خطاب الرئيس السيسي والأزمة المجتمعية والحل المطروح


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7237 - 2022 / 5 / 3 - 23:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لعل أهم ما في خطاب الرئيس هو اعتراف الرئيس بأن مصر تواجه أزمة اقتصادية عنيفة ومتفجرة، ويطرح رؤيته لأسبابها، وأخيرا يطرح رؤيته لسبل حلها.
وأثناء اعتراف الرئيس بالأزمة يخرج عن النص المكتوب في استطرادات طويلة وشديدة الأهمية، يتبنى فيها عددا من مقولات المعارضة، مثل الاعتراف بعمق الأزمة في مجالي الصحة والتعليم، حيث اعترف بأن معدل الأطباء في مصر، 1.4 طبيب لكل ألف مواطن، وهو نصف المعدل العالمي (2.8)، نظرا لهجرة الأطباء لعدم كفاية الرواتب. نتيجة لنقص الميزانية. كما أقر بأننا نحتاج لستمائة ألف فصل دراسي ولكننا لا نملك التمويل اللازم، حيث اعترف بأن الإنفاق الحالي على التعليم والصحة هو نصف النسبة التي حددها الدستور.
في معرض الحديث عن أسباب الأزمة يتحدث الرئيس عن سببين رئيسيين هما ثورة يناير 2011، والإخوان المسلمين. ويقول أن الفترة التالية لثورة يناير أدت لاستنزاف احتياطي النقد الأجنبي في مصر بالكامل. وأن الأشقاء العرب تبرعوا بعشرات المليارات من الدولارات. أما الإخوان المسلمين فهم المسؤولون عن الإرهاب الذي كلف القوات المسلحة إنفاق مليار جنيه شهريا لمدة سبع سنوات، أي إجمالي 84 مليار جنيه مصري، كما أن الجيش والشرطة قد قدموا في تلك المعركة 2272 شهيدا، ونحو اثنا عشر ألف مصاب أخرجتهم إصابتهم من الخدمة. كما أضاف الرئيس لأسباب الأزمة معدل الزيادة السكانية المرتفع، حيث تولى الرئيس منصب الرئاسة بينما السكان ثمانون مليونا، وأصبحوا الآن مائة مليون بينما لم تزد الموارد.
ولكن ما أنقذ البلد في رأيه هو ثورة 30 يونيو وإلا كان مصيرنا مصير بلدان عربية أخرى مثل سوريا وليبيا، فمصر وحدها هي البلد الوحيد الذي قامت فيه ثورة وتم إنقاذه. ولكن المواطن المصري تحمل الآثار الناجمة عن الإصلاح الاقتصادي، وذلك بالتوازي مع إعادة بناء وتطوير البنية التحتية للدولة، وهو ما سيأتي برأس المال المحلي والأجنبي للاستثمار في التنمية. أما ما يطرحه الخطاب من حل لتلك الأزمة فهو حل اقتصادي يقوم على تحديد دور الدولة الاقتصادي، بمعنى الخصخصة الواسعة، مع الاستعداد لإجراء تغيرات في قضية الحريات، بدأها بالفعل بهذا الحوار مع المعارضة التي تباسط معها في الحديث، والإفراج عن بعض المحبوسين في قضايا الرأي، والتي يعلم الرئيس جيدا أن المعارضة تطالب بها منذ زمن بعيد، فالكثير من أحزاب المعارضة لديها أعضاء قياديون من بين المحبوسين لفترات طويلة، دون قضايا جدية ودون أسباب أو أدلة واضحة.
وفي قضية الحريات الديمقراطية تحدث الرئيس عن إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي. كما تحدث عن إجراء حوار وطني مع كل القوى السياسية دون استثناء، واختار شكل الحوار بأن كلف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة القادمة. ونبَّه إلى أهمية شمول الحوار لكافة القوى السياسية، وعرض نتائج الحوار على الرئيس، مع التعهد بحضور المراحل النهائية في الحوار.
