الشرق الأووسط بعد طوفان الأقصى


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 7912 - 2024 / 3 / 10 - 14:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ال
يكاد يتفق جميع المتابعين والمهتمين بقضايا الشرق الأوسط من مختلف التوجهات والمصالح على أمر واحد على الأقل وهو: ان حرب إسرائيل على غزة بعد السابع من تشرين الأول/ اكتوبر قد دخلت في تاريخ المنطقة كحدث مفصلي حاسم في التأريخ لوقائعه، بل تجاوزت ذلك لتؤرخ بدلالتها علاقات كثير من الدول الإقليمية والعالمية بها. ليس من باب المغالاة القول: عندما يكتب تاريخ المنطقة الراهن في المستقبل سوف يسترشد بعبارة " قبل حرب غزة وبعد حرب غزة " او " قبل السابع من أكتوبر او بعده" كمعيار كلاسيكي لموضعة احداثه على مساره.
فعلى الصعيد العالمي بدأت تحصل تغيرات مهمة ليس فقط على مستوى السلطات الحاكمة بل تجاوزتها لتشمل الوعي الشعبي العام تجاه القضية الفلسطينية، خصوصا في الدول الغربية المؤيدة والداعمة تقليديا لإسرائيل. أشار تقرير قدم إلى لجنة المخابرات في الكونغرس الأمريكي إلى وجود تحول ملحوظ في الرأي العام الأمريكي من دعم إسرائيل إلى تأييد القضية الفلسطينية. لوحظ وجود الظاهرة ذاتها في العديد من الدول الأوربية الداعمة تقليديا لإسرائيل خصوصا في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بل تجاوزت ايرلندا كل محددات السياسات الأوربية التقليدية بقطع علاقاتها مع إسرائيل والتوجه لدعم القضية الفلسطينية.
إن عدالة القضية الفلسطينية بدأت تحفر أيضا في أنماط التفكير الأكاديمية والثقافية في العديد من الدول الأوربية، فها هي جامعة ادنبرة في أسكوتلندا تسجل سبقا تاريخيا في هذا المجال. في وثيقة صادرة عن الجامعة بتاريخ 14/12/2023 تعلن الجامعة تبنيها " رسميا وعلنيا خطة التحرر من الاستعمار" وتقدم " اعتذارا " للشعب الفلسطيني عن اعلان وعد بلفور لعام 1917.
من المعلوم ان أرثر جيمس بلفور الذي صدر الوعد بتوقيعه، وحمل اسمه، كان قد شغل وظيفة المستشار لجامعة ادنبرة في أسكوتلندا لفترة طويلة جدا (1891-1930) قبل ان يصبح وزيرا، مما يعني ان الجامعة تشعر بالمسؤولية عن وعده على الأقل من الناحية الأدبية.
التأثير الكبير لطوفان الأقصى سوف يكون على الدول الإقليمية وإن كان بتفاوت كبير. فعلى المستوى الإسرائيلي بدأت حرب غزة تحفر عميقا في مستويات التفكير لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين، سوف يكون لها تأثيرها على كثير من القناعات والسلوكيات التي بدت راسخة لديهم، من قبيل أن إسرائيل محصنة بقوتها، محصنة بتقدمها العلمي والتكنولوجي، محصنة بنظامها الديمقراطي، محصنة بقوة اقتصادها، محصنة بدعم الدول الغربية لها، وغيرها.
وعليه ونتيجة لهذا الحفر يرجح، بداية، ان تحصل تغيرات في المستوى السياسي والأمني الإسرائيلي تؤدي إلى فقدان نتنياهو لمنصبه كرئيس للوزراء الإسرائيلي، وربما خروجه نهائيا من العمل السياسي، وسوف يلحق به تحالفه الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. ومما لا شك فيه سوف تجري تحقيقات في إسرائيل تتعلق بالفشل الأمني والعسكري الذي سمح لحماس مهاجمتها في السابع من تشرين الأول/ اكتوبر تطيح بنخبة من القادة الأمنيين والعسكريين الاسرائيليين.
لكن التغيير الأهم الذي من المرجح حصوله في العقلية الإسرائيلية الصهيونية لاحقا هو ذاك الذي سوف يؤدي إلى تراجع التطرف الإسرائيلي لجهة القبول بحل الدولتين للقضية الفلسطينية. فبحسب بعض المصادر الإعلامية والسياسية الإسرائيلية فإنه ليس في صالح إسرائيل ان تخوض حروبا لا نهاية لها، بل إن مصلحتها، على المدى البعيد، تكمن في الاندماج في المنطقة، وهذا ما بدأت تشتغل عليه أمريكا والعديد من الدول الأوربية. وحتى انجاز هذا الحل المتوافق عليه دوليا وعربيا وفلسطينيا، تخشى بعض الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل من حصول موجة هجرة عكسية واسعة من إسرائيل إلى الخارج، وهي عمليا قد بدأت بالنسبة لمزدوجي الجنسية. تقدر بعض المصادر الإعلامية إن عدد الذين غادرو إسرائيل إلى غير رجعة يبلغ بنحو 800 ألف شخص.
