تعديل قانون الإيجارات تنازلات محدودة وكوارث قادمة
محمد حسن خليل
الحوار المتمدن
-
العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 02:47
المحور:
الادارة و الاقتصاد
بعد أن ثار ممثلو المستأجرين ضد قوانين حرمانهم من حق السكن، وبعد أن أيدتهم مختلف القوى السياسية المعارضة والكثير من الاقتصاديين، قدمت الحكومة مسودة جديدة للقانون للجلسة العامة للبرلمان، بعد أن أقرتها اللجنة المشتركة من مكاتب لجان الإسكان والإدارة المحلية والتشريعية بمجلس النواب، مما يشي بنية الحكومة للإصرار على تمرير القانون قبل نهاية شهر يونيو وانتهاء الدورة البرلمانية.
قدَّمت المسودة الجديدة تنازلين محدودين، حيث جعلت انتهاء العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر للوحدات السكنية تأتي بعد 7 سنوات بدلا من خمس، كما خفضت من الحد الأدنى للقيمة الإيجارية من عشرين ضعفا للإيجار القانوني الحالي بحد أدنى 1000 جنيه شهريا في المدن و500 في القرى، إلى عشرين ضعفا بحد أدنى 1000 جنيه في المناطق المتميزة، وعشرة أضعاف بحد أدنى 400 جنيه في المناطق المتوسطة، و250 جنيه شهريا في المناطق الاقتصادية. ويتم تطبيق حد أدنى 250 جنيها بدءا من الشهر القادم حتى صدور قرار المحافظ بحصر الشقق وتقسيم مستوى المناطق خلال 3 شهور أو ستة كحد أقصى، على أن يستوفى الفارق خلال بضعة شهور بعد صدور قرار المحافظ. وتزيد القيمة الإيجارية سنويا بنسبة 15%، مبررة بالتضخم طبعا! إذن لماذا نسيت الحكومة التضخم عند تحديد الزيادة السنوية للأجور، كما يحدث في الدول المحترمة، بربط الأجور بالأسعار وزيادتها بنسبة التضخم المعلنة؟!
وصدر مع مشروع القانون هذه المرة مذكرة توضيحية تفصيلية مكتوبة بعناية، توضح منطق القانون: فهي تقول أن ظروفا استثنائية مثل الحربين العالميتين وظروف أخرى هي ما استتبعت إصدار قرارات أو قوانين استثنائية (أو حتى عادية) لتحديد الإيجارات، خروجا عما تتصوره المذكرة "الأحوال العادية" التي تراها الحكومة، وفقا لنص المذكرة: "... العودة بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر إلى القواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني، بحسبان عقد الإيجار عقد رضائي، يخضع فيما تضمنه من التزامات متبادلة بين طرفيه إلى سلطان الإرادة..."!! تردد مذكرة الحكومة خرافة تساوي المراكز بين المالك والمستأجر، وحرية كل منهما في اختيار شروط العقد الرضائي بينهما في ظل القانون المدني!!
إذن لماذا خلال قرن كامل لم يُترَك قانون التساوي هذا ليفعل فعله؟ لأنه، في الحقيقة، لا يوجد تساوي بين وضع الملاك الذين يمتلكون قوة رأس المال والقدرة على الاحتكار، لأنهم قلة، أمام المستأجرين الذين رغم كثرتهم، لم يوجد تنظيم فعال يدافع عنهم في ظل الأوضاع السيئة. لهذا فكانت الحربان العالميتان والأزمات الاقتصادية هي مناسبة تدخل الحكومة لتحديد القيمة الإيجارية، شأنها شأن التسعيرة الجبرية. أما الحرية الخرافية التي تدافع عنها الحكومة، حرية رأس المال، فلا توجد إلا في أعتى أنظمة الليبرالية الجديدة، أما في كل الدول التي تتدخل فيها الدولة لتنظيم عقد اجتماعي عادل يفي باحتياجات الجمهور مع نسبة ربح معقولة للملاك، فيتم فرض شروط مضادة للاحتكار، وتحديد حد أعلى للقيمة الإيجارية، لكيلا تدع رأس المال القوي يستغل حاجة المواطن الضعيف. هذا ما كان يحدث في مصر أيضا سابقا، قبل تراجع الحكومة وتبني السياسات النيوليبرالية التي تسحق الفقراء.
