الماركسية - التناقض بين المنهج والنصوص


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 4103 - 2013 / 5 / 25 - 13:13
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الشرق بلا تاريخ ونهاية التاريخ!
يعتمد القائلون بنمط الإنتاج الآسيوى (الاستبداد الشرقى ) تبريرًا لخصوصية بلاد الشرق على نصوص قاطعة لا ريب فيها لكارل ماركس وفريدريك إنجلز وجورج بليخانوف. وينسبون إلى يوسف ستالين واستبداده الشرقى علة إسقاط ذلك المفهوم الثمين من كتلة النصوص الماركسية. فالجمود الستالينى وقف عند خمسة أنماط لتطور المجتمعات. أما أنصار النمط الآسيوى فهم متحررون من هذا الجمود ويزعمون أنهم يقدسون التفسير العلمى "المرن" لخصوصية الشرق ( مصر والبلاد العربية عند صادق سعد)، وهو تفسير يصل بالمرونة إلى قصى آمادها. إذ يلتف حول عدد كبير من المجتمعات تكاد تضم ما يسمى بالعالم الثالث جميعه، كما يتسع لكى يبتلع كل تاريخ هذه البلاد إبتداء من مرحلة ماقبل التاريخ حتى بداية الرأسمالية. وعلى الرغم من هذه المرونة العجيبة فى تفسير (التاريخ ) فإن نقطة انطلاق هذا المفهوم تؤكد ما قبله ماركس وأكده فى نصوصه ابتداء من عام 1853 فى مراسلاته مع إنجلز وفى مقاله الشهير ( السيطرة البريطانية فى الهند ) وانتهاء ببعض الإيماءات فى (رأس المال) من ثبات الشرق وركوده فى الأساس، أى فى الهيكل الاقتصادى. لقد ردد ماركس بالحرف الوحد الأفكار التى كانت شائعة قبل الماركسية وخصوصًا عند هيجل؛ أفكار أن آسيا والشرق عمومًا بلا تاريخ. فالمجتمعات الشرقية تعيد إنتاج نفسها. وهناك من يزعمون أن ماركس وإنجلز طورا آراءهما فى العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضى بعد دراستهما لأعمال مورجان فى الجتمع البدائى وكفا عن القول بتعارض جذرى بين الشرق والغرب(1). ومن المؤكد أن هذا المفهوم الآسيوى ليس له أى دور فى كتابات لينين.
وعلى أية حال، فمن الثابث أن بعض نصوص ماركس، حتى مرحلة متأخرة من حياتة ردّدت آراء سابقيه عن ركود الشرق وعدم قابليته للتغير. فتاريخ الشرق على السطح-وهو يبدو عاصفًا، وتعاقبًا من الصراع والحرب ونشوء الدول واضمحلالها-يخفى الغياب الجوهرى للتغير أو التطور فى الهيكل الاقتصادى. كما أن السحب العاصفة للسماء السياسية لاتمس بنية العناصر الاقصادية فى المجتمع.
وهذا القول الشائع عن ثنائية جوهرية فى تاريخ العالم ثنائية جوهرية داخل التفسير الماركس لهذا العالم وعن تقسيمة، قبل الرأسمالية، إلى شرق راكد وغرب دينامى، يرجع إلى فلسفة التاريخ عند هيجل وعن مخلّفاتها فى كتابات ماركس.
فعند هيجل الذى نقل عنه ماركس صيغ الاستبداد الشرقى وجمود الشرق يمتد الاختلاف الجذرى بين الشرق والغرب إلى مملكة الروح والفكرة. فالتغير أو التطور بفعل الديالكتيك الداخلى ميزة ينفرد بها الغرب ولامثيل له فى الشرق الذى لا يأتيه التطور إلا من خارجه، من الغرب! وجوهر الغرب عند هيجل هو التطور الغائى نحو الحرية (حرية الفرد فى الأنظمة البرلمانية الدستورية أو الرأسمالية)، وتحقيق الإنسانية لذاتها بذاتها بواسطة التناقض. ولايمكن القول عند هيجل بخضوع الغرب والشرق معًا لقانون عام فى التناقض.
إن تفرّد الغرب وامتيازه جزء جوهرى من مذهب هيجل. فما هى غاية التاريخ أو "نهايته"؟ (الكلمة تشير إلى المعنيين معاً)، إنها تحقيق حرية الذات. وتلك الحرية لن يصل إليها الاستبداد الشرقى وعبوديته المعممة حيث لايوجد إلا فرد واحد حر هو الفرعون أو السلطان. فهذه الحرية الديمقراطية جزء من الدور التاريخى العالمى للغرب (من اليونان والرومان إلى الديمقراطية الغربية) وليس ماركس مسؤولاً عن أن المنطق الموضوعى لهذه الفكرة-التى كانت الوقائع المعروفة حتى ذلك الوقت عن الشرق تؤكدها-يؤدى إلى القول بدور تحريرى للرأسمالية الغربية إزاء الشرق الذى يفتقد الحرية ولايعرف تغيرًا بمنطق هيكله الاقتصادى نحو الرأسمالية، كما يؤدى إلى الحط من واقع الشرق وتبرير استعماره.