من نتائج حرب غزة المؤكدة أيضا تعويم القضية الفلسطينية وإعادة طرحها من جديد في المحافل الدولية، وبحسب العديد من المؤشرات، سوف يتم التعامل معها بجدية هذه المرة. يؤكد ذلك ما تطرحه الإدارة الأمريكية بلسان رئيسها، وبلسان وزير خارجيته، وما يصرح به العديد من القادة الغربيين، وروسيا والصين، وكثير من دول العالم، من ضرورة التفكير بالحلول السياسية بعد توقف حرب غزة.
ومن التغيرات المباشرة لحرب غزة الإطاحة بمشاريع التطبيع التي كانت تجري بين بعض الدول العربية وإسرائيل، وبجميع المشاريع التي كان يجري التخطيط لها لتنفذ في إطار معادلة التطبيع. فبحسب المصادر السعودية فإن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد صرح بأن بلاده لم تعد مهتمة بالتطبيع مع إسرائيل، وان هذا لن يحصل إلا في سياق تسوية شاملة لقضية فلسطين.
من جهة اخرى، فإن حرب غزة قد أطاحت عمليا بالمشروع الأمريكي لإدخال عنصر جديد إلى هندستها السياسية للمنطقة، تكون السعودية وإسرائيل دعامتاه الرئيسيتان، او على الأقل سوف تعيفه لفترة طويلة نسبيا. من المعلوم ان أمريكا عملت على هذا المشروع منذ عام 2022، وتوضح أكثر في اجتماع قمة العشرين، ويفيد بإنشاء طريق جديد للتجارة يربط الهند بأوروبا مرورا بالإمارات والسعودية ومن ثم الأردن وإسرائيل.
على الصعيد السوري فأن طوفان الأقصى لن يكون له تأثير حاسم على النظام السوري فهو على الأرجح لن يواجه التغيرات المحتملة في خريطة الشرق الأوسط سواء لجهة الجغرافيا، ام السياسات أم المشاريع، بأجراء تغييرات داخلية تجعله أكثر انفتاحا على القوى الوطنية الديمقراطية في المعارضة السورية، وتقبلا لإشراكها في الحكم، مما يجعله أقوى في مواجهة الضغوطات الخارجية. يستند في عناده هذا على دعم حلفائه، وخصوصا على دعم إيران، التي دخلت في تفاهمات مع واشنطن حول ذلك كما تشير بعض المصادر الإعلامية والسياسية. فبحسب المحامي أيمن أبو هاشم منسق تجمع " مصير الفلسطيني السوري"، أن السيناريو الأكثر ترجيحا لتفاهمات إيران وأمريكا بخصوص عدم توسيع حرب غزة هو بقاء النظام السوري، وإعادة تموضع الوجود الإيراني في سورية بعد إضفاء الشرعية الأمريكية عليه.
في الواقع لم يكن النظام بحاجة إلى تفاهمات إيران مع أمريكا لكيلا يستفز إسرائيل، إذ لم يحاول في السابق الرد على اعتداءاتها المتكررة على مواقع عديدة في سورية، ومنها بعض المواقع المدنية مثل مطاري حلب ودمشق الدوليين، علما انه يمتلك ثلاث ألوية صواريخ أرض- أرض يمكنها ان تصيب أي موقع في إسرائيل. مع ذلك، وحسب ما أفادت به مصادر محلية للقدس العربي، فإن حرب غزة جعلته، بالتوافق مع إيران، يتخذ بعض الإجراءات الاحترازية، منها السماح لحزب الله وغيره من المليشيات التابعة لها بالتموضع في بعض الأماكن في الجبهة المحاذية لإسرائيل.
في الواقع لن تبقى دولة عربية بمنأى عن تأثير طوفان الأقصىـ فهو قد بدأ عمليا الحفر في المجتمعات العربية سواء على مستوى الحكام أم على مستوى الشعوب. وإذا كان حفرها لدى الحكام العرب يواجه عقبات كثيرة، نتيجة الهندسة السياسية التي عملت على ترسيخها أمريكا خلال العقود الماضية، فإن الحفر في مستويات التفكير السياسية والثقافية العامة لدى الشعوب العربية تتسارع كثيرا مما قد يتسبب، في حال استمرار الحرب في غزة، في انهيار مجمل البناء الهندسي السياسي للمنطقة، وهذا ما تخشاه الدول الغربية، وكثير من الحكام العرب.