طبقت حكومتنا تلك السياسات مرتين من قبل: الأولى في قانون رقم 96 لسنة 1992 الذي حرر إيجارات الأرض الزراعية فارتفع إيجار الفدان من 32 جنيها سنويا عام 1992 (وهو ظالم للمالك بحكم التضخم) إلى أن أصبح إيجار الفدان الآن يتراوح بين 38 ألفا و48 ألفا من الجنيهات سنويا، مما يشكل محاباة ضخمة للملاك ذوي الريع الضخم على حساب المستأجر الذي يقوم بكل العمل الزراعي ولا يكاد يجد ما يكفي لحياته! انتقلنا من ظلم المالك إلى ظلم المستأجر!!! والمرة الثانية لتطبيق نفس المبدأ، في لقانون رقم 4 لسنة 1996، الذي حرر إيجارات الأماكن السكنية والتجارية، المحررة بعد إبريل عام 1996 لتخضع للقانون المدني، الإرادة "الحرة" المزعومة لطرفيّ العقد كما تقول الحكومة، فتصبح الإيجارات بدون حد أقصى لمزيد من إفقار المواطنين المصريين من أجل الحصول على سكن!
لهذا تقول المذكرة الإيضاحية أنها تُعَمِّم هذا الوضع "الطبيعي" الجميل (؟!) على كل العقود، جديدها وقديمها، من خلال مشروع القانون الجديد! عدالة الدولة الشكلية تعتبر أن الملاك والمستأجرين متساوون في المراكز القانونية! ولكنهم حقيقة غير متساوين في القوة الاقتصادية إلا إذا تدخلت الدولة لوضع حد أقصى لكل منطقة، لتوفيق أقرب للعدالة، بين حق المالك في العائد المناسب، وحق الساكن في الحصول على السكن بما يتناسب مع دخله، حيث ينص الدستور على "العدالة الاجتماعية"، وإقرار "حق السكن للمصريين" في المادة 52 منه.
إلى أين تريد الحكومة أن تصل بالمجتمع المصري؟ ألم ترَ كيف أصبح 35% من المصريين تحت خط الفقر الأول وفقا لإحصاءاتها، بينما يقدرهم البنك الدولي ب 55%؟! ألا تقول إحصائيات خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة أن عوائد التملك في مصر من ريع وربح وفائدة تبلغ 68% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما لا تزيد حصة الأجور (حكومية وقطاع خاص، منظم وغير منظم) عن 22% من الناتج المحلي الإجمالي؛ وللمقارنة: يبلغ نصيب الأجور في أمريكا، إنجلترا وفرنسا 59%، 54%، و59% من الناتج المحلي على التوالي. أي هوة تلقي قوانين الحكومة بالفقراء فيها، وأي إساءة لتوزيع الدخل إذا تم إقرار هذا المشروع الجديد لقانون الإيجارات؟
على أن أسوأ جوانب عوائد التملك هو الريع، لأنه، بالذات في حال تضخمه لانسحاب الدولة بتحديد أي قيم أو حد أقصى له، يشجع الاستثمارات الريعية على حساب الاستثمارات الإنتاجية في زراعة أو صناعة. إن أول من انتقد الريع الزراعي والعقاري هم مفكرو الرأسمالية بدءا من آدم سميث، بغرض دعم تطوير الزراعة والصناعة، وكان هذا هو الدافع الأساسي لإصدار قوانين تحديد الإيجارات الزراعية والعقارية في مصر كما في معظم دول العالم وقتها: أي الحرص على التنمية التي يجب أن تكون ركيزتها الأساسية هي الصناعة التحويلية بالذات وليس العقارات. إن غياب المسؤولية المجتمعية للحكومة هي أكبر محرض ضد الاستقرار السياسي، فلا استقرار بغير العدالة الاجتماعية.
لقد طالب ممثلو المستأجرين، وطالبنا معهم كأحزاب اشتراكية معارضة واقتصاديين المستقلين، بحذف بند إلغاء عقد الإيجار بعد سنوات محددة، وهو سينتهي حتما بوفاة المستحق أو أول وريث له. كما طالبوا بالاتفاق على عدم المبالغة في القيمة الإيجارية عشوائيا، بل ربطها بقيمة السكن وقيمة إيجارية توفر للمالك عائدا بنسبة ربح مقبولة اجتماعيا، ويكون مستوى الإيجار في مستوى الدخول المتاح؛ على أن يتم هذا كله عبر اتفاق ديمقراطي بين ممثلي كل من المستأجرين والملاك ويتم تقنينه قانونيا، حفاظا على حق المواطن في الأمان السكني، والعدالة الاجتماعية.
دكتور محمد حسن خليل