الماركسة ونصوصها
هل الماركسية باعتبارها نظرية ومنهجًا علميين تعنى الوعى الفردى لكارل ماركس وتعتبر كتاباته بأكملها متكافئة متساوية الأهمية ملزمة للماركسيين ؟
هناك فرق بطبيعة الحال بين أمرين أولهما التتبع التاريخى لتطور فكر ماركس كما حدث فى الواقع الفعلى، وما يترتب على هذا التتبع من وصف مسار هذا التطور بكل تفصيلاته وأحداثه الجوهرية والعرضية انتقالاً من كتابات الشباب إلى كتابات النضج، وتحديد الطفرة أوالقطيعة المعرفية (كما يقال)، وثانيهما هو تحديد البنية النظرية لهذا الفكر، التى يمكن أن تقام عبر تحليل منطقى لعملية تطور هذا الفكر. إن هذه البنية النظرية المتطورة نصل إليها بالسير فى الاتجاه العكسى، وتبدأ من قمة النضج الفكرى وتدرس حلقاته السابقة من منظور طوره الأعلى. وبهذه الطريقة يتحدد المسار المتسق منطقيًا وتجريبيًا لصيرورة هذا الفكر وحركته التى كان لابد وأن تتحقق عبر التناقضات الداخلية. ولحل هذه التناقضات التى يكشفها التتبع "التاريخى" للفكر فإن البنية المنطقية لفكر كارل ماركس، عند إقامتها، تسلط الضوء على الطرق الجانبية المضللة التى سار فيها أحيانًا ( الخلط بين العمل وقوة العمل والخلط بين الملكية الاقتصادية والقانونية فى الصيغه التجريبية التى نقلها عن آخرين، صيغة غياب الملكية الخاصة للأرض وملكية الدولة للأرض فى الأشكال "الآسيوية". كما تعيد النظر فى تحديد موقع بعض المفهومات الخاصة به اختلافاً مع موقعها فى المسار التاريخى لفكرة (مفهوم الريع وأنواعه).
ونصل من ذلك إلى أن البنية النظرية للماركسية (شبكة مصادراتها postulates ومفهوماتها الأساسية ومبادئها الفلسفية فى اتساقها المنطقى الداخلى ومطابقتها لحركة الممارسة التاريخية ووقائعها المتراكمة)، لا فى كتابات ماركس وحدها بل فى كتابات عشرات آخرى داخل التقليد الماركسى إنما هى مستقلة نسبيًا عن نصوص ماركس فى كتاباته المتوالية الفعلية. حقًا لابد من الوقوف عند كل نص مفرد لتحديد مكانه فى السياق التاريخى الفعلى ودوره فى التطور النظرى للماركسية ( أو إعاقته لهذا التطور )، ولكن ذلك لا يكفى على الرغم من أهميته. بل لابد من تحديد موقع المفهوم العام المجرد المستخلص من النص (مثل مفهوم نمط الإنتاج "الآسيوى" المستخلص من وصف بسيط لوقائع مفترضة) داخل بنية المفهومات المترابطة متعددة المستويات فى تكامل النظرية ( موقع مفهوم اقتران الريع بالضريبة فى نمط الإنتاج "الآسيوى" من مفهومات قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وفائض النتاج surplus product فى مفهوم نمط الإنتاج النظرى).
ولنأخذ النصوص المتفرقة لماركس عن المادية التاريخية، مثلاً، فما هى حدود اتساقها المنطقى وموضوعيتها العملية ومجال انطباقها المحدد ؟. إن البنية النظرية المتسقة للماركسية (الاشكالية الماركسية أو انموذج النظرى الماركسى ) تشير إلى أن تعاقب المراحل التاريخية ( التشكيلات أو التكوينات ) الخمس أوالست، أو ماشئت، ينطبق على الخط العام للتطور البشرى على النطاق العالمى، وهو لاينطبق فى بلد مفرد. فالمجتمع المفرد العينى ( مصر مثلاً) وحدة مستقلة للتطور، كائن عضوى متكامل يتطور على نحو مستقل نسبياً. ولن تصل الماركسية من ذلك إلى القول بأن تاريخ المجتمعات القومية تراكم لامتناه من الاحداث والوقائع المستقلة دون انتظام، فالماركسية حين تقدم مفهوم التشكيلة (التكوين) الاقتصادية الاجتماعية أداة للتحليل تقدم السمات المشتركة بين التشكيلات القومية ذات المستوى الواحد، كما تقدم الملامح التى التى تعاود الوقوع متكررة فى عملية التطور، وتلك الملامح المتكررة التى يقوم المنهج الماركسى بتجريدها هى العلاقات الإنتاجية التى يتم تصنيف المجتمعات على أساسها (التشكيلة الرأسمالية-الإقطاعية مثلاً)، وداخل تلك التشكيلة تكشف الماركسية الدور المحدِّد للعلاقات الإنتاجية بالنسبة للمستوى السياسى والأيديولوجى، الدولة-القانون.. إلخ، فى نهاية المطاف بطبيعة الحال.
والتشكيلة لا توجد إمبريقيًًا قائمة بذاتها، بل هى الأساس العميق المشترك للمجتمعات القومية ونموذجها الداخلى ومنطق حركتها. ونلاحظ فى التفسبرات السوقية للماركسية خلطًا مستمرًا بين المجتمعات العينية والشكيلات التاريخية (إما أن يمر المجتمع الواحد بجميع التشكيلات المتعاقبة أو يعبر عن جوهر نمط واحد).
