الموقف من أولويات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولة


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 7639 - 2023 / 6 / 11 - 12:09
المحور: الادارة و الاقتصاد     

حسنا فعل من اختار عنوانا في الحوار الوطني في مصر أولويات الاستثمار سابقا على ملكية الدولة، والأولوية هي بالطبع التنمية، والتنمية هي تنمية القطاعات الإنتاجية، في المقدمة الصناعة التحويلية، والزراعة، والبحث العلمي والتطوير الضروري لذلك. ولكن ليست هذه هي أولويتنا، ليس فقط لأن نصيب الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي هي نحو 15% فقط، والزراعة 11% فقط، ولكن الخدمات هي التي تحتل الموقع القيادي في الاستثمارات وفي الناتج المحلي الإجمالي. ونمط الاستثمار الأساسي حتى في خطة 2023-2-24 هو الخدمات، حيث القطاعات الست القائدة تشمل: الاتصالات والسياحة وقناة السويس والتشييد والبناء والتعليم والصحة بإجمالي 57% من الاستثمارات، مما يعكس سبب تواضع الأنشطة الإنتاجية لصالح الأنشطة الخدمية.
ويعود هذا إلى سيادة نظرية تطوير المرافق وخلق بيئة ملائمة للاستثمارات الخاصة لكي تقوم بوظيفة التنمية، وهذه هي نظرية صندوق النقد والبنك الدوليين وجهات المانحين، والتي تم تطبيقها خلال نصف القرن الأخير منذ عام 1974 ولم تأتِ الاستثمارات الموعودة، بل تفككت الكثير من الاستثمارات الإنتاجية القائمة وتدهور الاكتفاء الذاتي الزراعي الصناعي
لهذا، فالتوصية الأولى: هي وداع نظرية أولوية المرافق، جعل الأولوية للاقتصاد الحقيقي، الإنتاجي، بقيادة الصناعة التحويلية، وتطوير الزراعة، مع تطوير البحوث والتكنولوجيا الضرورية من أجل إنجاز ذلك. إن تلك القطاعات الإنتاجية هي التي تفى بالاحتياجات الأساسية للمجتمع، وتوفر فائضا لكل من الاستثمارات، وتلإنفاق على البنية التحتية والمرافق والخدمات.
وسيادة فكر أولوية المرافق لم يقتصر على استهلاك الميزانية الاستثمارية بعيدا عن التنمية الإنتاجية، ولكن العقد الماضي تميز بالإسراف في إنشاء البنية التحتية وسيادة الاستثمار العقاري، مما أدى إلى أن يبلغ الإنفاق عليهما سبع ترليونات جنيه، أتت من الديون الهائلة الداخلية والخارجية ،رغم إنها بطبيعتها لا تدر عائدا إلا ربما على المدى الطويل جدا، مما أوصلنا لأزمة انفجار الديون والعجز عن السداد، وهو ما قاد في المحل الأول لتمكين الدائنين وصندوق النقد الدولي من فرض الخصخصة الواسعة للأصول من أجل سداد الديون، وكذلك سداد عجز ميزان المدفوعات الناتج عن قصور الإنتاج المحلي، وبالتالي الإفراط في الاستيراد.
لقد تعاظمت مخاطر الدين العام، مما أدى إلى ضعف سيادة الدولة على استقلال قراراتها الاقتصادية والاجتماعية، ومبادلة الديون بالأصول، والتبعية الاقتصادية والسياسية، والتجارية، والمالية، والتكنولوجية.
التوصية الثانية: هي وقف الاستدانة إلا في حالات الضرورة القصوى، والعودة للالتزام بمراقبة مجلس النواب للقروض قبل عقد اتفاقاتها، ووضع سقف للديون.
