أفغانستان بين النجاح والفشل


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7067 - 2021 / 11 / 4 - 21:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد الاستسلام السريع والانهيار للجيش الأفغاني الرسمي وهروب رئيس الجمهورية، وبعد استيلاء طالبان على العاصمة كابول بعد سيطرتها على معظم أفغانستان، تدور التساؤلات حول من هو الكاسب ومن الخاسر، ولكن الأدق أن نقول من خسر ماذا وكسب ماذا، وهكذا بالنسبة لكل طرف.
نبدأ بأمريكا. المشهور أنها فشلت لأنها بعد نحو عشرين عاما من الاحتلال وإسقاط حكم طالبان تضطر إلى الانسحاب وطالبان تعود. ولكن لنتذكر ما هي الأسباب التي دعت أمريكا إلى احتلال أفغانستان في المحل الأول؟ الإجابة الشهيرة بالطبع هي هجمات القاعدة على برجيّ التجارة العالميين في 11 سبتمبر 2001، ولكن لنبدأ بتمحيص هذا السبب. بالطبع التدريب والاستعداد للحروب يستحيل أن يتم في شهرين بين هجمات سبتمبر والاحتلال في نوفمبر، بل كان معدا من قبل هذا الاحتلال فلماذا؟
لأمريكا مصلحة استراتيجية في أفغانستان تتلخص في بحيرة النفط والغاز لبحر قزوين، وأفغانستان أقرب طريق لإخراجه للعالم من خلال خطوط أنابيب تنقله إلى بحر العرب عبر باكستان. وبالطبع هناك مصلحة أخرى لأمريكا في أفغانستان تتعلق بالهيمنة الجغرافية على هذه المنطقة المحاطة بجمهوريات الاتحاد السوفيتي الإسلامية التي خرجت منه بعد السقوط في عام 1991.
لهذا دعمت أمريكا، بعد دخول القوات الروسية إلى أفغانستان عام 1979، دعمت أمراء الحرب، برهان الدين رباني، وعبد الرشيد دوستوم، وأحمد شاه مسعود، وكلهم من أمراء المخدرات بين الزراعة والتصنيع والتجارة. دعمتهم أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي في حرب السنوات العشر التي انتهت بهزيمة القوات السوفيتية وخروجها من أفغانستان عام 1989.
منذ هذا الخروج والولايات المتحدة تحاول عمل دولة مركزية تسيطر على أفغانستان لتستطيع التحكم في مواردها، إلا أنها فشلت فشلا زريعا، لأن "المجاهدين" الذين "حرروا أفغانستان من السوفييت" لم يتخلوا عن كونهم أمراء حرب متنافسين اشتعلت بينهم الحروب. والحل الذي توصلت إليه أمريكا في النهاية هو تشكيل تنظيم جديد من خارج هذه الدائرة، طالبان، القادمين من طلبة المعاهد الدينية. تمكن هؤلاء بدعم أمريكيّ هائل عام 1996 من السيطرة على أفغانستان وتشكيل حكومة.
خلال الفترة بين 1996 و1999 استمرت العلاقات ممتازة بين طالبان وأمريكا، وكان قادة طالبان يتلقون مرتبات منتظمة من المخابرات الأمريكية، كما كانت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في زيارات مكوكية دائمة إلى كابول. ولكن تعكر صفو العلاقات بين أمريكا وطالبان بالاصطدام على محور هام: خط أنابيب البترول والغاز المشار إليه أغلاه، حيث تنافس على إنشائه مجموعتان من الشركات: مجموعة بقيادة شركة أمريكية، ومجموعة بقيادة شركة فرنسية. ورغم أن أمريكا كانت تفترض أن إسناد المشروع إليها بديهيّ بعد كل ما قدمته لطالبان، فوجئت بطالبان تتفاوض سرا مع المجموعة الأخرى.