وهذه التفسيرات السوقية تحتضن نزعة اختزال اقتصادية تردّ كل الظواهر والصراعات السياسية والأيديولوجية إلى انعكاس مباشر للقوى الاقتصادية، "لطبقات" تحمل أيديولوجيتها وسياستها كما تحمل السلحفاة صدفتها، دون خصوصية محددة أو استقلال نسبى للمستويات المختلفة السياسية والأيديولوجية.
وتعتمد هذه التفسيرات على نصوص ماركسية من "الأيديولوجية الألمانية"، و "بؤس الفلسفة"، ونكرر القول أن نصوص ماركس لها مراتب مختلفة من التجريد والتعميم والمستوى "النظرى". ومن المعروف أن ماركس لم يكتب نصوصًا بعينها تحت عنوان نظرية الطبقة مثلاً، وإنما كان لكل نص هدف عملى أو نظرى مختلف، وكان لابد أن يؤثر ذلك على أى جوانب يتعلق بها التجريد، وعلى الدرجة التى يصل إليها، وعلى المدى الذى يمكن تعميمه فيه تعميمًا سليمًا.
وكتلة النصوص الماركسية، لذلك، مختلفة الأهداف فيما يتعلق بتأسيس مفهومات مثل نمط الإنتاج والطبقة الاجتماعية والدولة.
كما سبق القول إن نقد هيجليى اليسار فى " الأيديولوجية الألمانية" أو برودون فى "بؤس الفلسفة" أو التبسيطات الحماسية فى "البيان الشيوعى" أو تحليل المسرح السياسى فى بلد معين فى فترة محددة (صراع الطبقات فى فرنسا)، أو التحليل النظرى على مستوى الإنتاج الخالص النقى فى "رأس المال"؛ تحتوى جميعًا على مستويات من التجريد والتعميم شديدة الاختلاف فيما بينها، ولكن البراجماتية السياسية والفكرية عند بعض الماركسيين تنتقل بين هذه المستويات (عند الكلام مثلاً عن نمط الإنتاج أو الطبقة أو الدولة) المختلفة كما لو كانت تتحرك فى مجال متجانس موحد، وتختار ما تشاء من مخزن النصوص خدمة لأهدافها الضيقة.
ونعود إلى البنية النظرية أو الإشكالية الماركسية التى لابد أن تعيد صياغة "النصوص" على نحو نسقى منهجى منطقى متخلصة من التعرجات والتخبطات فى تحديد الاتجاه والأخطاء فى التقدير والاستنتاج والتنبؤ، وسيؤدى ذلك إلى تعديل كبير فى دلالة النصوص ويسقط بعض المفهومات (ربما كان نمط الإنتاج الآسيوى من بينها). وهذا النمط الآسيوى باعتباره نمطًا عابرًا لتاريخ يمتد آلاف السنين وكأنه نوع من الأبدية، يعتمد على بعض المفهومات الجزئية أو النصوص المختارة باعتبارها بدائل للنسق النظرى ويقدم ما لم يكتمل بعد فى الدراسة العينية لوقائع التاريخ باعتباره حقيقة يقينية مطلقة، ويفترض تطابقًا مزعومًا بين مفهومات سيئة التحدد متنافرة الترابط وبين "الوقائع" المنتقاة.
الواقع والمفهوم
يبدو مفهوم نمط الإنتاج الآسيوى عند أتباعه كأنه مستنبط من أوضاع فعلية فى آسيا (امتد ذلك إلى الشرق عمومًا ومصر خاصة)، وهم يؤكدون أن هذه البلاد لا يمكن إدراجها تحت تصنيف نمط إنتاج العبيد (مثل أثينا وروما) فى المرحلة التى شهدت نشوء المجتمع الطبقى والدولة بعد عصر الشيوعية البدائية وانعدام الدولة.
وما هى أوصاف النمط الآسيوى قى بدايته؟ من المعروف أن ماركس فى التشكيلات السابقة للرأسمالية ذكر "أنماط إنتاج" بأسماء جغرافية عند الانتقال من المشاعة البدائية أو القروية إلى المجتمع الطبقى. وهذه الأنماط على سبيل المثال هى "الأسيوى" و "الجرمانى" والقديم (الكلاسيكى اليونانى والرومانى). وليس ثمة مانع من أن تشمل هذه المرحلة المبكرة، حينما كانت سيطرة الإنسان على الطبيعة شديدة الضعف والضآلة، أنماطًا "جغرافية" أخرى فى روسيا (السلافى) أو منغوليا، فشروط الإنتاج الطبيعية الجغرافية (غابات، أرض، زراعة، مراعى، بحر)، كانت ثقيلة الوزن، وإطلاق هذه الأسماء الجغرافية عليها يعنى أنها أشكال مختلفة من اتجاه عام هو الانتقال من المشاعة إلى المجتمع الطبقى.
