صعود اليسار في جنوب أوروبا


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 4755 - 2015 / 3 / 21 - 18:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

اختلف جنوب قارة أروبا تاريخيًا عن شمالها، ففي إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان بقى التصنيع دون اكتمال في نشأته المتأخرة وظلت الزراعة متخلفة واستمرت العلاقات الإكليريكية والأسرية العتيقة قوية. وفي مناهضة هذه الأوضاع مناهضة متسقة للتخلص منها لزمت نشأة اتجاهات أكثر راديكالية مما كان يسمى بالاشتراكية الديمقراطية بإصلاحيتها المتدرجة البعيدة عن الحسم الثوري. وكان الأمر في الشمال، بريطانيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا والدول الاسكندنافية مختلفًا. فهناك طبقة عاملة ضخمة تعمل في تركزات كبرى للصناعة الثقيلة وشريحة مزارعين ضئيلة تميل إلى التحالف مع العمال. وفي السبعينيات المبكرة كان هناك رؤساء وزراء ينتمون إلى أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في كل بلاد الشمال التي تم ذكرها سابقًا. وكان الشعار المشترك الأعلى لتك الأحزاب المحقق لجماهيريتها الانتخابية هو إقامة دولة الرخاء، دولة العمالة الكاملة وتقديم الخدمات الاجتماعية المتنوعة في الصحة والتعليم وظروف العمل من حد أدنى للأجور ومعاش بعد التعاقد وإجازات بالإضافة إلى حقوق التنظيم النقابي والفاعلية السياسية. وتسمى هذه البلاد دائمًا بصيغ التبجيل ، ولكن ما أسرع ما انهارت بالأزمة الشروط الاقتصادية التي هي أساس نجاح الاشتراكية الديمقراطية. فقد تسارع التضخم وصعدت البطالة، ولا سبيل أمام الاشتراكية الديمقراطية لتفادي الأزمة في إطار النظام الرأسمالي التي تدعي إصلاحه من داخله. وكان هناك رد فعل جماعي مضاد للاشتراكية الديمقراطية واعتبار إنفاقها المسرف على دولة الرفاه عند بعض المفكرين الجماهيريين اليمينين سببًا للأزمة. واستولى اليمين بالانتخاب على السلطة في الشمال الأوروبي (بريطانيا تاتشرعام 1979) والولايات المتحدة (ريجان) وألمانيا وهولندا وبعض البلاد الاسكندنافية. وفي إيطاليا ظلت هيمنة الحزب الديمقراطي المسيحي دون انقطاع لمدة ثلاثين عامًا بعد اندلاع الحرب الباردة. وفي إسبانيا والبرتغال استمرت الديكتاتورية الفاشية من فترة ما قبل الحرب حتى الستينيات واستولت طغمة ديكتاتورية على السلطة في اليونان. ولكن التطور الاقتصادي والتغير الاجتماعي والمقاومة الشعبية أدت إلى تصفية أسس النظام اليميني الذي ساد الجنوب. ففي النصف الثاني من السبعينيات انتهت أنظمة فرانكو وسالازار وبابادوبليو. وفي إيطاليا اضطر رئيس الوزراء أندريوتي إلى توسيع مساحة دعمه البرلماني لاستشارات غير رسمية مع الحزب الشيوعي الإيطالي. وقد فتح إدخال تعديلات ليبرالية على النظام السياسي فرصًا لليسار الشيوعي في دعايته لنفسه باعتباره حامل بدائل مسعفة جرى إنكارها طويلاً. وفي إسبانيا والبرتغال واليونان وفرنسا حاولت الأحزاب الشيوعية أن تطرح نفسها كشيوعية أوروبية مرشحة طبيعيًا لتغيير السلطة بواسطة تبني نزعة دستورية تتسم بتقديم تنازلات إيديولوجية بالمحافظة على التقاليد الغربية الديمقراطية في تعارضها مع التقاليد الغربية الديمقراطية في تعارضها مع التقاليد السوفيتية. ولكن محاولة الشيوعية الأوروبية التكيف مع شروط جديدة أخفقت في إحداث الأثر المطلوب، فتنكرها في ألوان الاشتراكية الديمقراطية اضطر أحزابها الإيطالية والإسبانية والفرنسية إلى مواجهة منافسة خاسرة مع الاشتراكية الديمقراطية ذات اللون الأصيل التي كانت أضعف في البداية ولكنها لم تكن تعاني من البيروقراطية الداخلية والارتباط الخارجي بأنظمة أوروبا الشرقية البغيضة. ومع ذلك خضع الإثنان لالتفاف وتفوق تشكيلات هي تشكيلات يسار جديد عفوي في الجنوب أعمق راديكالية من الاثنين.
