كيف قرأت أمل دنقل


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 4735 - 2015 / 3 / 1 - 17:38
المحور: الادب والفن     

لم أتعرف على أمل دنقل إلا بعد هزيمة 1967 مباشرة، وبعد صدور ديوانه الأول المنشور "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" بساعات. وكان أمل يتشكك في اليساريين عموماً لا لثوريتهم الأدبية والفكرية، بل لأن كتاباتهم في الجرائد والمجلات لم تكن تختلف عن الاتجاهات الرسمية السائدة. صالح جودت وعزيز أباظة وأحمد رامي يتغنون بشعارات الثورة وقوميتها وسدها العالي، و"العقاديون" من أمثال "الحساني عبد الله" يؤكدون أن العقاد ابتداء من كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي" من أوائل من دعوا إلى الاشتراكية في الشعر وتغليب المضمون على الشكل في هجومه على شوقي شاعر الأمير ورونقه اللفظي السطحي. أما النقد اليساري فكان الشائع عنه –لا حقيقته- أنه يمجد الواقع "الاشتراكي" القائم ويجمد مفاهيمه الأقنومية، وإن تميز عن اليمين في احتفائه بما كان يسمى شعر التفعيلة بدلاً من البحور الكوامل. لذلك حرص أمل دنقل في إهدائه نسخة من ديوانه إلي قد تقع في أيدي المباحث -التي كانت تطيل استضافتي وتكررها مراراً بعد موسم الاعتقالات الشهير (من 1959-1964)- أن يكتب: "إلى إبراهيم فتحي بك إكباراً وإجلالاً" بما يتضمن نزع صفة اليسارية عن علاقته بي، واقتصار تعامله مع شخصي على كوني قارئاً معجباً بشعره بطريقة التعامل اللفظي السائد بين مثقفي الطبقة الوسطى من حضرات المحترمين.
وقد جاء صدور الديوان بعد الصدى المدوي لقصيدة "هوامش على دفتر النكسة" لنزار قباني ومصادرتها في مصر. وكانت قصيدة توجه الاتهام إلى جناة الهزيمة وضحاياها بقدر متساو. وهاجم القصيدة المخبرون وصالح جودت وبعض كتاب المقالات السياسية لاجترائها على الحكام العرب. ولكنها عرفت طريقها منسوخة باليد وبالآلة الكاتبة على أوراق الكربون إلى معظم من يعرفون ويعرفن القراءة والكتابة في مصر. لذلك أحيط ديوان أمل المطبوع في لبنان بمؤامرة من الصمت في مصر. وكان إعجابي بالديوان منصباً على اقتحامه الشعري فكتبت مقالاً طويلاً كان الفضل في نشره بجريدة المساء راجعاً إلى شجاعة عبد الفتاح الجمل ورهافة حسه الأدبي، وهو أول مقال ينشر عن هذا الديوان في مصر. بعد ذلك كانت حركة "الجماهير" من عمال وطلبة وصحفيين وأساتذة جامعيين قد طرحت لغة السلطة ودلالاتها وصورها ورمزيتها موضوعاً للتساؤل في مظاهرات واعتصامات وإضرابات (ممنوعة)، ولقاءات وجرائد حائط، وأشعار وأغان وقصص. لم تكن "الجماهير" كتلة خرساء سلبية محمولة في اللوريات أو البيانات المذاعة، بل كانت فاعلية إبداعية، وطاقة نقدية تطرح التصورات السائدة ولغتها للمناقشة الرافضة. وفي هذه الوثبة سمح لديوان أمل دنقل بأن يقيم حواره الغاضب مع مدرجات الجامعة وكنت أصحبه إليها، ومع جمهور ندوات الجمعيات الأدبية (رابطة الأدب الحديث –جمعية الأدباء)، بل وفي برنامج "مع النقاد" بالبرنامج الثاني، وقد شاركت فيه مع صلاح عبد الصبور. وقد كتب الأستاذ إبراهيم الصيرفي مقدم البرنامج في تقريره أنه لم يدع ابراهيم فتحي إلى الاشتراك، بل كان ذلك بناءً على إصرار الشاعر. وقد احتفى صلاح عبد الصبور بالديوان واعتبره