ومهما يكن من شئ، فلم يذهب ماركس قط إلى المطابقة بين إنتاج آسيوى وبين فكرة مجتمع الرى النهرى وقيام بيروقراطية وظيفية باعتبارها طبقة حاكمة.. ولن نجد عنده تصورًا اختزاليًا تكنولوجيًا إداريًا لفكرة الإنتاج الآسيوى، كما ذهب فيتفوجل فى "الاستبداد الشرقى" وشايعه فى التصور التكنولوجى/ الإدراى/ البيروقراطى بعض الذين يحاولون تطبيق بقية مفهوماته الأخرى، بل ويقدمون نقدًا لبعض هذه المفهومات. إن تضخيم فكرة البيروقراطية والتركيز عليها مستمد من فيتفوجل وليس من كارل ماركس.
وعناصر هذا النمط "الآسيوى" المميزة، كأى عناصر تميّز الأشكال الاقتصادية المتباينة للمجتمعات (رق-إقطاع-رأسمالى) ماثلة عند ماركس فى طريقة الاستحواذ على فائض العمل فى كل حالة من المنتج الفعلى(2).
وفى البدء اعتبر ماركس مميزات النمط الآسيوى محددة بأن الدولة (المشاعة العليا أو المشترك الأعلى عند صادق سعد) هى التى تستحوذ على فائض النتاج (ما يتبقى بعد إعادة الإنتاج المادى وإعادة إنتاج المنتج المباشر). كما تتحدد بغياب الملكية الخاصة للأرض وغياب أى طبقة استغلالية مستقلة عن الدولة، كما أن المنتجين المباشرين يعملون داخل مشاعات (أو مشتركات) عند مستوى منخفض من تقسيم العمل بين فروع الإنتاج المختلفة، ووحدة الحرف والزراعة داخل المشاعة، وإعادة إنتاج الشروط الاقتصادية الإنتاجية داخل نطاق وحدة الإنتاج (المشاعة).
وبعد ذلك، يذهب ماركس إلى أن المنتجين المباشرين لا يواجهون مالكًا عقاريًا خاصًا (فردًا)، بل كما فى آسيا يكونون خاضعين لعبودية أو تبعية مباشرة للدولة التى تقف فوقهم باعتبارها مالك الأرض وحاكمهم الأعلى فى نفس الوقت، وهنا، يتطابق الريع مع الضريبة. ولا توجد حاجة لضغط سياسى أو اقتصادى أشد وطأة مما هو مشترك بين كل أنواع الخضوع للدولة(3).
وبالرجوع إلى مقالة ماركس "التشكيلات السابقة للرأسمالية" نصل إلى تعبيرات مثل العبودية المعممة بدلاً من العبودية لمالك عبيد فرد.
وبطبيعة الحال إن نمط الإنتاج العبودى فى نقائه الخالص من حيث التعريف القانونى هو اختراع يونانى رومانى. ولاينكر أحد أن مجتمعات الشرق القديم (مصر مثلا) والمجتمعات الآسيوية عرفت العبودية فى أشكال متعددة تبتعد عن "النقاء"، عبودية الدين والعمل القسرى كما عرفت العبودية بتعريفها القانونى "الكلاسيكى" باعتبارها أدنى درجة من درجات مُتّصل Continuum يفتقر إلى التشكل المتجانس من التبعية وانعدام الحرية يمتد على طول السلم الاجتماعى فوق هذه الدرجة. وكان "العبيد" الأسرى يشتغلون فى أراضى الملك والمعابد والمحاجر والمناجم(4).
وبطبيعة الحال، لم يكن عمل العبيد هو الشكل السائد (الغالب) فى مصر فقد استمرت المشاعة البدائية بعد تغير فى طبيعتها الطبقية، وهو تغير صاحب ترابط أكثر من نمط بقيادة أكثر تطورًا داخلها (العبودى ثم الإقطاعى). وقد لاحظ الكثيرون أن الصراع الطبقى طوال التشكيلة المصرية لم يصل قط إلى منتهاه، وأن "بقايا" الهياكل القديمة ليست مجرد بقايا متآكلة فى مسار خطى صاعد للهيكل الجديد، بل تواصل البقاء معدلة بتأثير أرقى نمط إنتاج (الأكثرها تطويرا لقوى الإنتاج والأكبرها إنتاجية). ولم يكن ذلك مقصورًا على فترات انتقالية معينة كما هى الحال فى معظم بلاد العالم. وقد ينسجب ذلك على الأشكال الأيديولوجية (واصلت التصورات الطوطمية البقاء متجاورة ومعدّلة بالتصورات الدينية اللاحقة، واستمرت المعتقدات الموغلة فى القدم).
وفى العصور التالية قد ينسحب ما سبق على النمط الإقطاعى والرأسمالى فى مصر. فلم تتحلل الأشكال السابقة للرأسمالية مفسحة الطريق إلى غلبة عددية للطبقة العاملة، بل إلى غلبة "معدمين" وبقاء أشكال من الملكية القزمية ومن العلاقات المتخلفة، وكل ذلك بقيادة نمط الإنتاج الرأسمالى بطبيعة الحال. ونعود إلى نمط الإنتاج الآسيوى.
اقتران الريع بالضريبة
يذهب ماركس إلى أن المؤشر Index التقريبى لوجود نمط إنتاج محدد هو الطريقة المتميزة فى الاستحواذ على فائض النتاج (مايسمى أحيانًا بدون دقة كبيرة بالفائض الاقتصادى). ويقترح البعض التخلص من " الآسيوية" المزعومة للنمط المفترض وحدوده الجغرافية بالتركيز على اقتران الريع بالضريبة أو على تطابقهما.
