوير الإنتاج لابد وأن يواجه الفشل. ومما يفاقم المشكلة أن تلك الديون لم تستخدم في استثمارات إنتاجية بل في خدمات. حوالي 7 ترليون جنيه تم إنفاقها على الاستثمار العقاري الذي تضمن إنشاء حوالي 27 مدينة جديدة، معظمها مازالت خالية حتى الآن، والإنفاق على البنية التحتية الذي تقدر نسبته بحوالي 20% من تلك الاستثمارات. وبالطبع فإن تلك الاستثمارات الخدمية غير الإنتاجية لا تدر عائدا مباشرا أو تدر على المدى الطويل جدا.
وانفجرت أعباء سداد تلك المديونية، بالذات خلال السنوات الثلاث، (22-23 وحتى 25-26)، بإجمالي أعباء مطلوب سدادها حوالي ستين مليار دولار خلال تلك السنوات الثلاث! لهذا كان الحل باللجوء لجهات التمويل الدولية، بالذات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمفوضية الأوروبية، والتي فرضت شروطا قاسية لإغاثة المدين المعسر، مصر، وعلى رأسها حركة البيع الواسعة لأصول الدولة كما جاء في وثيقة ملكية الدولة (ونصت على خصخصة كاملة لكافة مشاريع 79 مجالا وجزئيا ل 40 مجالا آخر، خلال 3 سنوات)، مع تخفيض قيمة العملة، واتباع سياسة حكومية تقشفية كما توضح تلك الموازنة.
تمثل أعباء خدمة الدين (فوئد + أقساط) هذا العام أكثر من 2.3 ترليون جنيه، وهو ما يصل إلى 56% من استخدامات الموازنة أو أكثر من خمس الناتج المحلي الإجمالي (20.6%). ورغم أن خطة سداد الديون اعتمدت على بيع شركات الدولة في أكبر عملية مبادلة الديون بأصول الدولة الإنتاجية والخدمية التي بناها الشعب بعرقه من أيام طلعت حرب وجمال عبد الناصر وحتى الآن، إلا أن البيع لا يسير ب "النجاح" الذي أملت فيه الحكومة رغم إن تخفيض الجنيه أمام الدولار إلى حوالي نصف قيمته مما يبخس قيمة الأصول المحلية، ورغم أن الأصول التي تم بيعها قد تم بخس ثمنها بشدة. ربما هذا نفسه ما يدفع المشترين إلى انتظار المزيد من تخفيض قيمة الجنيه في مواجهة الدولار، وربما لأسباب تتعلق بتقدير المشترين لمدى الاستقرار السياسي، خصوصا ومؤسسات التقييم تخفض مؤشرات مصر الإئتمانية.
ثم تأتي الحكومة بالتصرف في الحيز المالي الضيق المتاح في الموازنة للإنفاق على الاحتياجات الدفاعية والاجتماعية بأسوأ الأشكال: حيث تستمر الأجور في الانخفاض كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. لقد كان نصيب الأجور يدور حول 8% من ن م أ منذ عقد من الزمان، لكنه يبلغ الآن حوالي 4% فقط من ن م أ في انخفاض محسوس عن نسبة العام الماضي، والتي كانت تبلغ نحو 4.4% من ن م أ. كما انخفض الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية من 4.6% من ن م أ في العام الماضي إلى 4.5% هذا العام.
ونال نفس التدهور التعليم حيث انخفض الإنفاق على التعليم من 2.1% من ن م أ إلى 1.9%، رغم أن النسبة الدستورية لا يجب أن تقل عن 6%، وبالطبع فإن إنفاق نحو ثلث نسبة الحد الأدنى لابد وأن تسفر عن تدهور مستوى التعليم وأجور المعلمين وتتسبب في ازدحام الفصول وغيرها من المشاكل. كذلك تدهور وضع الصحة بانخفاض الإنفاق عليها من 1.4% من ن م أ إلى 1.25% من ن م أ رغم أن الدستور ينص على ألا تقل عن 3% من ن م أ تزيد تدريجيا حتى تصل إلى النسبة العالمية التي تبلغ ضعف تلك النسبة. وبالتالي تتدهور الصحة كثيرا، ويهرب الأطباء إلى الخارج حيث يضعهم دخلهم تحت خط الفقر، كما تقل الأَسِّرة والمستشفيات بالنسبة للمواطنين ويتدهور مستوى الخدمة.
لقد أدت سياسة "الإصلاح الاقتصادي" وفق روشتة مؤسسات التمويل الدولية عام 2016 إلى تدهور وضع الشعب المصري، فزادت نسبة المصريين تحت خط الفقر الأول (فقر الغذاء) من حوالي 25% عام 2015 إلى 30% بعد "إصلاح" 2016 وتخفيض العملة إلى نصف قيمتها وتزايد التقشف. أما نسبة المصريين تحت خط الفقر الثاني (فقر الحاجات الأساسية) فقد زادت نسبتهم إلى جميع المصريين في نفس الفترة من 62% إلى 70% من شعبنا! ومع ذلك فإن اتباع نفس السياسة ونفس روشتة الصندوق في اتفاق 2022 وتخفيض الجنيه إلى نصف قيمته أيضا من 15.6 إلى نحو 31 جنيها (أي ربع قيمتها عن بداية عام 2016) والتقشف الذي رفع التضخم إلى 40% مع زيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 60% في المتوسط كما يقدر البنك الدولي، سيؤدى إلى رفع نسبة الفقراء إلى أي نسبة من الشعب المصري؟!