فيما يخص إيران فإن طوفان الأقصى قد اظهرها لاعبا رئيسا في قضايا المنطقة، وسوف تستثمر في ذلك سياسيا. من المعلوم إن تدخل حزب الله في الحرب على إسرائيل بذريعة دعم ومناصرة الفلسطينيين في غزة، وكذلك تدخل الحوثيين في اليمن والمليشيات الموالية لها في العراق ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ما كان ليحصل لولا التأثير الإيراني المباشر. وتدرك أمريكا وغيرها من الدول الغربية إن أية حلول لازمات المنطقة المتفجرة لن يحصل بدون مشاركة إيران، مما يعني حصولها على اثمان مجزية في مجالات عديدة. في اليمن بدأ الترويج لنظام سياسي شبيه بالنظام الإيراني يشغل فيه عبد الملك الحوثي وظيفة المرشد، وعلى المستوى العراقي تم التوصل إلى تفاهمات بين أمريكا والحكومة العراقية على جدول زمني لمغادرة القوات الأمريكية والمتحالفة معها للعراق. أما فيما يخص سورية فقد كانت إيران جنت بعض المكاسب بعدم التعرض مباشرة للنظام كما كانت تهدد بذلك إسرائيل، وفي إطار التسوية الشاملة لازمات المنطقة التي يجري العمل على إنضاج ظروفها، سوف تضغط إيران من أجل التطبيع مع النظام ليس فقط عربيا بل إقليميا ودولياً، انطلاقا من رفع العقوبات عنه.
فيما يخص تركيا، وهي بلا شك لاعب مهم في المنطقة وخصوصا في سورية، سوف تسعى للاستفادة من طوفان الأقصى لتعزيز نفوزها في المنطقة. لقد بدأت تطرح نفسها كضامن لأية تسوية في غزة، مستفيدة من جهة: من حضورها الجيد والمقبول لدى الإسرائيليين والفلسطينيين، ومن جهة ثانية لكون أمريكا تفضل ذلك بحسب بعض المصادر الإعلامية الأمريكية والتركية. ويبدو لي أن ما تطالب به تركيا ثمنا لهذا الدور الذي تطمح لتأديته سوف يكون في سورية، يتعلق أساسا بعلاقة أمريكا بقوات سورية الديمقراطية، وبوجود الإدارة الذاتية. بالأمس صرح اردوغان بأن بلاده لن تقبل بوجود أي كيان انفصالي(كذا) على حدوده الجنوبية، وأن تركيا بصدد غلق ما سماه بالثغرات في المنطقة الأمنية التي اقامتها بلاده بسورية بعمق 30 إلى 40 كيلومترـ وهو يقصد بالتأكيد المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية. وبحسب ما صرح به وزير خارجية روسيا لافروف على هامش اللقاء الدبلوماسي في انطاليا التركية بان التسوية بين النظام السوري وتركيا باتت مستحيلة بعد طوفان الأقصى، وكان يعني التشدد التركي المستجد بحسب بعض المصادر الإعلامية التي نقلت عنه تصريحه.
ليس خافيا متابعة الصين وروسيا لما يجري في المنطقة، ويأملان أن تتورط أمريكا، وغيرها من الدول الغربية، أكثر فأكثر في الأزمة المستجدة نتيجة حرب غزة، فيجنيان من ذلك مكاسب سياسية واستراتيجية. وبالفعل فقد بدأت هذه المكاسب بالتحقق نتيجة دعم أمريكا اللامحدود لإسرائيل سياسيا ودبلوماسيا، وتزويدها بما تحتاجه من معدات عسكرية، وحشدها لأساطيلها في البحر الأبيض المتوسط، وأرسالها لأكثر من ألفي جندي وخبير من قواتها إلى إسرائيل.
بالنسبة لروسيا تراجع الاهتمام الغربي بصورة عامة بالحرب في أوكرانيا، وأكثر من ذلك بدأت تؤدي دورا على صعيد إنضاج الظروف لعودة منطقة الشرق الأوسط إلى وضعية الاستقرار بحل مشاكلها من خلال العمل على توحيد الفلسطينيين، وقيل انها تؤدي هذا الدور بالتفاهم مع أمريكا.
أما بخصوص الصين فقد كسبت من انشغال أمريكا بقضايا الشرق الأوسط، وانصراف اهتمامها عن توتير قضايا جنوب أسيا بحسب الخطاب الصيني، لتركز اهتمامها على اقتصادها أكثر. ويبدو لي ان طوفان الأقصى قد عوم أيضا النفوذ الصيني لدى بعض دول المنطقة الأمر الذي تمثل في الطلب الأمريكي منها استثمار هذا النفوذ لدى إيران للضغط على جماعة الحوثي للحفاظ على امن وسلامة الممر المائي الدولي في مضيق باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر، ولن يحصل ذلك بلا ثمن.
إن استراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي اعتمدتها إدارة جورج بوش الابن في المنطقة العربية، ونفذتها إدارة أوباما، واستثمرت فيها سياسيا واقتصاديا إدارة ترامب، كان يؤمل منها التقليل من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، للتفرغ لمجابهة الصين في الشرق الأقصى، خصوصا بعد ان غرقت روسيا في مستنقع الحرب الأوكرانية. غير ان طوفان الأقصى قد قلب المعادلات في المنطقة رأس على عقب ووجدت الدول الغربية نفسها من جديد غارقة في مشاكلها. لذلك يجري الحديث في الأوساط السياسية الغربية عن ضرورة العودة إلى استراتيجية استقرار المنطقة الأمر الذي يتطلب إيجاد حلول دائمة لمشاكلها. والإخراج الذي يتم الحديث عنه هو في عقد مؤتمر دولي تشارك فيه جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية.