عالم اقتصاد من طراز خاص رحيل الأستاذ الدكتور محمد دويدار


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7694 - 2023 / 8 / 5 - 16:12
المحور: الادارة و الاقتصاد     

في 24 يوليو الحالي رحل عالم اقتصاد حلق واحده عاليا في سماوات لم يصل إليها إلا ندرة في عالم الفكر الاقتصادي والاجتماعي، وارتبط كذلك بكافة قضايا وطنه السياسية والاقتصادية المترابطة ترابطا وثيقا مع قضايا كل المستَغَلين في عالمنا العربي وعلى اتساع العالم.
عاش دكتور دويدار عمرا مديدا (1932- 2023) جرت فيه الكثير من التغيرات الحاسمة على مستوى مصر وكذلك على مستوى العالم، وتفاعل معها على أعلى مستوى فكري ةعمليّ. ولد الدكتور محمد دويدار من أسرة من المزارعين المتوسطين في مدينة كوم النور مركز ميت غمر دقهلية، وهي قرية متميزة دخلها التيار الكهربائي منذ عام 1933، قبل دخولها إلى ميت غمر التي صارت مركزا تتبعه تلك القرية. وكان بها في السبعينات من القرن الماضي عشر مدارس، 6 مدارس ابتدائية، ومدرستان إعداديتان ومدرسة ثانوية عامة وأخرى ثانوية تجارية. قرية بحجم مدينة وتطور اقتصادي واجتماعي وسياسي أكبر من كثير من المدن. انتشار التعليم كان لابد وأن يصاحبه انتشار الثقافة وتعدد الانتماءات السياسية، ولهذا كانت كوم النور قبل عام 1952 مركزا متميزا لكل من اليسار والإخوان المسلمين. وكان الدكتور دويدار على علاقة برموز السياسة والفكر منذ بداياته، بدءا من ابن قريته كمال عبد الحليم وحتى كبار مثقفي مصر منذ الخمسينات والستينات، من كل الاتجاهات.
دخل الدكتور محمد دويدار كلية العلوم، ثم تركها بعد فترة إلى كلية الحقوق التي تخرج منها عام 1955. بدأ بعد تخرجه صعودا صاروخيا ونال شهادات ضخمة في الحد الأدنى من الوقت: دبلومة قانون خاص عام 56، دبلومة اقتصاد 57، ثم سافر للخارج. حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة لندن عام 61 ثم دبلوم العلوم الاقتصادية من جامعة باريس فرنسا 62، ثم دكتوراه الدولة في العلوم الاقتصادية والمالية من نفس الجامعة 1964 وعاد إلى مصر. عين مدرسا بقسم الاقتصاد كلية الحقوق وتدرج حتى أخذ درجة الأستاذية وظل رئيسا للقسم منذ العام 1978 وحتى 1992 بلا انقطاع تقريبا حتى عين أستاذا متفرغا بذات الكلية لبلوغه سن السبعين.
جمع بين الثقافة الموسوعية في العلوم الاجتماعية (القانون والاقتصاد والاجتماع) مع العلوم الطبيعية. جمع بين الدراسة في دولتين بارزتين ذواتيّ مدرستين مختلفتين في الفكر الاقتصادي والاجتماعي: حيث تأسس علم الاقتصاد الحديث في انجلترا على يد آدم سميث وريكاردو، بينما في فرنسا ارتبط علما الاقتصاد والاجتماع بشدة على عكس المدرسة الأنجلو-سكسونية. سيظهر أثر ذلك حيث أشرف على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه- ليس في الاقتصاد فقط ولكن في الاجتماع أيضا.
ألف وشارك في تأليف عدد كبير من الكتب بالعربية والإنجليزية والفرنسية تم نشرها في مصر وبيروت والجزائر وفرنسا، من أبرزها الاقتصاد المصري بين التخلف والتطوير، نماذج تجدد الانتاج ومنهجية التخطيط الاشتراكى (باللغة الفرنسية)، الاقتصاد السياسي علم اجتماعي (بالاشتراك مع فرانسوا ماسبيرو، نشر في فرنسا بالفرنسية سنة 1974، ونشرت طبعته السابعة سنة 1983، وتمت ترجمته إلى الإيطالية والإسبانية والبرتغالية). كتب أيضا استراتيجية الاعتماد على الذات (بالاشتراك مع الأستاذ محمد نور الدين والدكتورة سلوى العنتري والدكتورة غادة الحفناوي) عام 1976. كما أشرف على عشرات أو مئات الرسائل لدرجتي الماجستير والدكتوراه في مصر وفرنسا.
