المأزق اللبناني وآفاق الحلول


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 6823 - 2021 / 2 / 24 - 12:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

المظهر الذي يطفو على السطح للأزمة اللبنانية هو العجز عن تشكيل وزارة، فالوزارة الحالية، وزارة حسان دياب المحسوب على تيار تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر لرئيس الجمهورية ميشيل عون وحلفائهم، قد تولى الوزارة بعد اعتذار الحريري عن توليها وفشل محاولات إقناعه بالعدول عن ذلك. تشكلت وزارة حسان دياب رسميا في ديسمبر 2019، وقدمت تلك الوزارة استقالتها بعد انفجار ميناء بيروت في أغسطس الماضي، ومنذ ذلك الحين وهي مستمرة في تسيير الأعمال انتظارا لتشكيل الوزارة الجديدة.
وتتبادل مختلف الأطراف الاتهام بالمسئولية عن تشكيل الوزارة، والنغمة الأكثر شيوعا في مواقف اليمين اللبناني وفى الأوساط الفرنسية والأجنبية هي مسئولية حزب الله، حيث ينتقدون "وزارة التيار الواحد" وهم الذين رفضوا المشاركة فيها. يتم هذا بالذات منذ بعد تفجير المرفأ وزيارة ماكرون التي حث فيها على تشكيل وزارة مسئولة وأعلن بعدها دعمه للحريري ليتولاها.
التيار الوطني الحر، تيار رئيس الجمهورية، يتهم الحريري بالمسئولية، حيث يصر الحريري على أن ينفرد باختيار جميع الوزراء، تحت اسم وزارة اختصاصيين تضم بالطبع ممثلين عن المسيحيين والشيعة، ولكن من يحددهم هم ويرفض أن تختار تلك الكتل السياسية البرلمانية ممثليها بنفسها. يبدو هذا في الواقع عجيبا! الحريري وحلفاؤه، الأقلية البرلمانية التي تمتلك 48 مقعدا في البرلمان تصر على تشكيل الوزارة كلها منفردة ضد الأغلبية التي تمتلك 80 مقعدا في البرلمان!
وأكثر من هذا فإن الحريري – ماكرون هما بشكل من الأشكال المسئولين عن انطلاق الثورة في لبنان في 17 أكتوبر 2019 نتيجة للقرارات الاقتصادية التقشفية لسعد الحريري تنفيذا لتوصيات مؤتمر المانحين المنعقد في فرنسا عام 2018. مفارقة أنه بعد أكثر من عام على الثورة يكون المطروح هو سعد الحريري نفسه مدعوما من ماكرون نفسه اللذان يدعمان الحلول التقشفية القائمة على رفع أسعار الخبز والمحروقات، وزيادة ضريبة المبيعات، والشروع في الخصخصة بدءا بقطاع التصالات! ولكنه يستند في هذا إلى الدعم الفرنسي الدولي غير المحدود، وكذلك إلى ضخامة المأزق الموضوعي ويعاير الحكومة الحالية بعدم التقدم في حله.
وعندما تغوص مختلف الأطراف قليلا في أسباب الأزمة يبرز اختلاف المواقف من اتفاق الطائف (1989- 1991) الذي انهى الحرب الأهلية اللبنانية وغير توازن القوى السياسية في لبنان الذى كان سائدا منذ تأسيس لبنان في منتصف الأربعينات وحتى الحرب الأهلية.
ميثاق الطائف عدل النسبة في البرلمان والوزارة بين المسلمين والمسيحيين من 4: 5 إلى المناصفة، وعرّف الهوية اللبنانية باعتبارها هوية عربية وليست مجرد "ذات وجه عربي" كما كان قبلها، كما طور النظام السياسي الرئاسي لصالح الحد من سلطات رئيس الجمهورية وإعطائها إلى مجلس الوزراء مجتمعا. كان هذا تعبيرا عن ميزان القوى وقتها الذي تميز بهزائم المسيحيين الذين دعمتهم إسرائيل، والانتصارات التي حققتها قوى المقاومة مع الدور البارز لحزب الله فيها، فضلا عن التزايد الفعلي لنسبة السكان المسلمين في لبنان.
