نقطة نظام


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6395 - 2019 / 10 / 31 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا يجادل أحد اليوم حول كثرة المشتركات بين سورية ولبنان ليس فقط بسبب الجيرة، بل لأن البلدين كانا حتى حين بلدا واحدا، يتشارك سكانه الكثير من السمات المشتركة، والمصالح المشتركة. غير أن الاختلافات بينهما كثيرة أيضاً، وهي بالتأكيد سوف تلقي بظلالها على الحراك الشعبي اللبناني المنتفض ضد حكامه فتحيله إلى خصوصياته.
في مقالة لنا بتاريخ 17 نيسان 2011 ونحن نحاول تفسير الأزمة التي بدأت تتفجر في سورية لتلحقها بالدول العربية التي سبقتها، قلنا أن ما حصل في تونس ومصر سوف يعم جميع الدول العربية بأشكال وطرق مختلفة تراعي الخصوصيات القائمة في كل منها، لسبب بسيط هو أن ما يجري هو سؤال التاريخ يرفعه في وجه انظمة الاستبداد الحاكمة فيها، وعليها أن تجيب عليه كل بحسب ظروفه وخصوصياته. وما يحصل اليوم في لبنان يجيئ في هذا السياق، ليلحق بالدول العربية التي سبقته، وسوف تلحقه بلا أدنى شك دول عربية أخرى قد تتأخر عنه بعض الوقت بسبب خصوصيات ظروفها.
ظروف لبنان مختلفة كثيرا عن ظروف سورية وإن المماثلة بين حراك الشعبين هو في غير محله، فهو مختلف في الأسباب، وفي السياق، وفي طبيعة القوى المشاركة فيه، وفي طبيعة القوى التي يواجها والمخاطر الناجمة عن ذلك، وسوف يختلف بالمآل والنتائج.
من حيث الأسباب الرئيسة للحراك اللبناني فقد برزت في المقدمة الأسباب المعيشية مما يعطي الحراك طابعا طبقيا فريدا، فلم يكن ينقص اللبنانيين الحرية بل كان لديهم فائضا منها، ولم يكن ينقصهم الديمقراطية، فقد كان لديهم نموذجا منها، ولم تكن تنقصهم الكرامة الوطنية فقد كان حزب الله يؤمنها لهم بمستويات عالية. بطبيعة الحال في سياق الحراك برزت وتشابكت أسباب كثيرة أخرى، دفعت بفئات اجتماعية مختلفة للمساهمة فيه، مما جعل الحراك يأخذ طابعا جماهيريا وطنيا عابرا ومتجاوزا للبنى والقوالب الطائفية السائدة في لبنان.
ومن ناحية سياق الحراك، فهو مختلف عن سياق الحراك الشعبي السوري، إذ بدأ بداية بطابع طبقي واضح المعالم، ليصير ذي طابع وطني جامع نظرا لمشاركة فئات اجتماعية مختلفة فيه، واخذ، من ثم، التركيز يتحرك من المطالب الاجتماعية الى المطالب السياسية، من تحسين الواقع الاقتصادي والحياتي للمواطنين إلى اسقاط النظام الطائفي.
أما من ناحية القوى المشاركة في الحراك الشعبي اللبناني، فهو مختلف أيضا عن مثيله السوري فهو قد بدأ بالقوى الاجتماعية الفقيرة والعاطلة عن العمل ليجذب إلى سياقه قوى اجتماعية متباينة في واقعها الاجتماعي. ويلفت الانتباه الحضور الكثيف للنخب اللبنانية في الحراك خصوصا النخب الثقافية، وكذلك للطلاب والأساتذة من مختلف المستويات. والأهم من كل ذلك تجاوز الحراك الشعبي اللبناني للحواجز الطائفية، بل صار إلغاء الطائفية السياسية أحد مطالبه الرئيسة.