مشرفاً. وأخذ عليه طابعه الهجائي الغالب وافتقاره ولو إلى قصيدة حب واحدة. وكان إعجابي بالديوان راجعاً إلى أن شعره قادر على خلق متلقين جدد وأصحاب ذائقة جديدة، يقيم صلة جدية مكثفة بالعالم وبالتاريخ الشعري، ويقدم تمثيلاً جديداً للإنسان في هذا العصر، وشهادة فاعلة تحويلية. وكان كل ذلك متجذراً في تجريب أمل اللغوي. فعالم الشعر العربي أيامها كان مسدوداً بكلمات مريضة. أشعار هي أورام سرطانية من كلمات، كلمات المؤسسة الأدبية الإعلامية التي حولت الجماهير والقومية وكفاح العرب اليوم والاشتراكية إلى عصابات على العيون تعوق الرؤية وتحول كلمة الثورة إلى نقيضها، أي إلى التكيف المذعن للأمر الواقع والزحف على البطون في الطابور. وخنق هذا الروتين المتحجر باسم الثورة أي إمكان لثورة شعرية. أما أمل فقد اشتبك منذ ديوانه الأول بمؤسسة الأدب المهيمنة، وواجه اللهجتين المنتشرتين في لغتها الشعرية المتكاملة. اللهجة الأولى كانت الكتابة الكلاسيكية والرومانسية التقليدية بتحوراتها المتعددة. وهي تقوم على فهم محدد لوظيفة الشعر في تمثيل عالم العشيرة والوطن والتعبير عن الذات ولدور الشاعر كفرد متميز أو ملهم. ولابد أن تفترض تلك اللهجة الشعرية عالماً مألوفاً معتاداً، مرتباً منظماً أو يمكن إعادة ترتيبه وتنظيمه ليكون أكثر تناسقاً وتآلفاً وفقاً لقواعد جاهزة. وحتى عندما تكون قصائد هذه اللهجة اللغوية الشعرية عن الحبيبة وغدواتها وروحاتها أو عن الروض والبحر، أو عن أسرار الكون فهي تعتمد على الافتراضات المسبقة نفسها عن المعنى والنظام والترتيب والتناسق والمواضعات التي أقامت بها الثقافة السائدة معتقداتها وقيمها وصورها عن العالم ومكان الإنسان. وكان ديوان أمل دنقل الأول يواجه تلك اللهجة اللغوية في الشعر، فالكلمات من زرقاء اليمامة مفقوءة العين إلى سبارتاكوس ورأسه المنحني على الصليب، إلى المجد لشيطان الرافض تتحدى طريقة اللغة الشعرية السائدة في تنظيم تجربة الناس والفرد وترتيب العالم. لقد كانت لغته الشعرية منخرطة في التاريخ والسياسة لا بفضل موضوعاتها وأغراضها في المحل الأول، ولا بفضل مضامينها أو موقف الشاعر المعلن، فكل ذلك على أهميته تحدده طريقة مصارعة قصائده لأتواع اللغة الشعرية، فاللغة هي الواقع الفعلي الأول لأنواع من الوعي الذي يشمل نماذج الإحساس والانفعال والتصور المتصارعة.
وكانت اللهجة الثانية في اللغة الشعرية السائدة أيامها والتي ترددت أصداؤها بعد ذلك في السبعينات لهجة مستوحاة من كتايات النقد الجديد عند رشاد رشدي، ومن أشعار إليوت، وهي تبدو في الظاهر مناوئة للهجة الأولى. وهي تعتبر نفسها في مملكتها الجمالية المستقلة المزعومة، وأشكالها البللورية الشفافة التي لا تشير إلا إلى نفسها، اللغة الشعرية "الحقة". وكان ديوان أمل خروجاً على هذه "اللغة" وبنيتها الجمالية التي تقوم على التوازن والانسجام بالتغلب على عناصر التوتر والصراع. فقصائده رغم دراميتها وامتلائها بالتباينات والتناقضات والصراعات في صورها واستعاراتها ورموزها لا تفرض حلاً يقيم انسجاماً هو بالضرورة ينتمي إلى إيديولوجية سياسية تضع أقنعة التنكر على قبولها لعالم قائم بالفعل. فهذه اللغة الشعرية التي تدعي المناوءة هي الوجه الآخر الجديد للغة الكلاسيكية القديمة.