لقد ركز الرئيس على أسباب تفاقم الأزمة حاليا، من داء كوفيد 19 (الكورونا)، ثم الحرب الأوكرانية. وقد شملتا جميع دول العالم، وإن كنا الأقل تأثرا بأزمة الوباء من حيث استطعنا أن نتحقق نموا متواضع في الناتج المحلي الإجمالي، في حين حققت معظم دول العالم كسادا وتراجعا في ناتجها المحلي.
طرح الرئيس حلين رئيسيين فوريين للمشاكل الاقتصادية التي تعرض لها، وأهمها العجز عن تمويل التنمية والخدمات. يتمثل الحل في إعادة تحديد سلطة الدولة من خلال إصدار وثيقة سياسة ملكية الدولة، وواضح ما تعنيه، ألا وهو تقليص دور الدولة في الاستثمار وفي ملكية الأصول، وإشراك القطاع الخاص، (المفهوم طبعا أنه القطاع الخاص بأقسامه المحلي والعربي والعالمي) في التنمية من خلال بيع الأصول الحكومية له. ولكي يكون الموضوع واضحا تماما صرح الرئيس بأن الحكومة تستهدف بيع أصول بقيمة عشرة مليارات دولار سنويا لمدة أربع سنوات (وهو ما يزيد إجماليه عن نصف ترليون جنيه مصري وفقا لقيمة الدولار حاليا). وأعلن عن طرح حصص من شركات الدولة في البورصة، مع بيع شركات تابعة للقوات المسلحة في البورصة قبل نهاية هذا العام. وأكد على استمرار السياسات التقشفية حين طلب من الحكومة إعلان خطة واضحة وملزمة لخفض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الأجنبي.
بجانب هذا عرض سيادة الرئيس الإجراءات التي تقررت لتخفيف الأزمة على المواطنين مثل إشراك القطاع الأهلي من جمعيات، وإدارة الزكاة بالأزهر، مع الحكومة في توسيع برنامج حياة كريمة، وهو ما يحتاج إلى ثمانمائة مليار جنيه مصري من أجل تحسين أحوال 60 مليون مصري. كما أوصى بسداد غرامات السجناء الغارمين بمبلغ 45 مليون جنيها، وباستمرار الأسعار المدعومة للسلع الأساسية على البطاقات، مع استمرار معارِض الجيش والشرطة لبيع السلع بأسعار مخفضة. وقد سبق تلك الإجراءات مؤخرا زيادات في المعاشات بنسبة 13% كعلاوة استثنائية مع زيادات في المرتبات، وبدء الزيادات قبل السنة المالية الجديدة بثلاثة أشهر لتصبح مفعلة منذ أول شهر إبريل من هذا العام.
وشمل حديث الرئيس لحل الأزمة حفز الإنتاج من خلال زيادة المساحة المزروعة قمحا مع دعم مزارعي القمح بزيادة أسعار شراء الحكومة له. كما تحدث عن مبادرة لدعم وتوطين الصناعات الكبرى والمتوسطة عن طريق تعزيز دور القطاع الخاص في تلك المجالات.
وتنطلق السياسة الاقتصادية المطروحة لحل الأزمة، تنطلق من نفس أسس السياسة السابقة، في الواقع منذ بداية الانفتاح الاقتصادي عام 1974، وإن كانت ترفعها إلى مستويات جديدة غير مسبوقة من قبل. أركان تلك السياسة الاقتصادية هي تقليص دور الدولة، وإعطاء الدور الرئيسي في الاقتصاد للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، مع تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات والدعم والأجور كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وتغرق الحكومة في الاستدانة من الخارج، وفي خصخصة الأصول الإنتاجية والخدمية.