ولكن، هل يقابل ذلك التطابق عناصر تنتمى إلى ترابط قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج فى نمط محدد؟.(5)
إن عناصر ملكية الدولة للأرض التى يزرعها "رعايا" لهم حيازة فعلية لوسائل الإنتاج داخل مشاعاتهم، واتحاد الحرف والزراعة، وتأمين شروط إعادة الإنتاج داخل الوحدة الإنتاجية، لا تقول شيئًا عن نمط إنتاج محدَّد، بل تناظر أى إنتاج زراعى سابق للرأسمالية. فالإقطاع الأروربى راكد كذلك. كما إن ثنائى المشاعة/ الدولة وهو الوصف العينى الإمبريقى لتطابق الريع/ الضريبة يؤدى إلى القول بعلاقة تحكمية بالكامل (تعسفية اعتباطية) بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
وماهى هذه العلاقة الإنتاجية؟ إنها علاقة "ملكية" الدولة وتطابق الحدود بين الدولة والطبقة المالكة الحاكمة. فالبيروقراطية (كما يقال) تتحكم فى توزيع وسائل الإنتاج والاستحواذ على الفائض من خلال آلية سلطة الدولة، أى أن الدولة هى المستغِل (بالكسر) وجهاز الدولة مطابق لآلية الاستغلال. وقد يكون شكل الدولة متغايرًا (حكومة ثيوقراطية على رأسها ملك إله أو ملكية استبدادية أو تحالف محاربين قبليين).
وهذه "الملكية" القانونية للدولة يتم الخلط بينها وبين الملكية الاقتصادية الفعلية، وهى تتفق مع قوى إنتاجية شديدة التفاوت فى طابعها ومستواها، قوى بدائية قليلة الإنتاجية، إلى قوى تقف على عتبة تراكم رأسمالى. وهى لا تختلف من حيث النمط الإنتاجى عن غيرها من أشكال الملكية فى أنماط أخرى، بل إن هذا التطابق بين الربيع والضريبة يطرح مشكلات شديدة الوعورة: فالزراعة المشاعية (المشترك الفلاحى أو القروى) لا تفترض علاقات استغلالية أو وجود طبقات. وهذه الدولة المالكة إنما تُركَب (بالبناء للمجهول) تركيبًا تعسفيًا فوق أشكال إنتاج لا تفترض استغلال ولا طبقات. فهى دولة بلا ضرورة معلقة فوق المجتمع دون شروط لوجودها.
إن نظرية الدولة فى الماركسية الناضجة (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) تقول بنشوء الدولة عن تناقضات فى البنية الاقتصادية وعن تناحرات طبقية لا يمكن التوفيق بينها. أما الدولة التى توجد فى غياب الطبقات فلا تمثل شيئًا.
الدولة الهيدروليكية الوظيفية
يقال إن الدولة الآسيوية تنشأ عن ضرورة وظيفية فهى وسيلة لتنظيم وتنسيق شبكة أشغال واسعة النطاق لا غنى للزراعة عنها.
ويذهب "ب. هندس" و "ب. هيرست" إلى أن هذا التفسير الوظيفى الغائى لا يفسر شيئًا. فالحاجة إلى شئ لا تأتى به إلى الوجود بالضرورة فلابد من تأثير شروط أخرى مثل الصراع الطبقى. وعلى أى شئ اعتمد القائلون بذلك؟ لماذا تستلزم الحاجة إلى وسيلة تنسيق لأشغال الرى وجود الدولة بالتحديد بدلاً من شكل آخر من التنظيم؟ دولة آسيوية استبدادية قُدَّت من صخرة واحدة تسحق البنية الاجتماعية تحتها؟
ويؤكد كثيرون على النقيض من ذلك أن أشغال الرى بنيت قطعة قطعة، استجابة لضرورات محلية بقوى محلية وأنها أخذت مئات السنين ولم تعمل أبدًا أو تقوم بوظيفتها فى وقت واحد منذ البداية، وأن التنسيق بينها كان عملية تدريجية بطيئة ولم تشكل نظامًا "وخطة" من البداية، ولم تكن فى احتياج لتعبئة ضخمة للعاملين، ويسخر الكاتبان من "دولة" كانت موجودة قبل بناء الأشغال العامة المائية، أى قبل العمليات الإنتاجية الفعلية لكى تبنى شروط القيام بها.
ومن ناحية أخرى، يسخر الكثيرون من مجرد إمكان وجود جهاز إدارى منتظم متصل نسقى فى مجتمعات ما قبل الرأسمالية، بل إن مفهوم بيروقراطية مثل بيروقراطية الرأسمالية قائمة على الترشيد العقلانى، وكأنها آلة إدارية تعمل على أساس قواعد مجردة قانونية لا شخصية (فهى تعكس درجة عالية من تقسيم العمل وترابطه)، وتستخدم موظفين يقوم كل منهم بدور متخصص بأجر محدد على أساس من الكفاءة التكنولوجية، إنما هو مفهوم يفترض بالضرورة اقتصادًا نقديًا متطورًا يضفى نوعًا من التجانس والتجريد على الأعمال العينية المتغايرة، ووسائل اتصال عالية الكفاءة تربط الأجزاء المتباعدة من الجهاز فى آلية موحدة.