لهذا توصلت أمريكا إلى أنه لا بديل عن تواجدها بنفسها واحتلال أفغانستان، ومنذ عام 1999، بدأت قوات الجيش الأمريكي في التدريب على احتلال أفغانستان في صحراء جنوب غرب أمريكا المشابهة جدا للظروف في أفغانستان. لم يكن الموضوع ينتظر سوى الشرارة التي تشعل الحرب، وهو ما فعله هجوم القاعدة على برجيّ التجارة العالميين. ولسنا هنا بصدد مناقشة هل الهجوم حقيقي أم مدبر أو تم معرفته مخابراتيا ولكن تم التغاضي عنه عمدا، فهو حديث خارج حدود المقال.
بالطبع نجحت أمريكا بعد غزو 2001 في إقامة خطوط البترول والغاز، وحصلت على بامتيازات ضخمة، ومازالت تحصد سنويا نسبتها في عائد تأسيسها وإدارتها له، وثبتت مصالحها الاقتصادية في أفغانستان. ولكنها بالطبع لا تبرز تلك المكاسب التي تحققت، وإنما تبرز فقط ما أنفقته عسكريا في أفغانستان، وكأنه من أجل عيون أفغانستان والديمقراطية بها ومقاومة الإرهاب والدفاع عن حقوق المرأة الأفغانية وغير هذا من مستلزمات الزينة للتغطية على الحقيقة.
ولكن بالطبع هناك جانب معين من الفشل في تحقيق هدف معين وهو الاستقرار العسكري في تلك المنطقة الهامة، واضطرارها للانسحاب بعد الاستنزاف الضخم. والجيش الأفغاني الضخم الذي سلحته ودربته أمريكا، والذي يبلغ عدد قواته أربعة أضعاف عدد طالبان (ثلاثمائة ألف مقابل 75 ألف لطالبان) كان يفتقر إلى عقيدة أمن قومي وطنية، كما أنه يدرك فشله وهو يقاتل طالبان إلى جانب أمريكا فما الحال إذن عند مغادرة أمريكا؟ لهذا استسلم وانهار فورا.
أما بالنسبة للصين، أقرب المواقف إلى تأييد طالبان، فهي تتخذ موقفا براجماتيا ينطلق من مصالحها. ومصالح الصين تتركز في نقطتين: أولا استثمارات الصين الحالية في ثلاثة مناطق آبار منفصلة في أفغانستان، وكذلك في استخراج الحديد والنحاس من مناجمه. وهي تنوي تطوير تلك الاستثمارات بالتركيز على استخراج المعادن النادرة مثل الليثيوم والسيزيوم وغيرهما، لندرة أماكن تواجده، وتركزها في وسط أفريقيا ثم في أفغانستان. والصين بالفعل تسيطر على تلك الموارد في أفريقيا.
أما الهدف الثاني فهو يتعلق بمبادرة الحزام والطريق، حيث يمر الطريق البري للتجارة إلى أوروبا بأفغانستان، كما إن مبادرة الحزام تتمثل في بناء حزام من الاستثمارات التجارية والصناعية محيطة بالطريق، وهو ما يمكن تأمينه بالتعاون مع الحكم في أفغانستان، أي حكم!
أما بالنسبة لروسيا فهي الأخرى تتعامل بمنطق براجماتيّ، وتدرك جيدا استحالة القضاء على حكم طالبان، لا من أمريكا ولا من غيرها، وتركز جهودها على احتواء طالبان بمنعها من التمدد ونشر الإرهاب سواء في روسيا أو في دول الاتحاد السوفيتي السابق، والمرتبطة معها الآن بمعاهدات أمن ومعاهدات تجارة هامة. ولروسيا قاعدة جوية ضخمة في جمهورية قرغيزيا القريبة من أفغانستان، كما إنها قامت بإجراء مناورات عسكرية مشتركة على حدود أفغانستان في طاجيكستان. المهم هو النفوذ الجيوبوليتيكي وحماية روسيا من الإرهاب!
