نكران الواقع او تجاهله لا يعني أنه غير موجود


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 7716 - 2023 / 8 / 27 - 12:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

خلال سنوات الأزمة السورية، وخصوصا في مراحلها الأولى، كثيرا ما كان يتهم الرئيس السوري من قبل الاعلام الغربي، او الذي يدور في فلكه، ومن قبل سياسيين رفيعي المستوى في العديد من الدول الغربية والعربية والإقليمية، بأنه منفصل عن الواقع، ولا يعلم ما يجري في بلاده. غير ان من لديه معرفة حقيقية بالكيفية التي بنى بها حافظ الأسد النظام السوري، وطريقة اشتغاله، لا بد يدرك أن الرئيس تحديدا يعلم بكل شاردة وواردة تتعلق بنظامه، خصوصا من الناحية الأمنية. بحسب رواية لمسؤول في الطاقم الأمني المرافق لحافظ الأسد أنه كان في كل يوم مساء، وقبل أن ينام، يطلع على ثلاث تقارير، الأول أمنى والثاني اعلامي، والثالث سياسي ودبلوماسي.
اللافت فيما يخصص التقرير الأمني انه كان يتضمن معلومات تفصيلية ليس فقط عن المعارضة بل وعن المسؤولين في نظامه. مثال على الصيغة التي كانت تصاغ فيها معلومات التقرير: جماعة رفعت أو عبد الحليم خدام او ... في مكان كذا كانوا يتحدثون كذا، ليختم النص بدرجة الموثوقية. او جماعة حزب العمل الشيوعي في المنطقة الفلانية يتحدثون كذا عن النظام، ومن ثم عبارة درجة الموثوقية. وكان التقرير يشمل معلومات عن الضباط وغيرهم في جهاز الأمن ذاته. ومن المعروف على نطاق واسع وجود ملف شامل عن كل شخصية عامة، او مرشحة لتكون كذلك، عداك عن ملفات خاصة بالقوى السياسية المعارضة والموالية.
هذا النظام ورثه الرئيس بشار الأسد وظل يشتغل بالطريقة ذاتها، بل بصورة متشددة أكثر خلال سنوات الأزمة. مثال في الأسبوع الماضي تم تعيين الدكتور محمد عامر مارديني وزيرا للتربية، وهو شغل في السابق وزيرا للتعليم العالي، مع ذلك تم اجراء مسح أمني شامل عنه من قبل جميع الأجهزة الأمنية لمعرفة التغيرات التي طرأت على ملفه، بحسب رواية صديق مطلع، الذي أضاف بأنه من المرجح تعيين الدكتور مارديني ابن دمشق رئيسا للوزراء في المستقبل القريب.
من الواضح إذا ان الرئيس على دراية كاملة بكل ما يجري في البلد، وليس منفصلا عن واقعه، لكن ذلك لا يعني أبدا أنه يتعامل معه بما هو فيه وعليه، بل يكيفه بحسب ما يريد او يتجاهله. مثال على ذلك مقابلته الأخيرة مع مراسل تلفزيون سكاي نيوز عربي. لقد تجنب الإجابة الصحيحة عن كثير من أسئلة المراسل، مع أن موضوعاتها يعلمها القاصي والداني من السوريين، ومن غيرهم. مثلا الكل يعلم كيف تم إعداده لتولي الرئاسة خلفا لوالده، وكيف تم تعديل الدستور لهذا الغرض. والكل يعلم أيضاً انه لولا التدخل الروسي والإيراني لسقط نظامه. والكل يعلم أيضاً ان المظاهرات السلمية في السنة الأولى من تفجر الأزمة السورية كانوا بمئات الآلاف في كل محافظة، وإذا اضيف إليهم حاضنتهم الاجتماعية يصير عددهم ملايين. الكل يعلم أيضا ان سورية صارت في عهده منتجة ومروجة للمخدرات ليس فقط على المستوي المحلي بل على المستوى العربي والإقليمي والدولي قبل الأزمة وفي سياقها. وها هو يعترف بوجود محادثات مع أمريكا صراحة ليس اليوم بل منذ سنين، رغم نكران ذلك لزمن طويل. وكشف أيضا عن دور الإرهاب في تدمير البنية التحتية في سورية لكنه تجاهل دور نظامه في ذلك. وإذ يرفض الإقرار بوجود أية معارضة سورية خارج صناعته المحلية في اتساق مع طبيعة نظامه، فهو يعد أية معارضة إما عميلة او خائنة، وأضاف لها وصفا جديدا في أحد خطاباته، بأنها عدوة للشعب.