ولنأخذ حياة موظف مرموق فى مصر القديمة فى الأسرات الأولى هو "ونى" لقد ارتفع من موظف صغير إلى "سمير" أو رجل بلاط مقرب وقد صحب هذا التشريف أن عيَّنه الملك فى مركز كهنوتى، ثم قاضيًا. لقد كان قاضيًا وسميرًا أو نديمًا ومشرفًا على مستأجرى ضِياع القصر ومسئولاً عن الحراسة وتعبيد الطريق ثم بعد ذلك أرسله الملك على رأس حملة عسكرية. وكان فى قيادة هذا الجيش تحت رئاسته أمراء وسمراء وقواد ورؤساء مدن ورؤساء تراجمة ورؤساء متنبئين (عرافين) ورؤساء ملحقات المعابد (كان هو القائد العسكرى على الرغم من أن وظيفته لم تكن سوى وظيفة المشرف على مستأجرى القصر)(6). ويبدو أن السيد "ونى" كان أمينًا بالقصر وحامل نعل، ثم رقى إلى منصب حاكم مصر العليا، ثم موفدًا لمحجر بعيد فى النوبة لاحضار مواد جنائزية لبناء أهرام، والإشراف على بناء سفينة، وعلى شق قنوات(7). ولا تختلف حياة موظف كبير آخر هو "حرخوف". وفى السيرة الذاتية لهما درجة كبيرة من الاتضاع ونسبة كل شئ إلى شخص الفرعون حتى أصغر الأعمال، تبدو الصلة بالحاشية أمرًا حاسمًا. بل إن الحدود بين وظائف إدارية فعلية، ومجرد تسمية الشخص بها كنعت شرفى فحسب صعبة التعيين ويصل ذلك إلى شخصية الوزير نفسه (حامل لقب تاتى) وكان الوزير فى الأسرة الرابعة واحدًا من الأمراء الملكيين (من الأسرة المالكة)، ثم انتقلت إلى خارجها وتحولت إلى وظفية وراثية حتى للأطفال!!
وقد كشفت الدراسة المتعمقة عن وجود عدة أشخاص يحملون لقب الوزير مُنحوا أو انتحلوا اللقب فى صورة تشريفية بحتة. وقائمة أعمال الوزير لاتجانس فيها حتى الأسرة الحديثة، فهو المشرف على كل أشغال الملك والقاضى الأعلى والواسطة بين أوامر الملك ورؤساء المدن والقرى البعيدة. وكانت قمم ما يسمى بالبيروقراطية المصرية هم المحيطون بشخص الفرعون من "سُمَراء" أى أصدقاء إلى الأبناء، بالإضافة إلى حملة النعال وحراس خزانة الثياب والتيجان والحلاقين والأطباء وقد صحب كل ذلك تحويل "الوظائف" العليا إلى وظائف وراثية وانطبق ذلك على من كانوا يشغلون وظائف هامة، وكان من أعز الأمانى أن يستطيع المرء تسليم وظيفته لابنه.(9)
وكان الموظفون الإداريون على حسب درجاتهم يحصلون على مكافآتهم فى شكل جراية "محددة" من اللحم والخبز وقطع من الأرض لهم حق توريثها(10) أو بيعها وبعض العبيد المأسورين. وكل ذلك يأخذ شكل هِبَات من درجات هرم الحكم العليا إلى الدنيا، وهو هرم يكاد أن يشبه كومة غير متماسكة من الأحجار.
إن تصور "بيروقراطية" مصرية وظيفية يقوم على مفارقة زمنية صارخة ونزعة تقنوية شديدة التبسيط (هندس وهيرست)؛ فموظفو مصر ليسوا بيراقراطية حديثة. إنهم يشبهون القائمين بتدبير أمور بيت الأمير من صفوة الأعيان (مثل سائر البلاد الأوربية فى العصر الوسيط). وكان المنصب الإدارى كقاعدة عامة يسند إلى أفراد عائلات ذات وضع طبقى مرموق وذلك لم يمنع إمكان صعود أفراد آخرين كاستثاء من القاعدة، ولم تكن "الدولة" هى التى تخلق الطبقات الاستغلالية باعتبارها درجات وظيفية، بل العكس.
وربما لم توجد هذه البيروقراطية الوظيفية (المائية) فى مصر أو آسيا قط خارج كتاب الاستبداد الشرقى والصفحات المستوحاة منه عند كتاب آخرين. ونكرر ما ذكره ناقدو مفهوم نمط الإنتاج الآسوى عند فيتفوجل من أن ماركس لم يختزل أبدًا العلاقات الاجتماعية إلى تكنيك مائى. كما أن ركود هذا النمط وثباته عنده لا يرجع إلى طبيعة الرى الاصطناعى ولا إلى السيادة البيروقراطية، بل إلى الهوة الضخمة بين الدولة (جابية الضريبة) والمشاعة أو المشترك (منتجة الريع).
