السلام مقابل السلام والسلام الأمريكي الإسرائيلي


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 6994 - 2021 / 8 / 20 - 13:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

انتشرت موجة التطبيع المتزايدة فى كافة المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها بين إسرائيل ومزيد من الدول العربية، فشملت قطر والبحرين في غضون شهر واحد مع الوعد بالمزيد وتزايدت الضغوط الأمريكية على السودان وغيرها. بعض الدول تستعد، والبعض يؤجل لكنه لا يرفض، متعهدا بأن يكون "آخر من يطبع". والكثيرون يعتبرون هذا تراجعا عن مبدأ "الأرض مقابل السلام" لصالح الموافقة على مبدأ "السلام مقابل السلام".
ولكن التأمل التاريخي لمسار الشعارات العربية وآلية التغيير التدريجي لها لابد لها وأن تعود إلى السبب الأصيل في كل تلك التغيرات، وهو الهزيمة العربية عام 1967. قبل هذا التاريخ كان هناك معسكران في الأنظمة السياسية العربية: المعسكر القومي المعادي للاستعمار تحت قيادة مصر ويشمل سوريا والعراق والجزائر وغيرهما، مقابل المعسكر الرجعى العربي بزعامة السعودية. وكان المعسكر الأول يرفع شعارات تحرير فلسطين والتصدي لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، ولو من الناحية النظرية، أما المعسكر الآخر فيصمت، بل ويتعاون فى السر كما كُشِفَ أخيرا عن استعانة السعودية بسرب طائرات إسرائيلية لضرب القوات المصرية في اليمن!
كانت النتيجة المباشرة لحرب 1967 هي التغير من تصدير شعار "تحرير فلسطين" إلى شعار "الأرض مقابل السلام". أما عن المضمون الحقيقي لذلك الشعار فهو القبول بالاعتراف بإسرائيل في مقابل عودتها إلى حدود 1967 كما ينص قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967، تحقيقا لنبوءة أبا إيبان الذى صرح قبل حرب 1967 بأكثر من عام أنه ربما يطالب العرب مستقبلا بالعودة لحدود 1967 أو 1968! بالطبع شأن أي شعار جديد، يتم تمريره بمختلف الأساليب منها أنه "شعار مرحلي"، وليس شعارا استراتيجيا يتضمن التنازل الكامل عن هدف تحرير فلسطين!
ظلت الأزمة الناتجة عن الاحتلال تمارس فعلها لسنوات تنتظر فيها أمريكا وإسرائيل أن تتفاعل عناصر الضغط السياسي الاقتصادي والضغط العسكري للاحتلال في تغيير سياسات الأنظمة القومية في اتجاه القبول بالخريطة الأمريكية الجديدة للمنطقة، والتي تتضمن السلام والتطبيع والانفتاح ونبذ شعارات مواجهة الاستعمار.
ربما لم يدرك حتى من قبلوا بهذا التنازل تحت تأثير هزيمة يونيو العسكرية كامل المقصود بالاعتراف بإسرائيل، وهو ما ظهر بالتدريج في التجربة المصرية ذات الريادة "التاريخية"، وظهر بعدها في الأردن. لقد شمل الاعتراف التبادل الدبلوماسي والعلاقات في كل المجالات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية، وحتى تغيير مناهج التعليم لحذف كل ما يشير بالسلب لإسرائيل وكل ما يحض على النضال الوطني بدعوى أنه دعوة للإرهاب!
ما هو موقع "انتصار" 1973 من هذه الصورة؟ لا شك في البسالة والبطولة الهائلتين الذين بذلهما الجنود والضباط في تلك المعارك، مدفوعين بمواجهة إرث المهانة الوطنية الكامن في هزيمة 1967، ومدفوعين أيضا بالرغبة فى تحرير الوطن. كما أن الحرب نجحت بلا شك في هدم نظرية الأمن الإسرائيلي ودمرت خط بارليف الذى أدعت إسرائيل أنه لا يقهر. إلا أن فهم الحرب، أي حرب لابد وأن يتذكر أن "الحرب امتداد للسياسة بطريقة أخرى" كما يقول كلاوزفيتز. والهدف السياسي للحرب كما أعلن عنه هو "تحريك الأزمة"، وليس تحرير كل الأرض المحتلة، ولو على خطوات، وبالطبع ليس تحرير فلسطين.