وبعد ديوان أمل الثاني "تعليق على ما حدث" جاء عصر الانفتاح والسخرية الرسمية الإعلامية من كلمات النضال والجماهير والتحرير، وصاحب ذلك اندلاع كلمة "الحداثة" عند الشعراء. وعلى الرغم من أن أمل لم يكن في شعره ناصرياً أو يسارياً أو منغلقاً داخل خانة سياسية جاهزة، بل كان من رواد ثورة في اللغة، فقد اعتبره بعض حسني النية مع بعض سيئي النية تقليدياً، ورفعوا شعار "أدونيسيون لا دنقليون". ووضعت لغته المناوئة لمعنى كلمات الثورة والجماهير والقومية مع لغة الاتحاد الاشتراكي كأنهما شيء واحد. والحداثة في الشعر المصري ليس لها معنى محدد، فهي حزمة من توجهات وأمنيات وادعاءات بعيدة عن الترابط والاتساق. ولها شعراء جاء بعضهم بالجديد والممتع وأضافوا الكثير في إبداعاتهم، وليس في إعلانات الإيمان النظرية السطحية.
وكان حب أمل للكتابة بخطه الجميل بقلمه وولعه بتوزيع الكلمات في أسطر والأسطر في مقاطع على الصفحة عند التسويد والتبييض يدعو للتأمل. وكنت أتطلع إلى وضع يده الممسكة بالقلم بثبات ويده الأخرى المستقرة والقلقة في نفس الوقت وحركة جسمه أثناء الكتابة (حتى على رخامة المقهى) في اندفاع إلى الأمام كما لو كان يحفر أو يغرس، وضبط إيقاعات حركة الخط على إيقاعات الأصوات اللغوية بين شفتيه وطرقات يده على المنضدة وتوالي الصور أو مراوغاتها وانزلاقاتها التي يمحوها، ثم يعيد الكتابة من جديد بدونها. ربما لم يكن الوعي وحده هو الذي يكتب بل كيانه كله برغباته وتردداته التي قد لا تكون واعية، ثم إمساكه بالورقة وقراءتها من على بعد. فلغته في القصائد تشق تمييزات بين الصور والتمثيلات، وتتحسس تصنيفات أوسع لها وتقيم ترابطات يظل يغيرها حتى يستقر على أحدها وكأنه يكتشف قواعد هذا الترابط بحركة عينيه وذاكرته وإيماءة رأسه. وعندما يعطيني قصيدة مكتوبة بخطه كانت كلماتها وعباراتها تبدو لي مختلفة عن أن تكون علامات تجر وراءها ظلالاً من المعاني، بل كانت صيغها أقرب إلى أوتار ذات ثقل وصلابة، توزع نغمات تحتفظ بوقعها العاطفي، مطلقة سراح الطاقات الكامنة في اللغة. وهي طاقات موازية للجانب الإشاري المعنوي وتمتد إلى الإيحاء والاستثارة والاستهواء.
وكان شعراء الحداثة كما أحبوا أن يسموا أنفسهم يتحدثون عن قتل الأب الذي كان يحرمهم كأبناء من حسان النساء (الامتيازات في المؤسسة الأدبية)، ولكنهم لم يتذكروا أن بقية الأسطورة الفرويدية تقرر أنهم لكي يتحكموا في المنافسة الحادة بينهم أقاموا نظاماً اجتماعياً قائماً على المحظورات والتابوهات. ولم يكن أمل يريد أن ينجب أبناء أو تلاميذ من الشعراء، ولم يكن من أصحاب النفوذ أو الامتيازات. لذلك لن يتمكن أحد من قتله، ويظل شعره يسخر من تابوهات الأبناء غير الشرعيين. إن تثوير الإنسان (الجماهير) الذي اعتبره بعض الحداثيين في فترة ما محظوراً، كان يعني عند أمل الغوص في حقائق الحياة المباشرة والتساؤل حول مشاكل الوجود الإنساني وتراث المعاني والأشكال، وتثوير لغة شعرية تنضج استعدادات وطاقات الإنسان الخلاقة وتنحو بها نحو التكامل ولو على سبيل المفارقة (سبارتاكوس). ومن ناحية أخرى كانت ثورة اللغة الشعرية عنده في "حديث خاص مع ابن نوح" تنزع التعمية عما في صيغ الكلام التي اكتسبت قداسة من بديهيات مزعومة.