كما إن عجز ميزان المدفوعات وتراكم أعباء خدمة الدين الخارجي بالذات، وما نتج عن كل ذلك بأن يكون الوجه البارز للأزمة هو عجز توافر العملة الصعبة، قد قاد إلى الإسراف في اللجوء إلى استثمارات المحفظة المعروفة بالأموال الساخنة، وبدون ضرائب تذكر، ولا عوائق في الدخول والخروج من البلاد. أدى هذا إلى موجتين من الخروج الكبير للأموال الساخنة، نتجت الأولى عن فترة الكساد المصاحب لانتشار وباء كوفيد 19 عام 2020، حينما خرج 17 مليار دولار خلال شهري مارس -إبريل 2020؛ والموجة الثانية بسبب الحرب الأوكرانية واستجابة البنك الفيدرالي الأمريكي بتشديد السياسة النقدية ورفع سعر الفائدة مرات متوالية، مما أدى إلى خروج 22 مليار دولار في مارس -إبريل 2022.
لقد استنزف هذا نصف احتياطنا النقدي وتعرضنا للانكشاف والاضطرار إلى الخصخصة الواسعة للأصول، وبيع المضطر بالبخس، مما قاد إلى خصخصة قطاعات استراتيجية مربحة مثل شركتي سماد وشركتي مدفوعات إلكترونية، ودليل البيع بالبخس أن مضاعف الاستثمار (أي المدى الزمني الذي يسترد فيه المشتري كامل رأس المال الذي دفعه) في أول شركة كان أربع سنوات، بل إن ما دفعته الإمارات في شركة سماد أبو قير في فبراير-مارس 2022 قد استردت ربعه في 30 يونيو 2022 عند توزيع الأرباح. ورغم حديث وزير المالية عن إننا أخطأنا لكن أخذنا الدرس، وسنمتنع عن اللجوء للأموال الساخنة، وسنسمح فقط بالاستثمارات الحقيقية. وكان هذا في يونيو 2022. ثم بعد هذا وتحت نفس ضغوط الأزمة، عادت مصر في نوفمبر إلى فتح الباب واسعا أمام استثمارات المحفظة (الأموال الساخنة) كوسيلة سريعة للحصول على النقد الأجنبي سدادا لأقساط وفوائد القروض.
لهذا التوصية الثالثة: هي وقف استثمارات المحفظة (الأموال الساخنة) والاقتصار على السماح بالاستثمار المباشر مع تحديد المجالات التي تحتاجها التنمية للسماح بالاستثمار فيها.
ووثيقة ملكية الدولة تتحدث عن توسيع مساهمة القطاع الخاص في التنمية واتباع المبادئ الإرشادية للاتحاد الأوروبي بشأن تخلي الدولة عن الدور المباشر في الاستثمار (إلا في أضيق الحدود) والخصخصة الواسعة لممتلكات الدولة، بالتخارج بالكامل من 79 مجالا استثماريا، والتخارج الجزئي من 40 مجالا آخر، أي بيع مئات الشركات. وما يحدث ليس استثمارا أجنبيا، فالاستثمار هو توظيف رؤوس أموال وخلق فرص للعمالة، أما ما يسمى بقدوم استثمارات قطاع خاص أجنبية، فهو ليس إلا نقل ملكية، لا أضاف أصولا إنتاجية جديدة ولا وفر فرص عمل، بل صفى بعض الأصول وقلل العمالة في البعض الآخر. إن عمليات التخارج ليس في حقيقتها تمكين القطاع الخاص، ولكن محاولة تغطية الفجوة التمويلية، وعلى رأسها الديون المستحقة، من خلال بيع أفضل أصول الدولة، ومنها ما هو قطاعات استراتيجية هامة.
كما إن اختيار شكل اللجوء إلى الطرح المحدود للبيع لمستثمر رئيسي دون مناقصات مفتوحة قد أدى إلى نقل الملكية الحكومية المصرية إلى ملكية حكومية خليجية لأن المشتري الرئيسي كان صناديق التنمية الحكومية في السعودية وقطر وأبو ظبي. واحتياجات الحكومة الدولارية جعلت القطاع الخاص المصري ليس مطروحا كمشتري من حيث الأساس، ولكن البيع في أغلبه يتم بالدولار وللمستثمر الدولي. لهذا فالمستفيد الأساسي من تلك السياسة هو المستثمر الأجنبي وليس القطاع الخاص المصري.