وكما تحولت أوروبا الشمالية إلى اليمين تحركت أوروبا الجنوبية إلى اليسار. وعند الثمانينيات المبكرة كان جونزاليس رئيسًا للوزراء في إسبانيا وكراكسي في إيطاليا وسواريس في البرتغال، وكلهم اشتراكيون ديمقراطيون حزبيًا لكن التركيب السياسي لهذه الحكومات بعيد عن التماثل، ففي إسبانيا واليونان كنت هناك أغلبية اشتراكية في مجلس النواب على حين لم يكن الاشتراكيون في إيطاليا والبرتغال إلا محور تحالف حاكم. ولم تكن السياسة المتبناة لدى الاشتراكيين متجانسة. ففي فرنسا واليونان كان هناك برنامج طموح للتأميم وإعادة توزيع الثروة لم تسر عليه دول أخرى رؤساء وزرائها اشتراكيون ديمقراطيون. وانتهجت إسبانيا سياسة مالية تقليدية لم تسر عليها إيطاليا بالقدر نفسه. وحدث تدهور في حجم وقوة النقابات وظل عدد العاطلين مرتفعًا طوال الثمانينيات. وحققت إسبانيا حيث طال أمد حكم الاشتراكيين الديمقراطيين رقمًا قياسيًا في تضخم الكتلة الجماعية للعاطلين بما أفقد الحكام جماهيريتهم. إن الضغوط نفسها من السوق المعولمة التي ساعدت على توصيل اليمين إلى السلطة في الشمال كبحت أي دوافع حكم لتطبيق برامجها لدى اليسار التقليدي في الجنوب وتركته عائمًا طافيًا مع الاقتصاد المعولم، وصار يتأثر من حمى المضاربة التي أطلقها ريجان لسياسة التمويل بالعجز التي شجعت ونشرت دوافع الاستهلاك المفرط بين الشرائح الأكثر رخاء من الناخبين على حين لم تقدم سوى الفتات للعاطلين والفقراء وهو نمط شديد البروز في إيطاليا أثناء حكم كراكسي وأثناء إدارة جونزاليس الثانية في إسبانيا. وقد مهد ذلك الطريق لصعود يسار أكثر راديكالية لمواجهة الأزمة.
وقد سبق أن تناولنا وصول حركة سيريزا اليسارية الراديكالية إلى الحكم في اليونان. وفي إسبانيا صدم صعود نجم حزب ديموس اليساري حديث النشأة نظام الحزبين الرئيسيين على الرغم من أنه لم يتشكل إلا في يناير 2014 وصار يتحدى الحزبين الرئيسيين في انتخابات 2015. وقد حصل على خمسة مقاعد في البرلمان الأوروبي. ويؤكد رئيس حزب ديموس أن نظام الحزبين قد دمر إسبانيا. وليس من المفاجئ جاذبية هذا الحزب وسياسته الاشتراكية الشعبية للإسبان، فالبطالة عندهم من أعلى المعدلات في أوروبا إذ تبلغ 24% بين الشباب، ويعلن ستة من كل عشر شباب أنهم سيغادرون إسبانيا بحثُا عن عمل. وقد أدت أزمة اليورو في 2012 وسياسة التقشف إلى احتجاج جماهيري في قلب مدريد وولد حزب بوديموس من هذه المظاهرات ونال شعبية ساعدها إجماع عام حول أن النظام يعاني من الدمار حين هزت سلسلة فضائح الفساد الثقة في الأحزاب السياسية. وفي الواقع يضع الإسبان الفساد في صدارة آفاتهم بعد البطالة. ولا تنفرد إسبانيا ببلاغة حزب بوديموس المؤثرة في الاحتشاد الشعبي خلفه، بل ينتشر الخطاب اليساري الراديكالي في الجنوب الأوروبي، اليونان والبرتغال وإيطاليا.