يعد الدكتور دويدار من كبار مفكري مدرسة التبعية بمعناها الواسع. تميز في داخلها بإدراك عميق للتطور الاقتصادي العالمي، مع تحليل عميق للوضع الداخلي والتناقضات الاجتماعية، بالذات في مصر، وتفاعلهما معا. وضع أساسا عميقا في كتابه الشهير "الاقتصاد المصري بين التخلف والتطوير" حيث يصف الكتاب، كما أوضح في مقدمة الكتاب (عام 1978)، بأنه "حصاد فكر انشغل أساسا بقضايا التحرر والتطوير من موقع الغالبية من الناس في مجتمعات ما يسمى "بالعالم الثالث"، وإنما ابتداءً من شعب مصر كجزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وهي بدورها كجزء لا يتجزأ من المجتمع العالمي".
درس في هذا الكتاب، بعد تقديم طويل حول الاقتصاد العالمي، أسس تكوين التخلف في الاقتصاد المصري، حيث يُعَرِّف التخلف بأنه نهب عملية تاريخية تتمثل اقتصاديا في تحول الهيكل الاقتصادي استجابة لاحتياجات الخارج، ويعبئ الفائض الاقتصادي لصالح الخارج. ويتحدث تفصيليا عن مصر ومحاولات النمو للرأسمالية المحلية، وهو ما تم ضربه ثلاث مرات: الأولى هي ضرب تجربة محمد علي من قبل رأس المال العالمي بقيادة رأس المال الإنجليزي، والثانية بالاحتلال عام 1882 من قبل رأس المال الإنجليزي منفردا، والأخيرة عام 1967 بقيادة رأس المال الأمريكي للأداة الإسرائيلية. ويوضح حدود "النمو" وليس التنمية في الخطة الخمسية الأولى (والأخيرة) وتحقيقها نموا مشوها يقتصر على الاحتياجات الصناعية الاستهلاكية مع ندرة صناعات وسائل الإنتاج والوصول للعجز بعد انتهاء تلك الخطة، والتي يعقبها هزيمة 67 التي قادت، تدريجيا، إلى مغادرة موقع الاستقلال النسبي لمصر وصولا إلى التبعية الجديدة لرأس المال العالمي بقيادة رأس المال الأمريكي بدءا من عام 1974.
كما في كتابات الدكتور دويدار، نرى الربط العميق بين القضايا الاقتصادية والتنموية وبين الظروف السياسية والاجتماعية في وحدة واحدة يستحيل بدونها أي فهم عميق لأي من المجالات الثلاثة. لهذا لعب الدكتور دويدار، من خلال كتاباته ومحاضراته ودوره في رئاسة وعضوية الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، حيث كان جميع الاقتصاديين والأساتذة وعاشقي علم الاقتصاد ينتظرون مساهماته بالذات في لحظات التطور والانتقال: الانفتاح، العولمة، إقرار ما عرف باتفاقيات الجات، وغيرها وغيرها.
بالنسبة لي شخصيا مثلت علاقتي بالدكتور محمد دويدار شيئا ثمينا في حياتي كلها منذ أن تعرفت عليه في نهاية الثمانينات وحتى بداية مرضه الأخير. اعتدت أن ألتقيه في المناسبات العامة، وكذلك في لقاءات خاصة في منزله، حيث كنت أزوره كل بضعة أشهر، في منزله بكينج مريوط، وأراه عند قدومه للقاهرة في منزل الأصدقاء محمد نور الدين وسلوى العنتري. وكان كل لقاء لنا حافلا بمناقشات معمقة في شؤون الاقتصاد وتطوراته، مع قضايا مصر والعالم. كانت لقاءاتنا محطات هامة لتطور أفكاري، وكنت ألجأ إليه عندما أحتاج للنقاش حول أشياء جديدة محيرة، أو تقديرات لي أختبر معه صحتها، وكان ديمقراطيا معي ومتقبلا للنقاش والاختلاف بصدر رحب. كان فقدي له فقدا شخصيا مؤلما على كل المستويات الشعورية والشخصية والسياسية والاقتصادية.
إذا كان الدكتور دويدار قد تلقى تكريما رسميا من الدولة متمثلا في جوئز الدولة: التشجيعية (1983) والتقديرية (1999) وجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية (2007)، فإن أكبر تقدير حازه هو استمرار تأثيره في الفكر الاقتصادي والاجتماعي حتى بعد رحيله في أجيال كاملة من تلاميذه ومحبيه، وكل المنتمين إلى هذا الشعب المصري وإلى كل قضايا الحرية والعدالة في العالم. ترك فراغا وغصة عندي كما عند الكثيرين. عزاؤنا في تماسكنا معا، نحن كل محبيه، واستمرار دفاعنا عن الإنسان المصري في الفكر الاقتصادي والاجتماعي كما اعتاد أن يعمل طوال حياته.