ملامح تغيرات استراتيجية في المشهد العالمي


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 7671 - 2023 / 7 / 13 - 12:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كان من نتيجة الحرب العالمية الثانية أن توازن العالم حول مركزين قويين على الصعيد العسكري هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وحولهما توزع المشهد العالمي برمته. لكن هذا التوازن كان قلقا إلى حد كبير، من جهة بسبب الاختلاف الكبير بين طبيعة النظام السياسي في كليهما، ومن جهة أخرى بسبب سعي كل طرف للهيمنة.
لقد استمر هذا التوان الاستراتيجي غير المستقر حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، حين انهار ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، مما سمح بإعادة الانسجام إلى النظام الرأسمالي العالمي الذي انفردت أمريكا بزعامته. منذ ذلك التاريخ بات التنافس (الصراع) ضمن التشكيلة الرأسمالية بين مراكزها الرئيسة، يتمحور حول الموارد، والأسواق، والهيمنة السياسية.
في السابق كانت الصراعات بين المراكز الرأسمالية تحسم عادة بالحرب، لكن في ظل توازن الرعب النووي القائم بين هذه المراكز، لم تعد الحرب وسيلة ممكنة لحسم هذه الصراعات، بل السباق في المجال الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. ومع ان سلاح القوة الخشنة لا يزال يستخدم للهيمنة على أطراف المراكز الرأسمالية، لكنه بدأ يصير ناعما أكثر فأكثر، متمثلا في سلاح العقوبات الاقتصادية والسياسية والقانونية. غير ان هذا السلاح، كما اثبتت تجارب استخدامه، هو سلاح ذو حدين، إذ يلحق الضرر بالدول التي يفرض عليها، فإنه يلحق الضرر أيضا بالدول التي تفرضه، عداك عن الأذى الذي يلحقه بالعلاقات الدولية، وبالاقتصاد العالمي.
إن قطبية أمريكا في المشهد الدولي العالمي التي حازتها بعد الحرب العالمية الثانية ولا تزال مستمرة حتى اليوم قامت على جملة من الدعائم هي:
الدعامة الأولى؛ تتمثل في القوة العسكرية، إذ تتفوق أمريكا على المراكز الرأسمالية الأخرى بأغلب صنوف الأسلحة، مع ان الحفاظ على فائض القوة هذا بدأ يشكل عبئا مالياً على الميزانية الامريكية السنوية، وعلى الاقتصاد الأمريكي بصورة عامة.
الدعامة الثانية؛ تتمثل في القوة الاقتصادية، إذ لا يزال الاقتصاد الأمريكي يمثل نحو ربع الاقتصاد العالمي.
الدعامة الثالثة؛ تتمثل في السيطرة على الشبكات المالية العالمية او التحكم بها، وهذا ما يسمح لأمريكا بمراقبة حركة الأموال في هذه الشبكة.
الدعامة الرابعة؛ فرض الدولار كعملة عالميةـ وهذا ما يسمح لأمريكا بتغطية عجوزاتها المالية الداخلية او الخارجية عن طريق طباعة مزيد من الدولارات وتحميل التضخم الناتج للعالم كله.
الدعامة الخامسة؛ تتمثل في القدرة على الابتكار العلمي والتكنولوجي وجذب العقول من مختلف دول العالم.
الدعامة السادسة؛ قوة ومرونة النظام السياسي الديمقراطي.
هذه الدعائم الست للزعامة الأمريكية بدأت تتعرض لتهديدات جدية من قبل منافسيها وخصوصا من قبل الصين، مما يؤشر إلى تغيرات ذات طابع استراتيجي في النظام الرأسمالي العالمي:
فيما يخص التفوق العسكري في ظروف توازن الرعب النووي فقد تغير المفهوم، ولم يعد يحسب بعدد القوات والأسلحة والميزانيات العسكرية. إن من يملك مثلا خمسة آلاف رأس نووي لا يعد متفوقا على من يملك خمسمئة رأس، لأنه في حال نشوب حرب سوف يحصل التدمير الشامل المتبادل.
وفيما يخص التفوق الاقتصادي فقد ازاحت الصين أمريكا من المقدمة بحجم الناتج المحلي الإجمالي (26 ترليون مقابل24 تريليون) وهي تقترب من ازاحتها من المقدمة أيضا بعدد براءات الاختراع المسجلة، ولم تعد تتفوق عليها في المجال التكنولوجي.
ومما يلفت الانتباه التكاليف الباهظة جدا التي يتحملها الاقتصاد الأمريكي للحفاظ على الزعامة الأمريكية، والتي تمثلت في حجم الدين العام الأمريكي الذي يزيد عن حجم مديونية جميع دول العالم. بحسب المصادر الرسمية الأمريكية بلغ حجم الدين العام في مطلع عام 2023 نحو 31.4 ترليون دولار (بالموازنة بلغ حجم دين الصين 2 ترليون دولار، وحجم دين روسيا300 مليار دولار)، مما جعل بعض المراقبين يتخفون من عدم قدرة أمريكا على سداد ديونها، خصوصا للدول الأجنبية. (1.3 ترليون لليابان،1 ترليون للصين، 700 مليار لبريطانيا ولدول أخرى عديدة).
بالطبع لا تزال تستطيع أمريكا نظريا طباعة مزيد من الدولارات لسداد ديونها، لكن ذلك سوف يزيد في معدلات التضخم العالمية، مما يدفع المدينين إلى الإسراع في استبدال ديونها بسلع او أصول إنتاجية او خدمية أمريكية. وللحد من تأثير هذه الميزة بيد أمريكا تسعى الصين ودول أخرى عديدة إلى استخدام العملات الوطنية في مبادلاتها التجارية بدلا من الدولار، وقد حققت بعض النجاحات المهمة على هذا الصعيد.
بصورة عامة تتقدم الصين بثبات للتفوق على أمريكا اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، تحاثيها في هذا المجال الهند والاتحاد الأوربي، والعديد من الاقتصادات المتوسطة، مما يخلق ظروف ملائمة لتحول النظام العالمي من وضعية أحادية القطب إلى وضعية تعدد الأقطاب. أمام هذا الواقع المتغير بسرعة وبثبات من الطبيعي ان تقلق الولايات المتحدة الأمريكية على زعامتها. بحسب العديد من الخبراء الدوليين ومنهم خبراء أمريكيون، سوف تتفوق الصين على أمريكا في جميع المجالات مع منتصف القرن الحالي، وتقود منظومة رأسمالية متعددة الأقطاب.