ويهمنا هنا أن نوضح لماذا تُصِر مؤسسات التمويل الدولية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الأوروبي وغيرها على ذلك المنطق في حل الأزمة الاقتصادية. بالطبع تنطلق تلك التوصيات من الأوضاع الحالية والمصلحة الاقتصادية للدول المتقدمة: فجميع تلك الدول المتقدمة يوجد لديها فائض إنتاج ترغب في تسويقه في دول عالمنا "الثالث". وهي رغم تنافسها مع بعضها في التصدير لمختلف دول العالم، فإنها تجمع على الأهمية الحاسمة لسياسة حرية التجارة ورفض أي سياسات حمائية للصناعات الوطنية. كما تُصِر تلك المؤسسات على فتح الأسواق لصادرات رؤوس الأموال منها لدولنا، سواء في شكل قروض، للحكومات أساسا وأيضا لشركات القطاع الخاص، أو في شكل استثمارات تعود عليها بالعائد.
وتصدير رؤوس الأموال الأجنبية لنا في شكل ديون لا يهدف فقط إلى الحصول على فوائد القروض، ولكنه يهدف إلى استخدام القروض في فرض شروط اقتصادية (وأيضا شروط سياسية، وليس ببعيد فرض التطبيع مع إسرائيل على السودان مقابل قروض البنك الدولي!). ومن أهم الشروط التي تفرضها أيضا التقليص الشديد لتدخل الدولة في الاقتصاد، وتقليل الضرائب على المستثمرين المحليين والأجانب بدعوى تشجيع الاستثمار وبالتالي "التنمية"، وزيادة موارد الدولة من خلال فرض ضرائب غير مباشرة على الشعب كله بما فيها الأغلبية الفقيرة والمتوسطة الدخل، مثل ضريبة القيمة المضافة، والضرائب على الوقود بما يسمى بالوصول إلى الأسعار العالمية للطاقة حتى لو كان البترول ينتج من نفس البلد ويتكلف نسبة قليلة جدا من سعره العالمي. كما سبقت الإشارة إلى شروط فتح الأسواق المحلية من أجل تسويق فائض الإنتاج الراكد بالدول المتقدمة.
وبالطبع فإن تقليص دور الدولة في الاقتصاد وتخليها عن أي أرباح تحققها من استثماراتها لابد وأن يترابط مع السياسات التقشفية وتقليص الإنفاق الحكومي على الدعم والخدمات من صحة وتعليم وغيرها. والدور الوحيد الذي يترك للدولة في هذا السياق هي تطوير الخدمات والمرافق الأساسية من طرق واتصالات وغيرها، من أجل اجتذاب الاستثمارات الخاصة والأجنبية. وتقليص دور الدولة يعني بالطبع الخصخصة الواسعة لمشروعات الدولة الإنتاجية وأيضا الخدمية.
ومن أهم الشروط التي تفرضها المؤسسات الدولية فتح الأسواق المحلية أمام السماح بتصدير رؤوس الأموال في شكل استثمارات مُدِرَّة للربح. وتتكامل سياسات تصدير رؤوس الأموال في شكل قروض وديون مع تصدير رؤوس الأموال في شكل استثمارات، إذ كثيرا ما نرى الاستثمارات تتركز في استغلال الموارد الطبيعية والمنجمية (البترول والمعادن بما فيها الذهب وغيرها)، بينما تتوجه القروض إلى تطوير البنية التحتية من طرق وموانئ وسكك حديدية خدمة لنقل وتصدير تلك الخامات للخارج، مع استيراد السلع الغربية وتوزيعها في البلد المعني. وتشتمل تلك السياسات على التخفيض المتتالي للعملة المحلية بآثارها المهلكة المتعددة: فهي أولا تخفض قيمة الأصول التي تبيعها الحكومة من خلال تقييمها بالعملة الصعبة. إن خصخصة مصنع يساوي مائة مليون جنيه مصري يباع عام 1974 يباع نظريا بمائتين وخمسين مليون دولار، ولكنه الآن يباع بما لا يزيد كثيرا عن خمسة ملايين دولار!
المحصلة الكلية لكل تلك السياسات هي إدماج الاقتصاد المحلي في الاقتصاد العالمي من موقع التابع، وتقليص التكامل الداخلي للاقتصاد بتصدير الخامات دون تصنيعها في حالات كثيرة، وتغييب الصناعات الثقيلة والأساسية. ومن المعروف أن تطور الصناعات الثقيلة والأساسية استند في نشأته إلى تدخل الدولة حتى في الدول الغربية المتقدمة التي مازال يوجد بها قطاع دولة كبير، ولكن فرض سياسات تقليص دور الدولة يؤدي إلى تصفية تلك الصناعات في الدول تعظيما لتبعيتها الاقتصادية للخارج واحتياجاتها إلى الدول المتقدمة في توفير الآلات والسلع الوسيطة.
وتطبق بلادنا تلك السياسات منذ الأخذ بسياسة الانفتاح عام 1974، وبالتالي فقد آن الأوان لتقييم آثار تلك السياسات علينا. ركزت السياسات الاقتصادية الانفتاحية في مصر خلال تلك الفترة التي تقترب من نصف قرن على تعزيز البنية التحتية والتخلص من الهياكل الإنتاجية الحكومية، فهل أدي هذا إلى قدوم القطاع الاستثماري المحلي والأجنبي لدفع عجلة التنمية في بلادنا؟ نلاحظ بالطبع أن قدوم رأس المال المحلي والأجنبي استهدف شراء أصول إنتاجية محلية (بالبخس كما رأينا في مختلف صور الفساد التي زكمت رائحتها الأنوف)، دون الإقدام على إنشاء أصول إنتاجية جديدة ذات وزن.
لقد تمت إعادة هيكلة الصناعة المصرية بالتخلص من صناعاتها الثقيلة مثل الحديد والصلب والمراجل البخارية، وتوسعت القطاعات التي تخدم التصدير للبلدان الأجنبية مثل الصناعات الملوثة للبيئة مثل الأسمنت والأسمدة والسيراميك. وحتى تلك القطاعات تم تحويلها من شركات ناجحة مربحة ملك للدولة إلى شركات مخصخصة ومملوكة الآن للقطاع الخاص المحلي والأجنبي. كما تمت إعادة هيكلة السياسة الزراعية للتركيز على السلع الزراعية التصديرية مثل الفواكه والخضراوات، على حساب الغذاء المحلي.
كما تدهور سعر الجنيه المصري على حلقات متتالية منذ بداية الانفتاح، حينما كان سعر الدولار 40 قرشا، يبرز من بينها تخفيض عام 1979 إلى 70 قرشا للدولار، ليصبح السعر في أوائل التسعينات ثلاث جنيهات للدولار. وفي عام 2003 جاءت قرارات لجنة سياسات جمال مبارك بالتعويم المحكوم للجنيه المصري لكي يزيد سعر الدولار إلى أكثر من ست جنيهات. وخلال العام 2016 قفز الدولار مع تعويم الجنيه الكامل إلى قرب ستة عشر جنيه مصري. والآن، عام 2022 زاد سعر الدولار إلى نحو ثمانية عشر جنيها ونصف، ومازال يتوقع زيادته في قادم الأيام. أي أن حصاد نصف قرن من الانفتاح هو تخفيض الجنيه لتصبح قيمته منسوبة للدولار مجرد 2.2% من قيمته قبل الانفتاح!!!
وأدى تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات إلى تدهور التعليم والصحة كما اعترف الرئيس في خطابه. وانتشر التضخم الشديد لأسباب متعددة مثل تقلص الإنتاج المحلي ونسب الاكتفاء الذاتي الزراعي والصناعي، مع زيادة أسعار السلع المستوردة مع كل تخفيض لقيمة الجنيه المصري. وساهم فيه أيضا تقليص كل تدخل للدولة في تسعير السلع وإطلاق يد القطاع الخاص.
