الحاضر والتاريخ عند نجيب محفوظ


إبراهيم فتحي
الحوار المتمدن - العدد: 4195 - 2013 / 8 / 25 - 15:52
المحور: الادب والفن     

يتميز العالم الروائي والقصصي عند نجيب محفوظ بالاكتشاف الفني للحظة التاريخية الحاضرة. والحاضر عنده ليس التفاصيل الجزئية الطبيعية المعيشة فورًا في العالم الخارجي الواقعي، إنه ليس معطيات تقدمها الحواس عن عالم نهائي التحدد نحياه مباشرة مرسوم في صور فوتوجرافية للسطح الملموس؛ بل إن رواياته وقصصه "التاريخية" لم تقدم وقائع أو شخصيات الماضي لذاتها، ولكنها أبدعت تجربة إنسانية متخيلة استمدت نسيجها من قضايا أساسية عاشها المصريون المعاصرون في زمن الكتابة. وأصبح لأحداث الماضي وشخصياته دلالة راهنة. فقد أسقط محفوظ أوجهًا للواقع المصري الحديث على وقائع الماضي ونماذجه الإنسانية. فقد كانت وجهة النظر الروائية في كفاح طيبة مثلا مستمدة من وجهة النظر الوطنية المعاصرة أيام كتابتها ومنطق الأحداث الجارية. فالحاضر أو المعاصرة المتدفقة استمرار دائم التحول للماضي ويتحرك نحو مستقبل غير متوقع.
فقد ظل يسرد الحاضر كتاريخ، ورواياته التاريخية عبث الأقدار (1939) ورادوبيس (1943) وكفاح طيبة (1944)كان مقصودًا بها أن تكون جزءًأ من مشروع أكبر تخلى عنه في النهاية، وكان قد أعد نفسه لكتابة تاريخ مصر بأكمله في شكل روائي بالطريقة نفسها التي قام بها والتر سكوت لتاريخ بلاده. وعلى الرغم من أنه تخلى عن الرواية التاريخية فقد استمر في التأريخ الفني للحاضر.
حفلت كفاح طيبة برؤية استعادة المجد التليد ممثلاً في الإصرار على صد الغزاة عند القائد العسكري المحنك، وفلسفة الحكم عند الفراعنة، وسمو الإبداع لدى الفنانين. وأكرر إنه في عالم محفوظالروائي والقصصي سلسلة من الفترات الانتقالية، إلا أن كل الفترات بطبيعة الحال انتقالية، وإن يكن بعضها أكثر اتصافًا بالطابع الانتقالي من الأخرى. وقد صورت الروايات الواقعية المبكرة حركة مصر ذات الاستقلال الشكلي التي يحتلها الإنجليز ويحكمها ملك وباشوات إلى مصر الأخرى التي كانت وعدًا وأمنية عند مثقفي اليسار والإسلام السياسي. كما صورت الروايات ذات التطلعات الفكرية مصر بعد ثورة 52 وأمنياتها المعلنة وانتصاراتها وهزائمها وإنجازاتها وإخفاقاتها. وظل الحاضر يواصل تحولاته في الروايات والقصص اللاحقة بعد 1970 وحكم السادات: الانفتاح وانعكاس المسار وظهور أشكال جديدة من الصراع الفكري والسياسي. ويقول نجيب محفوظ تعليقًا على المرحلة التي تسمى فكرية في كتاباته: "حين بدأت الأفكار والإحساس بها يشغلني لم تعد البيئة ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها، فالشخصية صارت أقرب إلى الرمز أو النموذج، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها بل صارت أشبه بالديكور الحديث مختصرة مجردة. واعتمدت الأحداث في اختيارها على بلورة الأفكار الرئيسية". وينطبق هذا التحول على الرواية لا على القصة القصيرة، لأن نجيب محفوظ لم يمر بمرحلة واقعية بالمعنى الشائع لكلمة واقعية. فمنذ البداية كانت الأفكار والإحساس بها يشغل أكبر مساحة من قصصه القصيرة ولكن تلك الأفكار لم تكن مسبقة أي مستمدة من النظريات السياسية أو الفلسفية أو الاجتماعية. بل كانت منبثقة من تقنيات اكتشاف الحاضر في كلية الواقع المصور والموقف من منطق صيرورته ومن مكان الشخصية الإنسانية ومصيرها في العالم. وذلك بالإضافة إلى أن الحياة العقلية للشخصيات جزء من الحاضر المعيش وأن الصراع بين وجهات النظر المختلفة سمة مميزة لتجربة الحياة الاجتماعية في الحاضر. فليس الفن الروائي والقصصي للحاضر مرادفًا للوقوف عند التجربة التلقائية الفورية للفرد، فقد يكون ذلك تجريدًا من روابط الحياة وحركتها. فلا تؤخذ التجربة الروائية أو القصية التي تصور الحاضر عند نجيب محفوظ من الواقع على نحو مباشر كما تؤخذ أخبار صفحة الحوادث في جريدة، بل هي ثمرة المخيلة الإبداعية والفكر الخلاق الذين يخرجان بها من الجزئية والسطحية والتبسيطية لكي تكون عالمًا متكاملاً ولكن قضايا الحاضر الفكرية لا توجد كأجسام غريبة داخل العمل القصصي أو الروائي فهي تنبع من وتشارك في أفكار العصر. فاللحظة التاريخية الحاضرة كما يقول محفوظ مزدحمة بالكثير من الأفكار والمشاكل (الهلال – فبراير 1970).
