إبراهيم أصلان ساحر البيان


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 4182 - 2013 / 8 / 12 - 22:49
المحور: الادب والفن     

لا يغرق ساحر البيان ابراهيم أصلان في تجارب الصياغة اللغوية ولا تعنيه درر الأسلوب في بناء الجمل، وقد تبدو لغته التلغرافية شديدة التقشف، فإلى أي شيء إذن يرجع سحرها؟ ربما لكونها محاولة جادة لخلق أشكال جديدة للوعي، ووثبة جذرية في تعميق أشكال الإدراك. فالواقع الذي تقدمه قصصه ورواياته ليس مجموعة من أنماط سلوك متعارف على تقييمها ومتفق على القالب الذي يضمها، بل هو عالم يعاد اكتشافه بدءًا من السطح، وكأنه عالم بديل. يحاول أصلان تنقية لغة العشيرة بأن يحررها مما يشوبها من كليشيهات مبتذلة مكررة هي تفسيرات شائعة لآثار المدركات الحسية المتوهجة التي يقدمها في كتاباته كما هي. فأصلان رسام التفاصيل المتمكن لا تحجب رؤيته إيديولجية جاهزة أو رسالة يلح عليها الوعي الرائج. فقد يزيف الأدب التجربة بذلك. وقاموسه شديد الكثافة والتركيز والإيجاز كما يلاحظ الجميع، يرفض ما أصاب القاموس العام من تورم بواسطة المبالغة والكذب والتصورات المغشوشة. إنه باحث عن قيم جديدة للغة في الكلمات الحية على الألسنة والأقلام وفي التقرير الخفيض فلا نطق إلا بالقليل الضروري للكشف دون إسقاطات عاطفية ممضوغة ودون تجريدات ذهنية أو محاولة لاصطياد بهرج شعري بل الاكتفاء بالتلميح دون التصريح المسهب، يدعو القارئ للمشارركة في إنتاج المعنى من انطباعات متفرقة ونفثات غير محددة. بيان أصلان إذن يتجنب التأنق والتحذلق كما يتجنب شقشقة اللسان، فهو لا يقدم مشغولات ذهبية لغوية بل يحاول جعل الكلمات أقرب إلى تأثير الخط واللون. وقصصه تفاعل توترات وتباينات تنقل الإحساس بالطابع العابر يزداد تشظية كما تنقل الطابع العارض والقلق للمشهد، وضرورة الاستجابة الفورية كمصدر للطاقة الفعلية. وكل ذلك يؤدي إلى ما يشبه موقف الاحتجاج على الراهن والشائع والراكد.
ورغم البساطة والإيجاز وبطء الإيقاع فإنه يعتبر شكل السباق الشكل الحق للقص، أي القفز من الأشياء التي حدثت ومن الأشياء كما توجد ومن كل الأشياء التي يعرفها الإنسان والتي لا يمكن أن يعرفها إلى بناء شكل مخترع في لقطة ليست تمثيلا مرآويًأ فاللقطة في التصوير يرجع تاريخها إلى التاريخ نفسه لظهور القصة القصيرة، فهي تصور طورًا مفردًا من سيرورة أو من فعل فلا تحتاج إلى شرح أو تفصيل مكتفية بذاتها ولا تحتاج لمساعدة شيء من خارجها. إنها شيء مكتمل جديد أوفر صدقًأ وحيوية، وأن جعلت المخافضة في التعبير البناء نحيلاً. فهي رغم ذلك تتطلب حسن الاختيار وتجعل القراء يشعرون ويحسون بشيء ما أكثر مما فهموه مباشرة بعقولهم ويستدعي لذلك مشاركتهم.
ونكرر أن أصلان في شاعريته لا يستخدم زخارف عاطفية ولا إسقاطات فكرية ويحذف الحشو البلاغي من تشبيهات وإسقاطات ويقدم الإحساسات التي يصر على تنقيتها في صلابتها، فالخيط الرفيع الذي يربط الإحساسات يحاول تقديم مذاق العالم على لسان الراوي في سرده وليس المذاق المستعار من المسلمات والإعلانات. فالراوي يرفض أن يسرق حلمه الخاص من صفحات الكتب أو البرامج السياسية بل يروي حلمه هو بلسانه كما رأته عيناه. إنه يقدم وصفًا تفصيليًا للتجربة خاليًا من أي تعقيب أو محاولة لفرض معنى للتجربة داخل إطار فكري أنيق. فهو يقدم ملمسًا ومذاقًأ لمعنى حياة متعددة الأوجه والمعاني وتستحق رغم كل شيء أن تعانى عن طريق عقد العلاقات والبحث عن انتماءات صغيرة بين البسطاء حتى بين الأغراب منهم.