هذا ما يفسر موقف السادات بعد عشرة أيام من بدء الحرب في خطاب 16 أكتوبر 1973 بأنه لا يعتزم محاربة أمريكا، والدعوة للسلام، وما أعقب هذا من جولات كيسنجر المكوكية بين مصر وإسرائيل، وإعلان أكتوبر آخر الحروب بينما، الأرض المصرية والعربية المحتلة عام 1967، مازال أغلبها في يد إسرائيل. ثم بدأ مسلسل تحقيق السلام الأمريكي في المنطقة بدءا من اتفاقيات الفصل بين القوات مرورا بمبادرة السادات للذهاب إلى القدس (نوفمبر 1977) ثم توقيع اتفاقية كامب دافيد (سبتمبر 1978) ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (مارس 1979).
وربما كان أخطر ما ظهر في محتوى السلام المفروض أمريكيا وإسرائيليا هو فرض سياسة "الباب المفتوح" بتحرير التجارة والاستثمار ثم الخصخصة للأصول الإنتاجية لكي يمتد بعد ذلك للخدمات كافة، بل وللمرافق الأساسية كالكهرباء والموانئ وغيرها! كان الوعد المعلن وقتها هو أن هذا ضروري لكى يأتي الرخاء كنتيجة للسلام، ولكن هذا هو ما ظهرت نتائجه في الواقع في صور الغلاء الفاحش وتدهور مستوى معيشة الجماهير وتزايد التفاوت الاجتماعي بزيادة الأغنياء غنى وزيادة الفقراء فقرا، فضلا عن الخصخصة ونهب الأصول الإنتاجية والخدمات لصالح رءوس الأموال المحلية والإقليمية والعالمية. بهذا صدقت النبوءة القاسية التي حملها شعار الحركة الطلابية الجماهيرية المصرية في أوائل السبعينات: "ياخوفي يوم النصر نكسب سينا ونخسر مصر"!
كان رد الفعل المباشر للهزيمة هو "الصلح العربي التاريخي بين المعسكرين، القومي والرجعي، كما أوضح دور السعودية، زعيمة معسكر التبعية العربية، في وضع الشعارات الطنانة وإقرار المساعدات النقدية للدول المهزومة مثل مصر والأردن، من أجل دفعها للاعتدال التدريجي.
ويتضح مضمون السلام الحقيقي من تصريح ناتنياهو قبيل سفره للتوقيع على اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين في البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020، والذى يقول فيه: "أسافر لتحقيق السلام مقابل السلام، وتوصلنا إلى اتفاقيتيّ سلام خلال شهر واحد فقط، هو عصر جديد" ثم يضيف: هذه الاتفاقيات ستوحد السلام الدبلوماسي مع السلام الاقتصادي وهى ستضخ المليارات إلى اقتصادنا من خلال الاستثمارات والتعاون والمشاريع المشتركة"
ويعرب وزير الخارجية الأمريكي بومبيو عن سعادته باتفاقيات التطبيع بتصريحه الذى قال فيه: "هذا التحالف أدى إلى مستويات مريحة وضعتها في موقع قالت فيه الدول العربية: نعرف أن إسرائيل باقية هنا، ومن الطبيعي أن نتعامل معها". واعتبر بومبيو أن "النموذج التقليدي الذى يقضى بضرورة حل القضية الفلسطينية قبل إقامة العلاقات مع إسرائيل لن يجلب أي خير". بالفعل كما يوضح هذا التصريح، فالسلام والإقرار بالعلاقات بإسرائيل الموجودة فعليا هو واقعية، إنها الواقعية الانهزامية الناتجة عن الخضوع لميزان القوى ذي التفوق الإسرائيلي!