الدولة فى الشرق والغرب
ليس من الصواب التمييز بين الشرق والغرب (الدولة هنا وهناك) على أساس من أن للدولة دورًا اقتصاديًا فى الشرق على حين أنها مجرد "أداة قمع" فى أيدى الطبقة الحاكمة أو المالكة فى الغرب. وكما أنه ليس من الصواب الوقوف عند أن للدولة فى الماركسية عمومًا دورًا قمعيًا (ممارسة العنف السياسى على الطبقات المحكومة) ودورًا أيديولوجيًا، (غرس الأيديولوجيا السائدة فى الأذهان) يمارس كل منهما على حدة بواسطة أجهزة الدولة القمعية والأيديولوجية. فالحقيقة أن الماركسية فى هيكلها النظرى الناضج لابد وأن تؤكد أن للدولة، دائمًا، فى الشرق والغرب دورًا اقتصاديًا مباشرًا فى إعادة إنتاج علاقات الإنتاج. وهو دور مباشر لأنه ليس مقصورًا على حالات بسيطة مع القمع والتلقين الأيديولوجى فى الدائرة الاقتصادية، وليست الوظائف الاقتصادية للدولة محايدة أو تكنيكية، بل هى طبقية أيضًا، ولم يكن الاقتصاد فى الغرب يعيد إنتاج علاقاته داخل الحيز الإنتاجى وحده الذى يمارس وظيفته تلقائيًا وتقف الدولة خارجه تمثله وتدافع عنه وتقمع معارضيه. (حتى الدولة الليبرالية لم تكن حارسًا ليليًا فهى تمارس وظائف اقتصادية ابتداء من الضرائب إلى تشريعات المصانع، ومن رسوم الجمارك إلى إقامة البنية السفلى، وتدريب العمالة فى المدارس).
إن للدولة/ الليبرالية فى الغرب دورًا اقتصادى يتعلق بما يسميه إنجلز بالشروط العامة لإنتاج فائض القيمة(11)، وهذه الشروط خارجية عند المقارنة بأنماط سابقة على الرأسمالية فى الغرب(12).
لكن أنصار نمط الإنتاج الآسيوى يعتبرون الدولة هى العنصر الحاسم فى التفرقة بين الريع الإقطاعى (الغربى) والريع/ الضريبة (الشرقى). فالقارق المميز عندهم وهو اختلاف دور الدولة، ويمكن استنباطه من معطيات وصفية بسيطة؛ فى الإقطاع الغربى هناك استقلال لطبقة ملاك الأرض عن الدولة وتربطهم لأقنانهم علاقة تبعية، وتلك المعطيات الوصفية البسيطة كما يذهب هندس وهيرست "وقائع" يقدمها أصحاب نمط الإنتاج الآسيوى دون شروط وجود، ولايمكن البحث عن أساس لها فى علاقات الإنتاج.
يقول ماركس: المجلد الثالث من رأس المال "أن الأشكال السابقة للرأسمالية تفترض عدم فصل المنتج عن وسائل الإنتاج"، فللمنتجين المباشرين حيازة فعلية لوسائل إعادة إنتاج قوة عملهم (قطعة أرض-أدوات إنتاج) ولابد من أن يحتفظوا لأنفسهم بجزء من النتاج(13). وليس هؤلاء المنتجون واقعين تحت قسر اقتصادى لتقديم فائض عملهم (بسبب الحيازة) لذلك فإن انتزاع الريع السابق للرأسمالية (إقطاعى/ آسيوى) يفترض الخضوع السياسى الأيديولوجى من جانب المنتجين المباشرين للاستغلاليين ويتم ذلك بآلية لا-اقتصادية أو من خارج الاقتصاد. وكلمات ماركس هى: إن كل الأشكال التى يظل فيها المنتج المباشر حائزًا لوسائل إنتاج ووسائل معيشته، يجب أن تظهر فيها علاقة الملكية باعتبارها علاقة مباشرة من السيادة والتبعية، بحيث لايكون المنتج المباشر حرا.. إن نقصًا فى الحرية قد يمكن الحد منه، يتراوح بين القنانة ومجرد علاقة خراجية (أو دفع إتاوة).
وهنا، لابد من آلية سياسية (دور الدولة) لانتزاع الريع الإقطاعى أو الآسيوى معًا، "القسر غير الاقتصادى". لذلك فإن القاعدة الاقتصادية وهى التى تحدد المستويات السياسية والأيديولوجية فى خاتمة المطاف ستفرض أن يكون المستوى السياسى (الدولة) هو المستوى السائد فى تراتب المستويات داخل التشكيلة السابقة للرأسمالية، إقطاعية أو "آسيوية".
ونصل إلى أن دور الدولة تنابع من طابع علاقات الإنتاج. (ولسنا فى حاجة إلى ذكر ما هو معروف جيدًا من أن المشاعة أو المشترك القروى ظل موجودًا طوال "الإقطاع" الأوروبى فهى ليست سمة للشرق الآسيوى، فقد ظل المنتجون المباشرين داخل هذه المشاعات).