إلا أن الغريب أن تلك الأزمة الطاحنة التي تعالجها الحكومة بحلول "مجربة" تزيد من فقر المصريين ومعاناتهم وانهيار عملتهم الوطنية وبيع وخصخصة أصولهم الخدمية والإنتاجية للخارج، لا تدفع الحكومة إلى التخلي عن اختياراتها وإدراك معقولية اقتراحات المعارضة التي تقترح علاج الأزمة بالتخلي عن الإسراف الحكومي الشديد، وكذلك بوقف استيراد السلع الكمالية والاستفزازية! تعاني حكومتنا من تضخم قمة الجهاز الإداري: فلديها حكومة مشكلة من 33 وزيرا بينما يتراوح عدد الوزراء في أمريكا وفرنسا وإنجلترا واليابان بين أربعة عشر وزيرا في أمريكا إلى عشرين وزيرا في إنجلترا! وبالطبع يمتد التضخم إلى مئات وكلاء الوزراء وآلاف المستشارين وغيرهم.
في العام الوحيد الذي تم الكشف فيه عن نسبة أجور الوظائف العليا إلى إجمالي الأجور اتضح أن حوالي عشرين ألفا من شاغلي وظائف الإدارة العليا (أقل من نصف في المائة من العاملين بالحكومة) تبلغ أجورهم حوالي 40% من بند الأجور في الموازنة، بينما تبلغ أجور 5.9 مليون من العاملي بالدولة وقتها (أكثر من 99.5% من العاملين) 60% من إجمالي الأجور وقتها! لا توجد شفافية الإعلان عن هذا الرقم في السنوات الأخيرة، ولا عن إجمالي بنود الإسراف في الميزانية مثل ميزانيات تجديد مكاتب وسيارات كبار المسؤولين بآخر موديل كل سنة، إلا أن التقشف يبقى من نصيب الشعب فقط!
كما أن تقليل الاحتياج إلى الدولار بوقف الواردات غير ذات الضرورة الحيوية، كما فعلت الأرجنتين مثلا، هو أفضل مليون مرة من التفريط في أصول الدولة بالبخس. هناك واردات إجبارية مثل الاحتياجات الغذائية ومستلزمات الإنتاج، وهي تشكل حوالي ثلاثة أرباع الواردات، ولكن الباقي هي مما يمكن الاستغناء عنه بالذات في وقت الأزمة، وعلى الأقل حتى زيادة نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائية والتصنيعية بشرط اتباع سياسات إنتاجية سليمة، وهو لا يقل عن 15 إلى 25% من الواردات، أي أكثر من 20 مليار دولار! ومنع استيراد السيارات ومنتجات الترف متاح وممكن حتى في ظل عضوية مصر في منظمة التجارة العالمية التي تقنن حرية التجارة، حيث إنها تبيح منع أنواع معينة من الواردات بشرط وجود سبب (ولدينا مليون سبب) ولمدة معينة) ونستطيع المنع لمدة سنة ثم متابعة الموقف في نهايتها، خصوصا وأن اتباع سياسة رشيدة لمدة عامين أو ثلاثة فقط تخرج بنا من عنق زجاجة فترة زيادة أعباء الديون.
كما إن تقليل سياحة المصريين في الخارج توفر مليارات، إذ بلغت استخدامات سياحة المصريين بالخارج قبل وباء كوفيد عام 2019 حوالي 4.7 مليار دولار، أكثر من 60% من هذا المبلغ تنفق في الحج والعمرة. ولما كانت الضرورات تبيح المحظورات فإن منع العمرة والحج خلال الوباء كانت ممكنة، كما إنه من الممكن الآن منع العمرة وقصر الحج على من لم يؤدِ الفريضة ينقذ مليارات الدولارات بدلا من البحث عن قروض أو عن مشترين لمصانعنا وشركاتنا.
إن ديمقراطية وترشيد القرار الاقتصادي، وفتح المجال لإسهامات الخبراء والمعارضة لبحث السياسات الإنتاجية والمالية والنقدية الكفيلة بالخروج من المأزق الاقتصادي وتفادي أي قلاقل أو انفجارات اجتماعية.
دكتور محمد حسن خليل
31 مايو 2013
ملحق بأهم مؤشرات الموازنة العامة لمصر في العام المقبل، 23-24 مقارنا بالعام السابق
أرقام موازنة 2023- -2024 بليون جنيه موازنة 22-23
11841 الناتج المحلي الإجمالي (ن م أ) 9193
4349 إجمالي الموازنة 3231
%36.7 نسبة الموازنة إلى ن م أ 33.4%
2436 خدمة الدين (فوائد + أقساط) 1656
1316 أقساط قروض 690
1120 فوائد القروض 966
19.12 خدمة الدين بالدولار (مليار) 17.9
56.01% نسبة خ د / موازنة 54.00
20.57% خ د / ن م أ 18%
36.73% موازنة / ن م أ 33.4%
470.00 الأجور 410
3.97% نسبة الأجور/ ن م أ 4.35%
10.81% نسبة الأجور/موازنة 12.7%
530.00 الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية 426.0
4.48% الدعم والمزايا/ ن م أ% 4.6%
12.19% الدعم والمزايا/ إجمالي الموازنة% 13.2%
230 الإنفاق على التعليم 193
%1.94 تعليم/ ن م أ % 2.1%
%5.29 نسبة التعليم/موازنة% 5.97%
148.00 الإنفاق على الصحة 108
1.25% صحة على ن م أ % 1.4%
3.40% نسبة الصحة/موازنة% 3.34%