ومن السمات البارزة عند أصلان أن رواياته وقصصه لا تحاول الدخول إلى الأعماق النفسية للشخصيات كما لا تحاول تقديم هيكل شامل للواقع الاجتماعي، بل تعتمد كل الاعتماد على مرئيات جزئية وعلى ألوان للوقائع وعلى مواقف رغم تكررها تثير مشاعر الاهتمام والشجن الرقيق والأمنية. وقد عقد كثير من النقاد مقارنة عن التماثل بين سرد أصلان ونموذج هيمنجواي في الأسلوب التلغرافي والاقتصار على قمة جبل الجليد الطافية وهي عشر أعماق الجبل، والاعتماد على ما حدث وكيف حدث والإحساس بالمكان والواقعة وتصوير الحقيقة المرئية الملموسة وحدها للإيحاء بالمشاعر والمعنى. ولكن أصلان يعيد اكتشاف هذا النموذج بطريقته المصرية الخاصة وعلى أرضه هو التي يحيا عليها. إنه لا يصور مثل هيمنجواي تجارب قصوى عند مصارعي الثيران والملاكمين أو المقاتلين في حرب. فحرب أصلان ونبراته الهجائية تدور حول التجارب اليومية العادية وعلى تفاصيل أماكن العمل وعلى الرصيف. فأسماكه الصغيرة تختلف عن مصارعة ثيران هائجة لكنها لامعة كالفضة وقد يكون داخلها خاتم من الذهب أو الأحجار الكريمة. فإبداع أصلان لا يزعم أن السطح وحده هو الجدير بالتتبع أو أنه لا وجود لجوهر وراء الظاهر المرئي، فهو لا يعتبر الجوهر ألقًا زائفًا بل كثيرًا ما تومئ التفاصيل المرئية عنده إلى أعماق تناقضات أو أمنيات أو طبائع غير مرئية. وعلى سبيل المثال إن امبابة الحي وأهله وعلاقاته تصوره قصصه ورواياته في حركته وتاريخه وعلاقاته الأساسية وارتباطها بالقوى الفاعلة في المجتمع عمومًا (الملك في الكيت كات) دون تبسيط دعائي فج. فعينا السرد ليستا مغمضتين عن ارتباط بين جزئي وكلي وهي تعكس عملية الحياة الإنسانية في كليتها وحركتها وتحس بدراما اللحظة في لقطة جزئية.
وهناك نقد جاد (عند د. صبري حافظ) يربط بين أصلان وبين المدرسة الشيئية الفرنسية في تقنية الوصف الشيئي عند آلان روب جرييه إذ يصل إلى أن أصلان يشبه تلك المدرسة في اعتبار الوضع الإنساني برمته هو وضع الإنسان المعزول في عالم من الأشياء والمجردات غير المترابطة. حقًا إن أصلان يطعم حياديته الوصفية بلمسات تقترب من تلك المدرسة ولكننا نرى أن الاغتراب في عالم أصلان لا يصل إلى المدى الذي يصل إليه الاغتراب في عالمها. فأصلان لا يؤكد في قصصه ورواياته استعصاء تجارب العالم على التفسير ولا يسحق المتلقي تحت ضغوط التفاصيل فهي منتقاة يعمل فيها الحذف والاختزال بحيث لا يضيع انطباع الصورة من جراء رفض تصوير الكل. فالتفاصيل عند أصلان على العكس من التفاصيل عند المدرسة الشيئية موحية لا تغرق القارئ في طوفان لا يستطيع التحكم فيه. فهو يجتهد في رسم صورة للواقع يحسم فيها التناقض بين السطح والأعماق والجزئي والكلي والمباشر والمتصور بحيث يلتقي الطرفان في تكامل تلقائي داخل الانطباع المباشر للتلقي، وعالمه الخاص ليس الواقع الذي تقدمه صفحة الحوادث في الجريدة اليومية عن امبابة وما يدور فيها وليس شيئًأ مجردًا لا علاقة له بالتغيرات بين الأزمنة. إنه مغامرة تعبيرية تخلق لامبابة ذاكرة فنية لها منطقها المتميز وتبلور علاقة شائقة بين الأحداث والشخصيات لا تأخذ المجتمع المصري باعتباره قضية مسلمًا بها هادئًا راسخًا، وينتقل الاهتمام من خلال التدرجات وتعدد الألوان إلى