صناعة الثقافة


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 5075 - 2016 / 2 / 15 - 22:23
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

تستعمل كلمة الثقافة استعمالا يتسع ويضيق إلى حد التقابل والاستقطاب، أحيانًا تضييقها بمعنى الاشتغال بالإبداع الفني مثل الموسيقى والفن التشكيلي والأدب والسينما والمسرح وعروض التلفزيون والحياة الفكرية. ويقابل تضييق الثقافة وقصرها على الفنون والشواغل الفكرية توسيعها اتساعًا شديد السخاء لتشمل العقائد والأخلاقيات والقانون والعادات والتقاليد والفنون وأساليب العمل وقضاء أوقات الفراغ وقواعد السلوك لتصير طريقة حياة شاملة تتميز بها جماعة ما بقوالبها النموذجية التي تتخذها للتعبير عن نفسها والحفاظ عليها وتناقلها وتعديلها عبر الأجيال، أي تستعمل الثقافة بمعنى طريقة في وصف شكل حياة متميز يمكن أن يطلق على البدائيين (مثل ثقافة البوشمان) والمتحضرين. أما قصر الثقافة على الفنون بمعناها المتطور الحديث مع الفكر فيعني إقصاء الطبقة العاملة والفلاحين والحرفيين عنها. أما إذا وسعت بحيث تضم إبداع الحكايات الشفاهية وإيقاعات وأغاني المناسبات (الحصاد والزفاف والختان والأعياد) والحكم والأمثال وأنواع الفرجة في الاحتفالات الاستعراضية كالرقصات ورسومات الجدران في استقبال المسافرين العائدين والحجاج واحتفالات الموالد وابتكار تنظيمات شعبية كالجمعيات والنقابات والتعاونيات صار بالإمكان القول إن للطبقات الشعبية ثقافة غنية هي واقع مادي وتجربة معيشة في الوقت نفسه تضم تقاسم عادات كلامية وطرائق سلوك وفولكلور وتصورات جمعية للذات. ولا تصير الثقافة هنا فكرة بالغة النقاء والتفريد، بل تختلف عن مفهوم الثقافة الكلاسيكي؛ الثقافة الرفيعة التي تحاول التشبه بالقدرة الإلهية لأن قيمها ليست قيمة شكل حياتي محدد وإنما قيم مثالية للحياة الإنسانية كلها وتعبر عن أن جميعنا على اختلافنا أنداد في الإنسانية. وقد حدث تاريخيًا أن الثقافة الأوروبية روج السادة عنها وأقنعوا كثيرين إن الإنسانية تجسدت فيها على الوجه الأكمل حينما سيطر الغرب الأوروبي على العالم لأنه امتلك أرقى صناعة وأقوى أسلحة وصارت الثقافة رمزًا رومانسيًا لا نهائيًا يتجسد في أوروبا، فهي علاقة بين أوروبا والإنسانية الكونية المتخيلة كما يجب أن تكون ولا تتوقف عند خصوصية قومية، لتعمل على تسويق تاريخ الغرب بوصفه نموذجًا للإنسانية جمعاء ويرتقي الجزئي إلى مصاف الكلي والقاري إلى مكانة العالمي. ويخلي الانتماء القومي مكانه للمواطنة العالمية المزعومة حين تتعلق الهوية الثقافية بهوية الفرد الروحية. والآن لم تعد الهوية العالمية أمرًا بالغ التجريد فموظفو الشركات العابرة للقوميات صاروا مواطنين عالميين جدد. ويتضامن كثير من المواطنين وهم في أوطانهم مع قضايا البشر في بلاد أخرى تضامنًا إنسانيًا. وتمكنت الثقافة بمعنى طريقة الحياة من أن توفق بين الأممي والقومي، فالفرد الثري داخل قومية ما يأكل من طعام مطابخ متعددة الجنسية ويستمع إلى موسيقى أجنبية ويتعطر بعطر باريسي ولو كان في موسكو ويرتدي زيًا ينتمي إلى الولايات المتحدة من ماض قريب ولو كان في هونج كونج. ويغدو العالم لا قوميًا أو محليًا. ولا يجب أن ننسى أن أوروبا لها تاريخ من التعصب واستعباد الآخرين وإبادتهم وليست نموذجًا للإنسانية.
وتغمر العالم الآن ثقافة جماهيرية تجارية لا تنبع من الجماهير التي تستهلكها، تجري صناعتها وتسويقها بالجملة بوصفها سلعة تباع وتشترى، وفي مركزها الثقافة البصرية الجماهيرية المعاصرة (ثقافة السينما والتليفزيون والفرجة والصورة عمومًا). وتدير الشركات الكبرى وسائل الإعلام ويعمل المثقفون بإنتاج وتسويق الثقافة الجماهيرية بوصفهم كتابًا وسينمائيين وصحفيين ومصورين وتشكيليين. وتوجد علاقات متشابكة متفاعلة بين النظام الاقتصادي السائد وإيديولوجيته وبين توظيف النظام التعليمي لخدمة أغراضه، فالنظام التعليمي يراه الكثيرون وسيلة للمعرفة والعلم والبحث عن الحقيقة على الرغم من الاستعمال الفعلي لمقررات التعليم في غسل العقول وتشكيلها وغرس التحيزات ونوازع التعصب والاستيلاء والولاء لأي نظام حاكم وطاعته، فهو أداة لتشكيل الميول والانتماءات وآليات تشكيل العقول أي لصناعة الثقافة وللتحكم السياسي والاجتماعي وما يسميه عالم الاجتماع بيير بورديو أدوات العنف الرمزي الذي تفرضه القوى المهيمنة على الجمهور. فالمسيطر على التعليم ليس المثقفين العاملين فيه بل منطق النظام الرأسمالي المسيطر على العالم الذي يرى بورديو أنه يعمل لصالح فئة محددة ضد مصالح الأغلبية الساحقة بوسائل إيديولوجية ناعمة وجرعاتها اليومية بلا صخب. وتعبر عن هذا المنطق شركات عالمية مثل جنرال إليكتريك وكبار مساهمين مثل روبرت مردوخ الذي يملك كبرى صحف ودور نشر بريطانية وشبكات تليفزيون عالمية، ومثل نظيره في إيطاليا سيلفيو بيرلسكوني، وتيد تيرنر صاحب شبكة سي ان ان سابقًا، ومثل راندولف هيرست صاحب سلسلة صحف ومجلات ودروريات نشرت تقارير ثبت أنها كاذبة ومختلقة أيام صراع كوبا من أجل الاستقلال عن أمريكا وهو ملهم فيلم أورسون ويلز المواطن كين, ومثل النظراء في بعض بلاد العالم العربي من حكومات تتبع عائلات ثرية. وقد فضح بورديو في أواخر التسعينيات من القرن العشرين الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام وتبعية بعض المثقفين الذين أطلق عليهم لقب كلاب الحراسة الجدد الذين يرسخون المصالح الحاكمة ويلعبون يالعقول بواسطة صناعة الثقافة.
ولكن في مواجهة الثقافة التجارية يتألق مثقفون أصلاء في جميع ميادين الثقافة يبدعون ويكتشفون ويستهدفون الحق والخير والجمال ويلتزمون بالحرية، ويبتعدون عن السوقية والابتذال والإثارة، ويلقون استجابة وإجلالاً من جانب الجماهير الشعبية الواعية.