تركزت استثمارات القطاع الخاص المصري في الصناعة على الصناعات الملوثة للبيئة التي أشرنا إليها. كما ركزت على صناعات خفيفة مثل الغزل والنسيج والأقمشة والصناعات الغذائية وصناعة الأجهزة المنزلية، وجميع تلك الصناعات تعتمد على استيراد الآلات والسلع الوسيطة، في ظل غياب مزمن للصناعات الثقيلة المصرية، والتصفية التدريجية لما كان موجودا منها كما سبقت الإشارة. كما تركزت الاستثمارات أيضا في التجارة التي اتسمت بطابع احتكاري، حتى تراوحت التقديرات عن أرباح القطاع التجاري المصري بين 40% و60%! كما ركزت الاستثمارات المصرية أيضا على الاستثمار العقاري، والذي ركز بدوره على بناء المجمعات السكنية الفاخرة (الكمباوندات) والقرى السياحية، والإسكان الفاخر في المدن، حتى صار لدينا ملايين متعددة من الوحدات السكنية الفاخرة الخالية والمغلقة، في مقابل نقص شديد في الإسكان الشعبي والمتوسط. وركز الاستثمار الزراعي الرأسمالي الكبير أساسا على سلع التصدير من فاكهة وخضراوات. كما لا ننسى الدور المهم الذي لعبته وتلعبه الاستثمارات المالية في البنوك وشركات التأمين وغيرها.
وأخطر نتيجة للسياسات الاقتصادية المطبقة في نصف القرن المنصرم هو أثر كل تلك السياسات (بما فيها من انخفاض الإنتاج ونسب الاكتفاء الذاتي الزراعي والصناعي، وتخفيض قيمة العملة، والنتائج المتمثلة في التضخم الشديد)، أثر السياسات المتبعة على الاستقطاب الشديد للدخول في مصر، حيث تتزايد نسبة الفقر بشدة، وتعترف الحكومة المصرية بأن النسبة الواقعة تحت خط الفقر في الشعب المصري تصل إلى نحو ثلث الشعب (30%)، بينما يقدر البنك الدولي نسبة السكان تحت خط الفقر بالإضافة للسكان الواقعين على حافة الفقر والمهددين بالوقوع في الفقر تبلغ نحو ثلثي الشعب المصري!
إن ذلك الاقتصاد ينذر بعواقب وخيمة من ناحية الكساد المتزايد الناتج عن الإفقار المتزايد للشعب، وعن فوضى الإنتاج وفائض الإسكان الفاخر، خصوصا في ظل سياسات بيع الدولة الواسع للأراضي، مما ينذر بانفجار فقاعة رهن عقاري تشترك في بعض الملامح مع الأزمة العالمية لعام 2008، بالذات فيما يخص البنوك التي تقرض المستثمرين العقاريين، كما تتميز بمزايا خاصة بواقعنا المحلي، ليس هنا مقام التفصيل فيها.
وبالعودة إلى خطاب السيد الرئيس، نرى أن أهم وأخطر ما فيه هو الاعتراف بالأزمة الاقتصادية الحادة التي نواجهها، مع تسويق حل تلك الأزمة من خلال السير أشواطا هائلة في نفس المسار الذي نسير فيه منذ بداية عصر الانفتاح، من خلال الخصخصة الواسعة للأصول الإنتاجية الخدمية. تتخذ تلك الخصخصة شكل إصدار "وثيقة سياسة ملكية الدولة"، التي تهدف كما يقال إلى إشراك القطاع الخاص في التنمية وفي ملكية الأصول الإنتاجية والخدمية، فيما يبدو أنها تجعل القطاع الخاص (دون تفرقة بالطبع بين قطاع خاص مصري وعربي وأجنبي) هو المتصدر الرئيسي والمالك الرئيسي لأصولنا الإنتاجية والخدمية.
وفي المقابل يطرح الرئيس التوسع في سياسات الحماية الاجتماعية التي توصي بها المؤسسات الدولية، والتي رأينا أنها لم تُعَدِّل إلا قليلا من الفقر الذي استمر في التزايد مع تطبيق تلك السياسات. كما يطرح بعض الاستعداد لبعض التنازلات في مجال الحريات الديمقراطية مثل إطلاق سراح بعض سجناء الرأي. ولكن لابد وأن تكون استجابة المعارضة للسياسات الجديدة التي بدأ اتخاذها متوائما مع خطورة السياسات المطروحة.