مصير ذلك المجتمع ومصير الإنسان فيه داخل واقع لا متناه يظل دائمًا ينتظر الاكتشاف. وأصلان ينزع الألفة عن أحداث وشخصيات عالمه تتميز بعض شخصياته بدرجة عالية من غرابة الأطوار ولكن الإيجاز والحذف إذا استمرا أديا إلى الصمت على الرغم من أن قصص أصلان ورواياته ليست صامتة. إنه يحاول أن ينزع عن اللغة أدرانها وصولا إلى تعريتها حتى العظام بل وصولا إلى كل ما هو أساسي لحياتها وقوتها. فهو لا يصل في كتابته إلى نزعة نقطية تختزل المنظر. وأصلان يقدم المدركات الحسية في توزيع دقيق للثغرات؛ للفجوات والحفر. فكل حدث مصور يبدو في الظاهر كأنه يحدث مستقلا على الرغم من القص يفترض عمومًأ أن كلا من الأحداث يشارك في واقعه وحركته أحداثًأ أخرى كثيرة في أماكن أخرى لا تلقي سوى الصمت. لذلك يبدو تأثير تلك الأحداث المسكوت عنها وكأنه يقع مباغتًأ مفاجئًا لأنه احتفظ بنقائه الأصلي دون تدخل. فهناك فراغ ضخم ممتد وراء الحدث يتمثل في الابتعاد عن التعقيدات والمشاكل وفي التكتم عن الإفصاح كما لو كان السرد يقرر أن الناس يجب أن ينزعوا عنهم أوهامهم كما ينزع السرد عن اللغة أدرانه،ا فالاستعمالات الدارجة للغة التي يتجنبها تحولت إلى تكلف وتصنع إلى درجة أن يصبح الملاذ في الصمت، وهو تقييد وحظر دون أن بتدهور إلى تبسيط وتكرار كأنه فكرة متسلطة، لأن أصلان يقف عند الحد الأدنى من التوكيد فحسب وإن تأكدت مواقع تعاطفه أو نفوره رغم اندهاشه الدائم من غرابة ما يقع فهو لا يصل إلى لا أدرية بل تجتهد أعماله في محاولة تعميق الإدراك والفهم وإضاءة الفعل.
لقد رفض أصلان ما هو شائع في الرواية والقصة من أن إنسان الطبقة الوسطى هو ممثل الإنسانية جمعاء وأن قيمه هي المقياس الذي يحكم به على سلوك كل القوى الاجتماعية الأخرى حينما يصورها الأدب، فقد تجاوز أدبه الشخصية الإنسانية المحدودة لأفراد الطبقة الوسطى وحاول أن يمضي نحو تجارب أفراد من الرجال والنساء ينتمون إلى الطبقات الشعبية دون أن يصورها من ينتمون إلى الطبقات الشعبية دون أن يصورها من زاوية رسالة اجتماعية في تجريدها الفكري والأخلاقي. فهو قد اهتم بابتكار صور مركبة للنماذج الشخصية تقدم على طرائق تعبير جديدة وأساليب قص كاشفة عن الترابط والتفاعل في أحداث الواقع. لذلك كانت قصصه القصيرة تتميز كل منها بأنها ذات طابع مزدوج، فهي تحكي حكايتين إحداهما في الصدارة على حين تبني الثانية في تكتم وخفاء. وإن يكن عالمه من الممكن حتى للنظرة العابرة أن ترسم حدوده على باطن الكف، يتألف من المقهى وحجرة في بيت وكشك السجائر مشبعة جميعًا برائحة الملل والعرق والإخفاق. وداخل هذا العالم الذي يشبه صندوقًا صغيرًا تدب كائنات إنسانية تنتمي إلى ما يبدو أنها حكاية ثانية من حكايات دوامة الحياة الاجتماعية. وتتجلى براعة أصلان في كيفية تقنينه أو ترميزه للحكاية الثانية ونسجها بين فراغات الحكاية الأولى، بحيث تخفي الحكاية المرئية حكاية خافتة متسمة ببعض الغموض. فالكائنات البشرية التي تبدو كأنها غائبة عن وجودها ولا تكاد تفعل شيئًا أوتقول شيئًأ شديد الأهمية، فكيف يمكن إذن أن تعبر لوحاته القصصية عن دراما الإنسان في العصر؟. من الواضح أن قصص أصلان لا تأخذ بدايتها من بناء فكري جاهز ولا تنتهي بمحاولة إقامة هذا البناء. ولكن