الطرف الذي تمسك بالكامل بميثاق الطائف كان نجيب الميقاتي، رئيس الوزراء الأسبق والمعبر عما يسمى بتحالف رؤساء الوزراء السابقين. سعد الحريري والتيار الوطني الحر بالذات على لسان آلان عون، يتحدثون عن عيوب اتفاق الطائف ولكن مع عدم نضج الظروف لطرح تعديله حاليا. حزب الله يتراوح بين طرح صيغة المثالثة بدلا من المناصفة، بمعنى أن تكون القسمة ثلث للمسيحيين وثلث للسنّة وثلث للشيعة، وفى أحيان أخرى يطرح الدولة المدنية. نبيه بري الشيعي ورئيس حركة أمل يطرح ومنذ مدة طويلة خططا لإلغاء الطائفية عن طريق إصدار قانون للزواج المدني (وهو ما يطالب به تيار قوى في الشارع) مع طرح تشكيل مجلس شيوخ ذو تمثيل طائفي واختيار مجلس النواب بانتخاب لا يقوم على المحاصصة، رغم هذا فإنه لا يقاتل من أجل هذا الطرح الذي يبدو مُهَوِّما بلا أرجل.
ولكن مع هذا فإن هذا كله لا ينفذ إلى العمق الحقيقي للأزمة في لبنان. كان الوجه الإيجابي أن تندلع الثورة في لبنان احتجاجا على تدهور مستوى المعيشة، والذي رفع، حتى الآن، عدد الفقراء من ثلث الشعب اللبناني إلى الثلثين، ولكن نجاح الثورات في تقريب أو تحقيق أهدافها مرهون بنضج برنامجها واستراتيجيتها وتكتيكها. التيار الشعبي السائد في لبنان يطالب بالإطاحة بما يسميه "الطبقة السياسية" كلها، شعار "كلن يعنى كلن"، كيف؟ لا طريق. ولكن البرنامج لا يوحد بين مختلف الأطراف لتباينها الشديد، بل إن الأولوية لا يمكن أن تكون للإطاحة بالأفراد، حيث لا يوجد تكتيك يحقق ذلك إلا من وجهة نظر المتمسكين بماكرون والذين يصل بعضهم إلى مستوى تعيين ماكرون كمنقذ، بل والمطالبة بعودة الانتداب الفرنسي
هناك ثلاثة قضايا واختيارات مصيرية يحكم طرحها تحديد أفق ثوري حقيقي للوضع اللبناني: هي السياسة الاقتصادية البديلة لسياسة التقشف وإلقاء عبئ الأزمة على الشعب، وشعار الدول المدنية الكاملة، والموقف من خيار المقاومة.
رغم بسالة رفض خطة التقشف فإنها لا يتم ربطها جماهيريا بالخيار المشترك للإمبريالية واليمين اللبناني، كما لا يتم طرح بديل لها يرفض بالذات أبرز ممثليها، ماكرون والحريري. والبديل لا يمكن أن يكون استراتيجيا إلا تدعيم الاقتصاد الإنتاجي الضعيف في لبنان، وتحميل الأزمة الاقتصادية للطبقات الحاكمة التي تُهَرِّب ملياراتها حتى لإسرائيل، ويتواطأ البنك المركزي اللبناني ومحافظه على التهريب لأوروبا أيضا. إن فرض الضرائب المتصاعدة بما فيها ضريبة رأس المال لمرة واحدة هي البديل عن التقشف الذي يصيب الجماهير.
ولابد من موقف شعبي متبلور وواضح من خيار المقاومة. وهذا الموقف لا يتطابق بالضرورة مع التأييد غير المشروط لحزب الله، فالحزب، رغم كونه الطرف الأساسي حاليا في المقاومة اللبنانية إلا أن عليه عددا من المآخذ، ولكن لا يجب أن يعمي هذا على أهمية التمسك بخيار المقاومة لإسرائيل، فالبديل هو الخضوع غير المشروط لهيمنتها، فمستقبل لبنان هو المستقبل المستقل الوطني الحر.
كما أن اجتثاث الطائفية لابد وأن يترابط مع المواجهة مع زعماء الطوائف الحاكمة والدعوة لدولة مدنية حقيقية وانتخابات برلمانية على أساس صوت واحد لكل لبناني وحق الترشيح والانتخاب للجميع بصرف النظر عن طائفته ونسبة مقاعد كل طائفة.
بالطبع إن تلك المطالب ليست سهلة التحقيق، ولكن أول خطوة في تحقيقها هي طرحها متبلورة وتكوين رأى شعبي حولها والنضال من أجلها، وثانيا الضغط على البرلمان بكل الطرق لتنفيذ ما يمكن منها، وفى سابقة النجاح في منع البرلمان من الانعقاد حينما كان يعتزم إصدار قانون بتحصين المسئولين السابقين من المحاكمة، في تلك الواقعة سند بإمكان تحقيق المطالب الجزئية المنسجمة مع تلك الاستراتيجية، ومن خلال هذا الطريق يمكن فرض ما يمكن فرضه منها في كل مرحلة وفقا لميزان القوى الملموس، والتعديل التدريجي للقوى لصنع ميزان القوى الثوري لتلك الاستراتيجية.