قص الجواسيس / من -الزهرة القرمزية- إلى -فتاة الحلوى- و-عملية القاهرة-


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 5285 - 2016 / 9 / 14 - 09:55
المحور: الادب والفن     

قص الجواسيس شكل من القص مكرس لأنواع مختلفة من التجسس نشأ في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وبلغ أوجه أثناء الحرب الباردة. وكان قريبًأ في البدايات من روايات المغامرة مثل رواية أنتوني هوب سجين زندا ورواية الزهرة القرمزية للبارونة أوركيزي وبعض روايات إدجار والاس، وقريبًا أيضًأ من رواية الإثارة السياسية العسكرية وأمثلتها بعض أعمال إريك امبلر وبعض روايات التسلية لجراهام جرين مثل “مدفع للبيع” و”رجلنا في هاقانا”.

أطلق على الجاسوسية ثاني أقدم مهنة في التاريخ، فالتوراة تذكر النبي موسى يرسل جواسيس لاستكشاف أرض كنعان، كما أن هناك تجسسًأ في الإلياذة والأوديسه، وهناك كذلك دليلة ويهوذا كجاسوسين نموذجين في التقليد اليهودي المسيحي. ومن المؤكد أنه منذ الأزمنة القديمة وفي كل مدنية استخدم الحكام الجواسيس لجمع استخبارات أي معلومات متعلقة بعدو أو صديق. وحتى بعد نهاية الحرب الباردة من المتوقع أن مهنة الجاسوسية ستستمر في النمو ومعها قصص الجواسيس.

ولا يعترف كثير من الاتجاهات النقدية الحديثة بأدب الجواسيس بأكمله على اعتبار أن كاتب هذا الأدب ينقصه أن يكون مبدعًا لأن مادته الخام جاهزة من صنع أجهزة المخابرات. والمخابرات حرب يكسبها الأكثر ذكاءً ومن يمتلك أكبر قدر من المعلومات. وقص الجواسيس قد يعتمد على الوثائق وملفات المخابرات كما هي الحال في روايات صالح مرسي. ولكن قصة الجواسيس استخلصت الكثير من أفضل عناصر السرديات وارتقت إلى شكل متطور من القص كان في أفضل حالاته محكم الحبكة يضم شخصيات مرسومة جيدًا وأفعال مشوقة وإخلاصًا لحقيقة التفاصيل التقنية جميعها. وفي الحقيقة لقد استخلصت قصة الجاسوسية الكثير من أفضل عناصر السرديات وارتقت إلى شكل متخصص متبلور من القص كان في أفضل حالاته محكم الحبكة يضم شخصيات مروسومة جيدًا وأفعال مثيرة ودرجة عالية من التوتر والتشويق والإخلاص لحقيقة التفاصيل التقنية كلها. وقد عرف هذا النوع أدباء بارزين من كونراد وكبلنج إلى جون لوكاريه مرورًأ بجراهام جرين وسومرست موم كتبوا أعمالاً تنتمي إلى هذا النوع تعد في مصاف الأعمال الأدبية الرفيعة.

يختلف أدب الجواسيس عن أدب الجريمة البوليسية . ومن الشائع أن يكون بطل هذا النوع رجل مخابرات أو عميل سري لها، ولكن قد يكون الشخص الذي تطارده تلك الأجهزة. وعميل سري تعني جاسوسًا والعميل السري لكونراد هي الرواية الأولى التي تستعمل التعبير بمعناه الحديث. والجواسيس ليسوا أخلاقيين يقيسون أعمالهم على مبادئ الأخلاق، بل قد يكونون غير أخلاقيين بالمرة كما لا يشبهون جيمس بوند. وأماكن لوكاريه المتواضعة أكثر واقعية من أماكن بونج الفاخرة.

برزت كتابة قص الجواسيس أثناء الحرب العالمية الأولى في انجلترا وهي كتابة ذات اتجاه وطني متعصب يميني "الأشرار" فيها هم الألمان في قصص بوكان، وأشهرها الدرجات التسع وثلاثين (1915) وفي 1928 نشر سومرست موم قصص جواسيس مبنية على تجاربه كضابط مخابرات تحاول أن تتمسك بالموضوعية وتصور الجواسيس كبشر عاديين قد يكونون لطافًأ يمارسون وظيفة كسائر البشر وتغيب فيهم أي صفة غير عادية. وبين الحربين صدرت أفضل قصص الجواسيس بقلم إريك أمبلر في أواخر الثلاثينيات وهو صاحب موهبة استثنائية في الحفاظ على التشويق دون الوقوع في نزعة ميلودرامية. وكانت كتابات جراهام جرين جيدة ومختلفة وإن صنفها كقص للتسلية. وتعتبر روايات جون لوكاريه عن الصراع بين الشرق والغرب من أفضل ما كتب في هذا النوع خلال الحرب الباردة. وأفضل قصصه تذوب أفكارها السياسية في أفعال شخصياتها وأحداثها، كما تنصهر في عواطفهم وتخلق انطباع أن الأفكار تتحول إلى شخصيات حية تولد حرارة كثيفة يستقبلها المتلقي. ورغم انتماء رواياته إلى أدب الجاسوسية نالت الاعتراف كأعمال أدبية رفيعة، ففيليب روث الروائي الأمريكي الشهير اعتبر رواية لوكاريه “الجاسوس المثالي” التي صدرت في منتصف الثمانينيات أفضل رواية كتبت بالانجليزية منذ الحرب العالمية الثانية.