أما بالنسبة لأوروبا، ولدول كثيرة أخرى تضم تركيا وإيران، كما تضم منطقتنا العربية وأفريقيا، فكها تتخوف من تقوية الإرهاب بعد إيجاد دولة كاملة كملاذ آمن للتجنيد والتدريب وتصدير الإرهاب. كما تخشى دول أوروبا من موجات الهجرة إليها نتيجة لعدم الاستقرار ومشاكل الحكم في أفغانستان. كذلك يتخوف الكثيرون من انتعاش تجارة المخدرات، رغم وعود طالبان باستئصالها، ولكن يبقى انتظار هل تتطابق الأقوال مع الأفعال أم لا.
نأتي للشعب الأفغاني الذي عانى الأمرين على مر عقود. يبدو أن ما حدث هو إعلان عن فشل إمكانية التطور المجتمعي بدفع الخارج أساسا ما لم يكن له حاضنة اجتماعية مناسبة. لهذا فالعائق الكبير أمام استقرار نظام اجتماعي يوفر حدا أدنى من الحقوق هو التخلف الاجتماعي الذي يجعل أفغانستان من أفقر بلدان العالم رغم وفرة مواردها الطبيعية. كما إنها من أكثر الدول تخلفا في مجال التنمية البشرية لتخلف التعليم والصحة. أما بالنسبة لوضع المرأة فحدث ولا حرج: أعلى نسبة ولادات، ومن أعلى نسبة وفيات الأطفال، وانتشار الأمراض المعدية التي قارب معظم العالم على التخلص منها، وانخفاض نسبة تعليم الفتيات.
ومن أهم المشاكل التي ستعاني منها أفغانستان تحت حكم طالبان هي مشكلة التعدد العرقي، حيث يمثل طالبان قومية البشتون التي لا يتجاوز تعدادها 45% من سكان أفغانستان. ولكن هناك أيضا قومية الطاجيك وتمثل 35% من السكان، ثم قومية الهزارة الشيعة ب10%، ثم هناك موزايك عرقي في النسبة الباقية. وليست الديمقراطية الطالبانية بالتي تهتم بتلك الأمور!
بل أن أفغانستان صرحت بأن نظام حكمها لا يستوفي تماما المعايير الديمقراطية على الطريقة الغربية. بالطبع فهم يتبنون الشورى على الطريقة الجهادية التي تقول أن الحاكم ملزم بالمشاورة مع أهل الحل والعقد وليس مع الشعب، وهو رغم ذلك ليس ملزما بالأخذ بنتيجة التشاور! فضلا عن أن الديمقراطية التي تقول الحكم للشعب هي كفر صريح لأن الحكم لله وحده!
سيعاني المجتمع، وستعاني بالذات المرأة والفتاه، مما يسمى بتطبيق الشريعة الإسلامية على الطريقة الإرهابية. ويحق للأمم المتحدة أن تتخوف من إعلان طالبان أنها ستسمح للنساء بالتعليم والعمل "في حدود الشريعة الإسلامية" وهي كلمة مطاطة تحتمل كل شيء. تم تسريب فيديو في إحدى مناطق سيطرة طالبان قبل دخولها كابول يصور جلد فتاة علنا في الشارع بتهمة أنها اتصلت تليفونيا بفتى! ويعتبرون الفتاة محظوظة لأنها غير محصنة (أي غير متزوجة) لأنها إذا كانت متزوجة كانت العقوبة ستكون الرجم! أي أن الاتصال التليفوني عندهم يتساوى مع جريمة الزنا.
العالم أولا كما أوضحنا يهتم في المحل الأول بمصالحه، ثانيا يستخدم شعارات الاهتمام بالأوضاع الاجتماعية وأوضاع المرأة، ليس فقط دون تركيز عليها أمام المصالح، ولكن أيضا لا توجد وسائل كثيرة في يده للضغط. الوسيلة الوحيدة هي مساومة طالبان على الاعتراف الدولي والعلاقات الدولية التي تحتاجها طالبان بشدة علهم يحصلون على بعض التنازلات. يبقى تطوير الوضع في أفغانستان مرهونا بتطور وعي ونضال الشعب الأفغاني.