ونعود إلى التمييز "القانونى" "الحقوقى" السطحى بين نمطى الإنتاج الإقطاعى والآسيوى. فالتفرقة الحاسمة هى سياسية أيديدلوجية سادة/ أقنان أو حكام/ ورعية (بعد مرحلة العبودية المعممة). وكل الفرق بين الدولة فى نظام يقوم على الريع (إقطاعى) ودولة تقوم على الريع/ الضريبة (آسيوى) سينحصر فى درجة مركزية سلطة الدولة. فى "الآسيوى" تكون الدولة هى المالك الأوحد ويتطابق الريع والضريبة. وفى الإقطاع يمثل مالك الأرض سلطة الدولة بالضرورة ليتمكن من الحصول على الريع بالقسر السياسى غير الاقتصادى. وفى الإقطاعية المفردة يدخل المالك مع القن فى علاقة سيادة/ تبعية هى بالضرورة علاقة حلقة من الدولة بأحد رعاياها. فسلطة السيد الإقطاعى هى سلطة الدولة مباشرة وبدون أى وسائط (بعد تصغيرها بمقياس رسم مناسب).
ويؤدى ذلك القول إلى أن السيد الإقطاعى ينتزع الفائض الإقتصادى بآلية القسر السياسى (طبعًا لا يخلو الأمر من وظيفة اقتصادية تشبه وظيفة الدولة الآسيوية على النطاق المحلى؛ تقديم المطاحن، المعاصر، استصلاح أرض جديدة، تحديد الدورات الزراعية) فالقنانة علاقة قانونية لاتوجد إلا بقدار ماتفرضها السياسة فى صميم العملية الإنتاجية. ولايحوز الإقطاعى الأرض من مالك الرقبة (الملك/ الامبراطور.. الخ) إلا بسبب تبعيته السياسية وأدائه "الواجبات" العسكرية وغيرهما.
وفى الحالتين الآسيوى والإقطاعى يعتمد الاستغلال جزئيًا على السيادة السياسية ويتحقق من خلالها.
ما الفرق إذن (كما يتساءل هندس وهيرست) بين الريع الضريبة والريع الإقطاعى؟ ليس إلا النطاق، ليس إلا اتساع وحدة الاستيلاء عليه من دولة "مركزية" "آسيوية" أو ضيق هذه الوحدة (إقطاعية). أما من ناحية العلاقة الإنتاجية، من ناحية أنهما شكلان للاستغلال فهمًا متماثلان وليس الريع الإقطاعى إلا شكلاً لامركزيًا من الريع الضريبة ويمكن أن يتولدا الواحد من الآخر دون أى تغير فى قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج.
ويتحدث صادق سعد عن نبتات إقطاعية بدأت فى العصر "الهلينى" نتيجة لتغيرات "قانونية" تتعلق بالسياسات ثم اختفت.(14)
لكن ماذا عن هذه المركزية؟
ليس فى أسس التشكلية الإقطاعية ما يستوجب غياب "المركزية" فذلك راجع إلى تقلبات التاريخ السياسى لكل مجتمع مفرد ويجب ألا نفهم المركزية فى عصور الانتقال بالدواب والمراكب الشرعية باعتبارها مماثلة للمركزية فى عصر الرأسمالية ولنأخذ انجلترا مثالاً لإقطاع "مركزى" بعد الغزو النورماندى مباشرة لا فى مرحلة انتقال إلى الرأسمالية.(15)
وقد يمكن القول إن خصوصية التاريخ القومى فى بلاد العالم الثالث لا تستوجب بالضرورة ثنائية جوهرية فى تاريخ العالم تقسمه إلى شرق وغرب، وقد يترتب على ذلك وضع مفهوم نمط الإنتاج الآسيوى داخل الإشكالية الماركسية فى مكانه الصحيح باعتباره ليس "نمطًا إنتاجيًا" ولا "آسيويًا" بل مسألة نظرية شديدة الأهمية تنقلنا إلى مناقشة أشكال الملكية الاقتصادية المختلفة التى تختفى حتى فى أيامنا هذه وراء الملكية القانونية للدولة، وإلى إماطة اللثام عن علاقات الملكية الخاصة التى تتنكر فى شكل ملكية الدولة تحت شعارات اشتراكية.
هوامش

1- ف. ن. نيكيفوروف، الشرق والتاريخ العالمي، ترجمة د. توفيق سلوم، دار الفارابي، بيروت، 1981.
2- Karl Marx, The Capital, Part 1, Progress Publishers, Moscow, 1977, p. 217.
3- Ibid, Part 3, pp.771,772.
4- Perry Anderson, Passages from Antiquity to Feudalism, NLB, 1977, p 21.
5- Barry Hindes, and Paul Q. Hirst, pre capitalist Modes and production, Rovtiedge and kegam Paul, London and Boston, 1975.
6- سير ألن جاردنر، مصر الفراعنة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1987 ص ص 114-115.
7- المصدر السابق، ص 116.
8- المصدر السابق، ص ص 122 ، 123.
9- المصدر السابق، ص ص 124 ،125.
10- المصدر السابق، ص 297.
11- إنجلز، الرد على دوهرنج، موسكو، دار التقدم، 1966، ص 380.
12- Nicos Paulantzas, Classes in Contemporary Capitalism, New Left Book, London, 1975, pp. 99,100,101.
13- Karl Marx, The Capital, Part 3, Ibid. p 771.
14- صادق سعد، من تاريخ مصر الاجتماعى الاقتصادي، ص 92-95.
15- Perry Anderson, op.cit.,p.158