التوصية الرابعة: عدم التفريط في الأصول الاستراتيجية مثل شركات السماد أو خصخصة الموانئ أو إدارتها، لآثاره الخطيرة على الغذاء، وعلى الأمن القومي.
وفي هذا السياق جاء الصندوق السيادي الذي، على عكس كل الصناديق السيادية المعروفة التي تستثمر فائض أموال بشكل مخطط، جاء صندوقنا لكي يكون أداة لبيع الاستثمارات المحلية لتوفير العملة الأجنبية من أجل سداد أعباء خدمة الدين وعجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات. كما إن الصندوق السيادي المصري قد جعل كل تصرفاته بما فيها بيع الأصول بمختلف الأشكال خارج نطاق الرقابة البرلمانية وخاضع فقط للسلطة التنفيذية. بل إن قانون إنشاء الصندوق قد جعل قراراته وتصرفاته أيضا خارج إطار الخضوع للولاية القانونية للقضاء بتحصينها من الملاحقة القضائية، وجعل حق الطعن فيها مقصورا على طرفي العقد مخرجا كل ممثلي الحق العام.
التوصية الخامسة: إخضاع تصرفات الصندوق السيادي للرقابة البرلمانية، وإقرار البرلمان لأي تصرف في الأصول أو أي اتفاقيات دولية يقوم بها، ونزع الحصانة القضائية، وعودة سيادة القانون وإتاحة الحق العام للجوء للقضاء عند أي شبهة تصرف غير سليم.
إن السياسة الاستثمارية السليمة لابد وأن توحد كل الإيرادات داخل الموازنة، وليس بعثرتها على موازنة حكومية، وموازنة هيئات، وموازنات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، واستثمارات مركزية، فضلا عن قيام جهات سيادية باستثمارات عامة خارج نطاق احتياجاتها النوعية أو اكتفائها الذاتي. إن هذا يفتت القرار الاستثماري ويجعله بعيدا عن الرشادة، كما يحرم الموازنة العامة من فائض الهيئات المختلفة، ويفتت أيضا القرار في أولويات المصروفات العامة.
التوصية السادسة: تطبيق مبدأ وحدة الموازنة، ودمج كافة موازنات الهيئات والجهات الأخرى، ودمج كافة الصناديق كحساب خاص داخل الموازنة العامة، من أجل رشادة الإنفاق الاستثماري، وترشيد أولويات الاستثمار فق نظرة شاملة.
إن السياسة الاقتصادية المتبعة حتى الآن تقوم على علاج مشاكل تشوه نمط الاستثمار الرأسمالي، وسيادة اقتصاد خدمي- استهلاكي- ريعي، والبعد عن الاقتصاد الإنتاجي. وقد قاد هذا إلى تراكم الديون، وجاءت الأعباء الشديدة لخدمة الدين في السنوات الثلاث الحالية لكي تضع الدائنين وممثلهم، صندوق النقد الدولي، في الوضع الذي يحاول فيه فرض تصفية أصول الدولة divestment of state owned assets كما تنص عبارة مجلس الإدارة التنفيذي للصندوق في مذكرة الموافقة على القرض الحالي. ووثيقة ملكية الدولة وسلوك الحكومة هو تطبيق لإملاءات الصندوق. ويصاحب هذا السياسة التقشفية على الشعب، والوصول لمعدل تضخم يدور حول 40% بينما يقدر البنك الدولي ارتفاع أسعار الغذاء في مصر (وهو أكبر عنصر في إنفاق الفقراء) وحده بنسبة 60%. وبالطبع فإن عواقب ذلك المعروفة هي زيادة نسبة الفقر المطلق والنسبي، وتآكل الطبقة الوسطى وهبوطها إلى مستوى الفقر.