ولم يرد اسم أمل دنقل إلا عرضاً في أول كتاب عن الحداثة الشعرية العربية لغالي شكري (شعرنا الحديث إلى أين؟) فقد كان شعره حداثياً بمعنى أعمق مما يدعو إليه الكتاب، فالواقع أن هناك أكثر من حداثة، حداثة بريخت وأراجون مقابل حداثة إليوت وإزرا باوند. بعض الشعراء في مصر عبروا عن العودة إلى الأصول "الطبيعية" للإنسان في مواجهة المجتمع والتاريخ، وقد بدا لبعضهم أن الإنسان هو الفرد الطبيعي السابق للمجتمع ولغته هي نسق لاهوتي أو عقد لآليء وجواهر من حروف وألفاظ دالة بجرسها وهالتها. وهذا الفرد الطبيعي اللا سياسي يعبر عن تماثل الأفعال الإنسانية والعواطف الإنسانية داخل الحياة اليومية في كل "الحضارة الإنسانية"، الميلاد والموت والعمل والمعاناة والإحباط والقلق والرغبة واللعب تفترض جميعاً نفس أشكال السلوك والتعبير (وصلت بعض الببغوات إلى نسخ عبارات إليوت في الأرض الخراب)، وهذه الأسطورة تضع قناع التنكر على الشروط المختلفة المتناحرة اجتماعياً وثقافياً التي يولد الناس فيها ويعانون إلى أن يموتوا. ولم يذعن أمل قط للعمى الفني الذي يخنق الثقل المحدد للإنسان في التاريخ. سبارتاكوس وجندي سيناء في 1967 والفتاة التي شربوا قهوتها المرة والشهيد الفلسطيني تحققات لإمكانات طبيعية بشرية مشتركة متناقضة مع تحققات أخرى معاكسة في عالم القهر والاغتراب. وسنجد الحياة اليومية في أشعار أمل قبل أن تصبح شعاراً لحركة شعرية جديدة متعددة الاتجاهات ابتداء من التسعينات مسرحاً لصراع (جرحت في مشاجراتها، رهنت ساعتي لقاء وجبة العشاء) بين محاولات فرض معايير حاكمة مفروضة من وسائل الإعلام وتقسيم العمل على أساليبها وطقوسها وعباراتها ومغازلاتها ومحادثاتها ....إلخ وبين رفضها. فمعايير النظام السائد وأخلاقياته أو انعدام أخلاقياته (حتى أنت يا حبوب منع الحمل! لم يعد شيء في هذه الدنيا جديراً بالأمان) تبدو كأنها القوانين البديهية للنظام الطبيعي الفطري. بل إن طعم العلاقات ورائحة اللحظات وفورة الإحساسات تنتزع من خصائصها وتأثيراتها المباشرة في هذا العالم المرفوض لتتحول إلى صور ومعروضات أجيد الإعلان عنها. ويظهر خطاب العشق ولذة الجسد مغلفين بمعان متداولة وقوالب جاهزة زائفة (حبيبتي في لحظة التوهج الندية تستحيل بين يدي جثة رطبة). فالحضارة الإنسانية، بما فيها من تحقق، ما تزال إمكاناً بعيداً، وهي لم تتحقق في ماض ذهبي مزعوم كما عبر في رائعته عن أبي نواس.
وفي ملحق الأهرام الأدبي أيام لويس عوض، كان هذا الناقد لا يضع كلمة الشاعر إلا قبل ثلاثة أسماء: صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وحسين عفيف. ولم يضع لقب "الشاعر" قبل أمل أمل دنقل لمدة طويلة رغم شاعريته المتوهجة. وليست الثورية الشعرية عند أمل دنقل مرادفة للإطار الشكلي الخارجي للقصيدة، لقصيدة البحر أو التفعيلة أو النثر. "فقصيدة النثر" تقليدية قديمة في الأدب العربي في خطب جاهلية ومأثورات مقدسة وإبداعات حديثة عند جبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي، وإن لم تكن قصيدة النثر الحديثة امتداداً لما سبقها. ولكن السطحية في إطلاق كلمة "التقليدية" من جانب بعض الشعراء المقلدين، وطريقتهم التقليدية في الخروج على التقاليد بسب السابقين من شعراء البحر والتفعيلة لا تظلم أمل دنقل بقدر ما تكشف عن عجز في الإدراك والفهم. وليس التقدم الشعري خطياً من البحر إلى التفعيلة إلى النثر. فمن الممكن ارتياد إمكانات لم تكتشف في أي من الأشكال السابقة حسب تنوع التجارب الإنسانية في المخيلة الشعرية. ومن السخف اعتبار شعر "الكتابة" أسمى من شعر الشفاهية على طول الخط في عصر وسائل الاتصال الحديثة التي تخاطب الأذن بالكلمة المسموعة.
ولم أتعلم من أمل أن طريقته في كتابة الشعر هي الطريقة الوحيدة فقد كان "حافظاً" لشعر كثير من معاصريه. ولم أتعلم منه المصالحة مع تزييف التجربة الحية بالقوالب الزائفة أو المصالحة مع لغة تشوه الإنسان وترتكب المذابح وتسمي نفسها لغة السلام.