ما يبدو في حكايته الأولى إدراكًا حسيًا مباشرًا للوقائع الصغيرة غائصًا في لجة من الأحداث العرضية، نجده ينتهي بمفاجأة مدهشة ناتجة من إدماج خاتمة أو نهاية الحكاية الثانية في الحكاية الأولى. وبعبارة أخرى إن كل التفصيلات تدمج في تجربة تتحسس طريقها إلى تساؤل حول موقف ذي طابع عام. وتريك الكون في حبة رمل. ولكن هذه التساؤلات ليست تجريدات فكرية بل تتضمنها القصة كشحنات تندلع من انصهار العلاقات الداخلية للحكايتين. ولنأخذ مثلا قصة الملهى القديم وكيف تتضمن قصتين، فهي تحكي عن رجل عتيق ممتلئ بالتاريخ مثل سور ملهى الكيت الكات الذي كان يلهو فيه الملك فاروق، ويعلق السرد بأن عظام عالم هذا الرجل العتيق مبعثرة، فهو بلا عالم متماسك مطمئن ويخرج من وحدته في قصة الصدارة بأن يقيم أية علاقة بإنسان آخر، مجرد الجلوس معًا والاشتراك في تدخين سيجارة وتبادل حديث بلا أطراف محددة مع بائع ساهر في كشك. ويدور الحديث حول امرأة عجوز على الضفة الأخرى من النهر، حديث هو جزء من قصة ثانية عن عجوز تنام تحت أقفاص، يساعدها أبناؤها ولكنها تهرب منهم. ويستمر الحديث عن الباب الذي كان يدخل منه الملك، والأماكن الجديدة التي نشأت بدلا من القديمة، وتلف الدائرة لتعود إلى المرأة المريضة وأبنائها. ولا يفوت الرجل المسن أن يدعو البائع لزيارته أثناء النهار في حجرته على السطح بعد أن تداعى بيته القديم (فهذه هي قصة الصدارة عن عالم بائس تتداعى أركانه دون أن ينهض مكانه عالم جديد بالمعنى الحقيقي) ويعود الرجل المسن من حيث أتى ليقرأ كأنما للمرة الأولى الكلمات البارزة على طول واجهة بوابة الملهى: انتهت معركة الأهرام (بين الحملة الفرنسية والمماليك هنا في 21 يوليو عام 1798). فالحكاية الثانية عن ملوك وحكام وجيوش تحكى بطريقة مختلفة خافتة وبنظام مختلف للسببية إن ذكر إطلاقًا، وتقابل القصتين يكشف عن التاريخ الحقيقي كما يحياه الودعاء الطيبون الموعودون بأنهم سيرثون الأرض كما يرد في العنوان. وبطبيعة الحال لم يرث هؤلاء في السرد بأجمعه شيئًا حتى الآن. فنحن أمام تقنية جديدة للقصة القصيرة تعتبرها قصتين مندمجتين: قصة في الصدارة تتضمن قصة ثانية مختبئة. وتروي القصتان كما لو كانتا قصة واحدة. وكانت نظرية همينجواي عن جبل الجليد في السرد القصصي حيث تكون عشرة في المائة منه فقط ظاهرة على السطح هي التركيب الأول للقصة الحديثة كما نجدها عند ابراهيم أصلان ومحمد البساطي وصنع الله ابراهيم...وآخرين من الكتاب المبدعين فالسطح يترك المتلقي ليبني من التضمن والتلميح في قصة ثانية مفتاحًا للقصة الآولى. ويرى بعض النقاد إن هذا هو البناء المزدوج للقصة القصيرة بعد إدجار آلان بو وموباسان، عند هيمنجواي وكافكا وبورخيس وغيرهم الذي هبط من تشيخوف وجويس (في أهل دبلن) بالتخلص من البنية المغلقة بواسطة رواية قصة محتجبة بطريقة متزايدة المراوغة. وتصير القصة الحداثية متميزة بأنها تروي قصتين كما لو كانت قصة واحدة. فالسرد فيها مركب مزدوج حيث يستمر متحركًا في مساره الأفقي المألوف ثم يفسح المجال لسرد إضافي متصل وإن كان لا يبتر السرد الأصلي بل يتابعه ويضيئه في تداخل الحكي داخل الحكي، ويقوم هذا السرد على إنصات مستوعب لفهم نبضات وهمسات الموقف ورصد لأوثق علاقاته وخصوصيته.