صعوبة التحول الديمقراطي في الدول العربية؟


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 7947 - 2024 / 4 / 14 - 10:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

خلال "الربيع العربي" طفت على السطح مطالب عديدة للناس كان من أبرزها، وفي مقدمتها مطلب الديمقراطية. ومن كثرة ترداد هذا المصطلح، وتضمينه في اغلب الشعارات التي رفعها " الثوار"، واستحواذه أيضاً على مساحات واسعة من انشغالات المثقفين العرب السياسية، حتى ظن كثيرون انه صار بديهة، ويكفي لكي يتحقق اسقاط الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. غير ان مسار الأحداث في الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية يقول غير ذلك، فليبيا واليمن وسورية والسودان تشهد صراعات أهلية، ومصر وتونس والجزائر عادت إلى حكم العسكر، وعاد العراق إلى حكم الطوائف مثل شقيقه لبنان، والأنظمة الملكية صارت أكثر استقرارا. ومن المنطقي والحالة كذلك أن يتقدم السؤال حول صعوبة التحول الديمقراطي في البلدان العربية.
بداية ينبغي التذكير أن مفاهيم مثل "الشعب" و"الدولة" و"السلطة" و"المواطن" وغيرها كثير من حوامل النظام السياسي هي مفاهيم غير نهائية، بل تصير، ويصير معها بالتالي مفهوم النظام السياسي ذاته، وما يتفرع عنه من مفاهيم الحرية والديمقراطية والقانون وغيرها كثير أيضاً. وهي تصير في سياق تفاعل معقد بين ما هو اجتماعي-اقتصادي- ثقافي لتشكل منظومات إدراكية معرفية تنتج بدورها سلوكيات وثقافة حاضنة لها. وإذ تصير فهي لا تقطع مع تاريخها، بل تدمج في داخلها الكثير من خصائص هذا التاريخ الذي سرعان ما يستدعيها إلى سطح الفعالية البشرية لتؤدي أدوارا فيه بحسب مصالح الفواعل الاجتماعية، أو بحسب وعيها لهذه المصالح.
والمصالح قد تكون متوافقة فعلا مع منطق التاريخ، باعتباره منطقا نقديا تجاوزيا تقدميا، ترسم على منحاه، في المحصلة، مساراً تصاعديا بصورة عامة، لكتها قد تكون مفارقة له بسبب طبيعة حضورها في الوعي كما يبدو على مسرح الفعالية البشرية. والوعي الراهن قد يتطابق مع المصالح كما هي فعلا في منطق التاريخ، وفي هذه الحالة تستخدم الوسائل القانونية( الاكراه الناعم) في سبيل تحقيقها، بحيث يحقق التاريخ من خلالها منطقه كمسار مفتوح على التجاوز والتقدم. لكنه قد لا يتطابق معها، وفي هذه الحالة يغلب الإكراه الخشن (بأدوات القوة) كوسيلة لفرض المصالح، فيرغم التاريخ على التفارق مع منطقه والسير في مسار دائري يعيد إنتاجه باستمرار.
لإزالة ما بدى احجية على ما افتكرناه أعلاه نبسط القول بعبارة واحدة: المسار الأول الذي وصفناه بالمنفتح والتجاوزي هو مسار الأنظمة السياسية الديمقراطية، أما المسار الثاني الذي وصفناه بالدائري فهو مسار الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية. لكن لماذا تسلك شعوب بعينها المسار الأول، في حين تسلك شعوب أخرى المسار الثاني؟ المسألة بالتأكيد خارج نطاق أي قدر، إنها في مسار التاريخ الحي، حيث ثمة ما يدفعها في المسار الأول أو في المسار الثاني، وهذا ما ينبغي القبض عليه معرفيا.
من المعلوم أن البشرية قد بدأت منذ بضعة قرون بالدخول في حقبة تاريخية جديدة هي الحقبة الرأسمالية، التي يتميز منطقها بضرورة تطابق نمط الإنتاج مع أسلوب الإنتاج المهيمن فيها. يتحقق هذا التطابق عبر جدليات الصراع الاجتماعي المفتوحة دائما على النقد والتجاوز في مناخات الحرية والديمقراطية والقانون. بكلام آخر فإن النظام السياسي الديمقراطي بأشكاله المختلفة هو النظام المطابق للرأسمالية، وهو يتطور بتطورها.