لهذا فالتوصية الختامية هي
وقف بيع الأصول من أجل سداد الديون. والبديل المطروح هو زيادة الموارد وتقليل الاحتياجات بالذات للعملة الأجنبية. ويتأتى هذا عن طريق وقف وتأجيل جميع الاستثمارات مثل القطار السريع والمعلق وغيرها، في جميع المشاريع التي لم تبدأ أو التي مازالت في بداية التنفيذ (أقل من 25% نسبة التنفيذ)، وهو على أي حال من بنود الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإن كانت السياسة المتبعة حتى الآن لا تلتزم به.
كما لابد من سياسة تقشف حكومي شديدة، تقوم على دمج الوزارات وإلغاء الإفراط في أعداد الإدارة العليا والمستشارين ووقف تحديث السيارات والمكاتب لكبار المسؤولين، ووقف جميع أشكال الإسراف في الإنفاق الحكومي. كما لابد من تطبيق النص الدستوري على فرض ضرائب تصاعدية، والنظر في فرض ضريبة ثروة لمرة واحدة، وعودة ضريبة التركات التي تطبقها معظم الدول المتقدمة وغيرها، وتحميل عبء الأزمة على الطبقات القادرة بدلا من استمرار الضغط على الاحتياجات الأساسية للشعب مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.
كما لابد من تعزيز المصادر الدولارية، بإعادة النظر في جميع بنود ميزان المدفوعات من أجل توفير الدولارات، وذلك من خلال وقف استيراد كل السلع ماعدا ذات الضرورة الحيوية كما فعلت الأرجنتين وكما تفعل الدول التي تريد أن تواجه أزماتها بشكل كفء. إن وارداتنا تبلغ في آخر عام حوالي 88 مليار دولار. وإذا كان لا يمكن الاستغناء عن الواردات الغذائية الأساسية ومستلزمات الإنتاج (وهو ما يقدر بحوالي 75% من الواردات)، فإن تقليص الواردات لمدة عام قد يمتد حسب الاحتياج لثلاثة أعوام، بوقف استيراد السيارات مثلا، أو على الأقل السيارات الفارهة، وكافة سلع الترف التي يمكن الاستغناء عنها (وهو ممكن حتى في ظل الالتزام بمقررات منظمة التجارة العالمية التي تبيح ذلك لمدة مؤقته في وجود أزمة)، يوفر داخل نطاق ربع الواردات حوالي 15-22 مليار دولار، بينما كان عجز ميزان المدفوعات آخر عام 16 مليار دولار رغم أعباء الديون.
كما إن تعظيم السياحة الخارجية لابد وأن يرتبط أيضا بتقليص سياحة المصريين في الخارج وتقشف الإنفاق على السفارات في الخارج أو تقليلها، كما إن الحج والعمرة يقدر ب 60% من مصروفات السياحة التي تدور حول 5 مليار دولار. وإن إلغاء مؤقت للعمرة خلال سنة ويعاد تقييم الوضع، وقصر الحج على أداء الفريضة أو تقنينه بالحج مرة واحدة للشخص كل خمس سنوات يوفر 3 مليار دولار تساوي قرض صندوق النقد الدولي الأخير!
إننا أمام مفترق طرق صعب، ولكن صعوبته تكمن في السنوات الثلاث القادمة. وإن مواجهة ذلك بسياسة تقشف قاسية مثل تلك تتيح لنا التقاط الأنفاس والخروج من الدائرة الخطرة لاستمرار الاستدانة من أجل سد أعباء الديون القديمة أو التفريط في أصولنا الإنتاجية التي تم بناؤها عبر أجيال كثيرة. ويجب أن يتم هذا في ظل الوفاء باحتياجات الشعب الأساسية من سلع غذائية وسلع ضرورية من خلال زيادة الإنتاج أساسا، وكذلك باحتياج الشعب لخدمات اجتماعية من تعليم وصحة. إن هذا هو الطريق لعبور عنق زجاجة بأقل الخسائر، والخروج من الاضطرار للخضوع لتوصيات الصندوق.