فيما يخص عودة اللاجئين إلى مناطقهم فقد ارجع الرئيس السبب إلى سوء الأحوال المعيشية في البلد، مع ان السبب الحقيقي والرئيسي غير ذلك، إنه يستثمر سياسيا في قضيتهم لكي يستجر مساعدات دولية لإعادة الاعمار، إضافة إلى الاعتبارات الأمنية. بحسب ما صرح به مسؤول أممي اشتغل لفترة ضمن طاقم الأخضر الابراهيمي، وتولى مسؤولية كبيرة ضمن طاقم دي مستورا، ان النظام لم يكن مهتما ابدا بالقضايا التي تهم مصالح الشعب السوري، ومنها قضية اللاجئين، بل بما يثبت سلطته ويقويها.
اللافت جوابا عن سؤال مراسل سكاي نيوز عربية حول الخيارات التي كانت متاحة لتلافي الأزمة، إصرار الرئيس على أن الخيار الذي اتبعه كان الخيار الصائب الذي ينسجم مع مبادى سورية ومصلحتها. ما هذه المبادئ التي أد الحفاظ عليها إلى دمار سورية، وتمزيق وحدة شعبها! وما هي مصلحة السوريين في ذلك؟! بالطبع كان هناك خيارات، ومنها خيارات طرحتها نخب سورية سياسية واجتماعية واقتصادية قبل تفجر الأزمة وفي سياقها، ومنها خيارات طرحتها جامعة الدول العربية، وبعض الدول الصديقة له. لطالما طالبت المعارضة السورية بعد تسلمه الرئاسة في عام 2000 بضرورة تنفيذ ما وعد به في خطاب القسم من اصلاحات، واعداد خطة زمنية طويلة نسبيا لما كانت تسمية بـ "التغيير السلمي المتدرج والأمن " للنظام الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي. معروفة على نطاق واسع ما تسمى بـ "وثيقة المئة" و "وثيقة الأف" الموقعتان من قبل النخب السورية السياسية والثقافية والاقتصادية والاعلامية وغيرها.
وفي بداية تفجر الأزمة طالب بعض من هذه النخب بضرورة عقد مؤتمر وطني شامل لتدارس الخيارات المتاحة للحؤول دون امتداد الأزمة وشمولها للساحة الوطنية ككل، وتحولها من المظاهرات السلمية إلى حمل السلاح مع ما يترتب على ذلك من دمار للبلد وتمزيق وحدة شعبه، الأمر الذي حصل لاحقا للأسف نتيجة رفض النظام جميع هذه الخيارات، ومنها ما طرحه موالون له. واليوم أيضا لا يزال هذا الخيار ممكنا للخروج من الأزمة ووضع البلد على طريق التعافي وتضميد الجراح التي باتت غائرة للأسف في الجسد السوري والوطن السوري، لكنه يرفضه، كما يرفض التعامل بجدية مع مسار جنيف لحل الأزمة السورية.
إن أي ملاحظ لردة فعل السوريين الذين تابعوا المقابلة الصحفية للرئيس مع مراسل سكاي نيوز عربية، وهم كثر هذه المرة على غير العادة، صدموا بغياب تلك الأسئلة التي تهمهم، وبالتالي غياب أجوبة الرئيس عليها. ما يهم السوريين اليوم هو كيف يمكن توحيد البلد، وإعادة اعماره، وتحريره من محتليه، وضمان عودة اللاجئين والمهجرين إلى مناطقهم، وتحسين مستوى المعيشة لكل السوريين. وهم يدركون جيدا ان المدخل إلى كل ذلك يكمن في تغيير النظام بصورة جذرية وشاملة، لبناء نظام ديمقراطي يعلي من قيم الحرية والمسؤولية واحترام القانون، وحقوق الانسان، وهذا ما يرفضه النظام.