وإذ يقتضي منطق التاريخ تطوير نمط الإنتاج الرأسمالي من اجل ان تصير الديمقراطية ممكنة، فإن ذلك يعني، على وجه الخصوص، قطع مع منظومات إدراكية ومعرفية وأخلاقية وجمالية سابقة على الرأسمالية. والتطوير المطلوب هنا لا يعني إزاحة كاملة ونهائية لأنماط الإنتاج غير الرأسمالية، بل تهميش فعاليتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والأشكال التي تظهر بها في المجتمع، خصوصا في تنظيم وإدارة الدولة.
إن التعارض الآخذ بالتعمق بين أسلوب الإنتاج الرأسمالي، بما هو تعبير عن علاقات الإنتاج التي ميدانها الرئيس هو الاقتصاد، وبين نمط الإنتاج بما هو تعبير عن منظومات معرفية وإدراكية وقيمية وجمالية، وأشكال تنظيمها، تشكل المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية ميادينها الرئيسة، ما كان له أن يستمر في المجتمعات العربية حتى الآن، عداك عن احتمال استمراره في المستقبل غير المنظور، لولا وجود قوة أصيلة لا تزال فاعلة بكامل طاقتها الحيوية، تحافظ عليه وتصونه، وتعيد إنتاجه في مساره الدائري. تتمثل هذه القوة في التكوين العشائري والقبلي للمجتمعات العربية وفي الثقافة الدينية الراعية لهذا التكوين. والمقصود بالثقافة الدينية هنا ليس الجانب الطقوسي للدين، الذي يعيد التذكير به، ويجعله حاضرا دائما في ميادين الحياة المختلفة، بل جانبه القيمي-الأخلاقي، والمعرفي –الإدراكي، والأيديولوجي - السياسي التي تتكاثف في تكوين الإنسان العربي لتشكل منه كائنا ثقافيا من طراز خاص.
في كون الإنسان العربي متدينا لا يميزه عن غيره من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو غيرهم، بل في حجم الذكريات الدينية الحية التي لديه عن عربي "امي" بعث نبيا، وعن قرأن نزل باللغة العربية فقدسها، وعن خلافة أموية وعباسية، وأمجاد حضارة يعيد إنتاجها الحلم، أو الوهم لا فرق. والأخطر من كل ذلك دور الدين (كما هو في وعي المسلم) وثقافته في الحفاظ على روح القبيلة والعشيرة في شخصية العربي فكانت الحاضر الدائم في منطقه ومنظومة إدراكه، وعلاقاته. في الحقل السياسي يتكثف كل ذلك في نظرة العربي للأخر المختلف سياسيا تجعل منه عدوا ينبغي نفيه، وليس خصما يتكامل معه، ويشترط وجود كل منهم الآخر.
في الدول الديمقراطية صارت العلاقات مع الأخر المختلف في الحقل السياسي علاقات تكامل وشرط وجود، أما في الدول العربية وعلى الرغم من مظاهر التحديث الرأسمالي فإن العلاقات بين المختلفين هي علاقات نفي.
باختصار شديد لا يمكن فهم الشخصية العربية بمعزل عن تكوينها الديني والعشائري. والشخصية الدينية العشائرية في المستوى السياسي هي شخصية استبدادية بالضرورة، لأن الديني فيها لا يكون بلا قداسة، التي تعني احتكار الحقيقة. ومن يدعي احتكار الحقيقة فهو ديني بامتياز، سواء كان مقرا بتدينه أو ناكراً له، إسلاميا أو مسيحيا أو من أي دين آخر، شيوعيا أو قوميا أو ليبراليا لا فرق. هذه احدى الإشكاليات الرئيسة والأساسية التي تجعل التحول الديمقراطي في سوريا والوطن العربي عموماً صعباً.