وبعد سقوط حائط برلين ظن بعض الكتاب أن هذا النوع قد انتهى. ولكن بعد 11 سبتمبر 2001 ومع تعاظم الجاسوسية وظهور أشكال جديدة من الصراعات السياسية والمسلحة صارت هناك شبكات تجسس هائلة تعمل على نطاق العالم كله، وعاود أدب الجواسيس الظهور بعد تغير مسرح الأحداث من الصراع بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي إلى مناطق ما يسمى الإرهاب أو "توسعات الدب الروسي". وبدلاً من الموت المعلن ازدهرت روايات الجواسيس وظهر كتاب جدد، بل إن هذا النوع الأدبي اجتذب كتابًا معروفين بكتابة أعمال أدبية رفيعة خارجه. عاود جون لوكاريه الكتابة عن عالم الجاسوسية بعد 11 سبتمبر وظهر واضحًا في كتاباته موقفه من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم وتغير عالم الجاسوسية بدخول لاعبين جدد كالشركات الخاصة وتحولات الجواسيس الذين عملوا لصالح أنظمة سقطت.

ونتيجة للحراك السياسي وما تشهده المنطقة العربية من حروب ازداد الاهتمام بأدب الجواسيس الذي يبلغ قراؤه الملايين. ويعد أولن ستاينهاور الكاتب الأمريكي الذي انتقل من كتابة الروايات التاريخية إلى رواية الجاسوسية أبرز كتاب ذلك النوع في الجيل الحالي. كتب ستاينهاور ثلاثية “السائح”، والسائح تعبير أطلقه على القتلة المحترفين الذين يعملون لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وتبدأ أحداثها في عام 2001. وينتقل في رواية “عملية القاهرة” الصادرة في 2014 إلى الشرق الأوسط بعد الربيع العربي. حبكة الرواية معقدة وأحداثها تنتقل من الولايات المتحدة إلى بودابست وليبيا لكن معظم الأحداث تدور في القاهرة. تمتلئ الرواية بالشخصيات والأماكن والأحداث وتتميز بالإثارة والخطوط المتشعبة للقص على خلفية الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط لكن ذلك يربك الحبكة. جبريل عزيز رجل المخابرات الأمريكية الذي قتل والده بعد انقلابه على القذافي يكتشف أن عملاء الوكالة الليبيين يختفون في عواصم مختلفة من العالم ويطلب من رئيسه السفر إلى ليبيا لاستكشاف ما حدث لرجالهم هناك فيسمح له بذلك فيما يبدو مهمة شخصية مدفوعة بخلفية عزيز الذي يعتقد أن الأحداث في الشرق الأوسط أكبر من الثورة الإيرانية وأنها ستغير الجغرافيا السياسية للعالم وعندما يسأله العميل الذي هربه إلى داخل ليبيا عن موقف لانجلي (إشارة إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية) يرد بأن “ما تعتقده الوكالة ليس سوى نقطة في محيط التاريخ” ولكنه يذهب إلى ليبيا لإنقاذ رجاله. يقتل عزيز في مغامرته غير المأمونة في ليبيا ما بعد القذافي. وفي بوابست يقتل ديبلوماسي أمريكي في مطعم بعد أن صارح زوجته باكتشافه لخيانتها له في القاهرة حيث كان يعمل قبل الانتقال للمجر. تسافر الزوجة صوفي كول إلى القاهرة بعد خداع مسؤولي السفارة الأمريكية الذين رتبوا عودتها لوطنها لتكتشف سر مقتل زوجها بمساعدة عشيقها السابق الذي يقتل بعد تعقد الأحداث بدخول جاسوسة من يوغوسلافيا السابقة لا نعرف في البداية لصالح أي مخابرات تعمل ونكتشف تدريجيًا أنها جندت صوفي كول للتجسس على السفارة الأمريكية، ودخول أجهزة الأمن المصرية ممثلة في الضابط عمر حلاوي الذي تخطاه المسؤولون في الترقية في قسم صغير يهتم بشؤون الأجانب وجد نفسه في قلب أحداث أكبر من إدراته ونمط حياته ولكنه يلعب دورًا رئيسيًا في حماية صوفي كول ومساعدتها على كشف لغز قتل زوجها ويكتشف هو سر مقتل جبريل عزيز الذي عامله كابن له، وكأن الرواية تؤكد رمزية أن ما يحدث في الشرق الأوسط خارج سيطرة القوى الكبرى ومؤامراتها.

وفي العالم العربي اتجه كتاب روائيون جادون إلى كتابة هذا النوع في السنوات الأخيرة، كما هي الحال في رواية “فتاة الحلوى” للروائي والديبلوماسي محمد توفيق. تدور أحداث الرواية في براعة حول مطاردة أجهزة الاستخبارات لعالم مصرى عمل فى المفاعل النووى العراقى أيام صدام حسين ولجأ إلى مصر بعد سقوط بغداد. وهو يختفى محاولاً الذوبان فى زحام القاهرة السفلى وجموع بشرية رثة، ويلجأ إلى حى عشوائى حيث نقابل نماذج إنسانية متنوعة فى صراعها من أجل البقاء بكل الطرق. وتتنقل الرواية بين ذكرياته والعالم الافتراضي الذي يلجأ إليه لإقامة علاقة عاطفية افتراضية وبين عالم الجاسوسين اللذين يديران المطاردة التي تتخبط في زحام القاهرة بأحدث أجهزة الاتصال فى مبنى بنيويورك يطلق عليه “مبنى الأشباح”.

لقد تطور قص الجاسوسية من نوع للتسلية إلى شكل أدبي جاد يتناول القضايا السياسية والإنسانية الكبرى ولم يعد العالم العربي مستهلكا لهذا النوع فحسب، بل منتجًا بأقلام كتاب عرب من منظورهم للعالم.