إن خطورة الانعطافة التي تقدم مصر عليها حاليا تستوجب من الجميع، وبالذات تستوجب من جميع فصائل المعارضة، أن تتقدم لمناقشتها ولتقديم البدائل التي تراها لحل المشكلة الاقتصادية، بالطبع بجانب الدفاع عن الحريات الديمقراطية المفتقدة. إن المناقشة الواسعة لواقع اقتصاد بلادنا، ومشكلته المتفجرة حاليا، والبدائل المقترحة لتلك السياسات، تستوجب نقاشا واسعا، ليس أساسا من خلال مؤتمرات الشباب، ولكن من خلال مؤتمرات متخصصة تضم الخبراء الاقتصاديين والسياسيين من الحكومة والمعارضة وكافة الجامعات ومراكز الفكر الاقتصادي في مجتمعنا.
ونحن نرى أن تلك الأزمة لا يمكن مواجهتها بإجراءات جزئية، ولكن بإعادة نظر في الخيارات الاقتصادية الكلية. لابد بداية من التركيز على الاقتصاد الإنتاجي، ورفع نسب الاكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي والصناعي. ومن أجل تعبئة الاستثمار في تلك المجالات لا يجب اللجوء السهل لحل كل أزمة بزيادة الديون، والبديل هو تعبئة الفائض المحلي، عن طريق وقف الاستهلاك الترفي السفيه لأغنياء يتصورون أن من حقهم استيراد كل منتجات الاستهلاك الأجنبي ما داموا يدفعون الضرائب والجمارك. لابد من منع تلك السلع من دخول الِأسواق لمنع تبديد الفائض فيها. كما لابد من سياسات ضريبية تقوم على الضرائب التصاعدية، ولا تستبعد فرض ضريبة ثروة لمرة واحدة، بالذات على الثروات النقدية، مع تقليل الضرائب غير المباشرة على الشعب الفقير، والتوقف عن رفع الأسعار المسرف لخدمات المياه والكهرباء وكافة الخدمات الحكومية. ولابد من وقف الإنفاق الحكومي المسف وترشيد الإنفاق.
كما لابد وأن تركز تلك السياسات التنموية على التنمية البشرية من خلال التعليم والصحة، فهذا استثمار يهدف لزيادة الطاقة الإنتاجية، وزيادة الاعتماد على الذات. لابد وأن يكون المواطن في القلب من التنمية، هدفا ووسيلة للتنمية، ورفض قصر النظر الذي لا يرى في المواطنين سوى مستهلكين لا نجد إنتاجا وخدمات تكفيهم، ويجب النظر إليهم كقوة منتجة. والبشر لا يصبحون قوة منتجة إلا من خلال نظام اقتصادي تنموي سليم، ومن خلال الاستثمار في نوعية البشر من خلال تطوير تعليمهم وتدريبهم وصحتهم.
كما لابد وأن تترابط تلك الإجراءات مع رفض الدولرة المتزايدة للاقتصاد المصري، ونطالب بعودة الجنيه المصري سيدا في بلده، مع مركزة العملة الأجنبية بالبنك المركزي والبنوك المعتمدة من أجل تركيز استخدامها على استيراد المنتجات الأساسية ومستلزمات التنمية المختلفة. لابد من مقابلة سياسات التبعية الاقتصادية للخارج بسياسة تنموية تركز على الاعتماد على الذات، وعلى إشباع احتياجات الطبقات الفقيرة والشعبية. وبالطبع فنحن لا ندَّعي امتلاك الحقيقة وحدنا، ولكننا نستهدف من طرح رأينا المساهمة مع جميع الجهات الجادة في طرح الموضوع للنقاش الديمقراطي الواسع، وتحقيق أجماع شعبي على سياسات الخروج من الأزمة.