ومن العلامات الفارقة كثيرا في الحراك الشعبي اللبناني هي طبيعة النظام السياسي الذي يواجه والمخاطر المحتملة التي يمكن أن تنجم عن ذلك. في لبنان نظام سياسي طائفي راسخ تم تفصيله قبيل الاستقلال اللبناني، لأسباب محلية وإقليمية، ورغم المنعطفات الخطيرة التي مر بها كان ينجح في اعادة إنتاج نفسه مرة أخرى، بمساعدة إقليمية ودولية. هذا النظام الطائفي يشكل اكبر تحد للحراك الشعبي اللبناني، ومن المشكوك فيه قدرته على تغييره لأنه يشكل حاجة لما يسمى بالإقطاع السياسي اللبناني، ويمثل حاجة أيضا لقوى اقليمية ودولية. هذا يعني ان تغييره لا يتوقف على رغبات وقدرة الحراك الشعبي اللبناني، بل على موافقة القوى الإقليمية والدولية التي يمثل حاجة لديها. مع ذلك تبقى مخاطر مواجهة النظام الطائفي اللبناني أقل من مخاطر مواجهة النظام الاستبدادي السوري، فالسلطة الحاكمة في لبنان من المستبعد ان تستخدم العنف على نطاق واسع لقمعه كما حصل في سورية، وفي المقابل من المستبعد أن يصير الحراك اللبناني مسلحا تتحكم به قوى جهادية متطرفة كما حصل في سورية. لا أريد أن اقلل من مخاطر وجود حزب الله على الحراك، فهو قد وضع خطوطا حمراء لمطالبه تمثلت بلاءات ثلاث: لا لإسقاط العهد، لا لإسقاط الحكومة، ولا لانتخابات برلمانية مبكرة، وهي لاءات يمكن دمجها بنعم واحدة: نعم لبقاء السلطة الحالية دون تغيير. رغم لاءات حزب الله الثلاث، فهي تتضمن نقطة ضعف كبيرة يمكن ان تكسرها، وتتمثل في احتمال استقالة الحكومة، سواء تحت ضغط الشارع، أو بطلب خارجي من مصدر معلوم. لذلك حاول السيد التقليل من هكذا احتمال من خلال التهديد بالنزول إلى الشارع وتغيير "المعادلات القائمة" على حد تعبيره وهو تهديد حقيقي، لا يمكن تجاهله في حسابات القوى المحلية والدولية المؤثرة في الداخل اللبناني. بطبيعة الحال فإن النزول إلى الشارع لتغيير المعادلات القائمة ليس أمرا سهلا، فقد يكون مدخلا إلى حرب طائفية يصعب السيطرة عليها لاحقاً، وبلا شك فإن قيادة حزب الله تدرك ذلك، وحتى لا يضطر الحزب إلى ذلك، فقد طالب ممثلي الحراك بالتفاوض مع الرئيس، وهو طلب يضمر تعهدا بدعم الموافقة على بعض مطالب الحراك ما دون الخطوط الحمراء التي رسمها، بل ودعم تنفيذها، خصوصا وان بعضها كان قد طالب الحزب به في السابق ومنها الانتخابات النسبية على كامل الساحة اللبنانية.
ثمة مخاطر أخرى من المحتمل أن تواجه الحراك الشعبي اللبناني تتمثل في جماهير الأحزاب الطائفية وهي إن تقلصت بعض الشيء في سياق الحراك لكنها لا تزال موجودة، وبدلاً من الطابع الوطني الجامع للحراك من المحتمل ان تظهر فيه بعض التشققات الطائفية والمذهبية، بفعل الاقطاع السياسي الذي يهدده الحراك اللبناني في وجوده.
أما من حيث النتائج والمألات فإن الحراك الشعبي اللبناني سوف يبدي اختلافات عن مثيله السوري، وإن كانا يتفقان مع كل حالات الحركات الشعبية في الدول العربية الأخرى في قضية جوهرية وهي أن انظمة الاستبداد العربية القائمة صارت مفارقة لمنطق التاريخ في الظروف الراهنة، فلم يعد يوجد طلب عليها، لا محليا ولا دوليا. منطق التاريخ، على العكس، صار يولد طلبا على الحرية والديمقراطية، و سوف يحققه بالضرورة في سياق عملية كثيرة او قليلة التعرجات، قد تطول او تقصر بحسب ظروف كل بلد. بكلام آخر ما يبدو أنه فشل للحراك في بعض الدول العربية، لا يعدو كونه مجرد تعرج من تعرجات هذه العملية التاريخية. مع ذلك، بل في ضوئه، سوف يحقق الحراك اللبناني بعض مطالبه الاجتماعية الرئيسة، وهو قد حققها بالفعل في البرنامج الإصلاحي الذي قدمه الحريري، وعليه متابعة التنفيذ. وسوف يحقق أيضا مطالب سياسية على صعيد اعادة النظر في بعض جوانب النظام الطائفي القائم، تضعه في سياق عملية تغيير جذرية في المستقبل من قبيل اعداد قانون انتخابات جديد يقوم على النسبية، والدائرة الانتخابية الواحدة، وتكوين حكومات على قاعدة الأغلبية السياسية. بالطبع من المستبعد اليوم وكنتيجة للحراك أن يسقط النظام الطائفي القائم، وسوف يحاول الاقطاع السياسي منع ذلك. من الضروري، وهذا لمصلحة الحراك الشعبي اللبناني، ان يبتعد عن استلهام الحراك الشعبي السوري، وان يتجنب الوقوع في الخطأ القاتل المتمثل في عدم الاستجابة لدعوة السلطة القائمة للتفاوض، فهي، كما يبدو لي، على عكس شقيقتها السورية، مستعدة لكثير من التنازلات التي لم يكن حتى التفكير فيها محتملا حتى وقت قريب، من قبيل وضع النظام الطائفي في سياق عملية زواله.