وابتداء من الروايات الأولى التي شاع أنها واقعية، القاهرة الجديدة 1945 وخان الخليلي 1946 وزقاق المدق 1947 وبداية ونهاية 1949 ثم قمة الواقعية المصرية الثلاثية 1956-57 ، لم تكن واقعيتها محاكاة سطح الواقع في تفاصيله اليومية الجزئية أو سلخ جوانب من الواقع المباشر وتكديسها. ولم تكن تعني من ناحية أخرى تصوير أساليب حياة فئات شعبية بعينها ووصف معاناتها وبؤسها أو الدفاع عنها بواسطة أفكار مجردة تتعلق بالعدالة الاجتماعية أو الوطنية، بل كانت من الناحية الإيجابية تصوير الحاضر تصويرًأ ناشئًا عن فهم مقتسم مشترك بين الناس. وكانت هذه الأسس المشتركة راسخة عندما كان هناك تحالف بين الطبقة الوسطى وبقية الطبقات الشعبية في الحركة الوطنية. ولم يكن محفوظ في هذه الروايات يغرق حائرًا في حياة واقعية لامتناهية الاتساع تتألف من سلاسل أحداث ووقائع ومدركات مختلطة متقاطعة تفتقر إلى الاتساق. ولكنه كان يقدم أنساقًا من التجربة تعني أشياء محددة بالنسبة إلى ثقافة المؤلف وثقافة القراء معًا. وتلك الأشياء المحددة تتعلق بما يعتبره الفهم المشترك الاتجاه الأساسي لحركة الواقع بكل تناقضاته وبما يعتبره هذا الفهم المشترك جوهر الأمور ومنطقها. ولم يكن محفوظ يصور الجوهر الاجتماعي في خطوط عجفاء للمصير الإنساني المجرد بل من خلال نماذج حية لأفراد ومواقف. ولم يكن العالم الروائي انعكاسًا مرآويًا للحياة الحاضرة بل اكتشافًا لبنيتها الكلية ومسار حركتها الشاملة. والشمول والكلية هنا لا يعنيان الاتساع وحده بل الكثافة المتعمقة للحاضر في ثراء يفوق كما سبق القول خبرة الحياة المباشرة للقرد ويتجاوزها. وكانت الأشكال والتقنيات الروائية والقصصية تقوم بعملية الاختيار والتجريد والتعميم. فلم تكن طريقة تصوير الشخصيات والمواقف والحبكات تحاكي شخصيات فردية ومواقف وأفعالاً محددة، بل كانت تستعمل ذلك لتخلق عالمًا كليًا قائمًا بذاته، فصدق تفصيلة تناظر الواقع وكولاج من مواد فوتوغرافية كان أمرًا عرضيًا، أما المهم فكانت العلاقة العضوية الدينامية بالكل الذي يبدعه الروائي أو القصاص. إن خان الخليلي أو زقاق المدق لهما كحيين وجودهما المكتفي بذاته وهو وجود ليس مستمدًا من صدق المطابقة ودقتها بالقياس إلى الموقعين الحقيقيين. فقد كانت هناك في التصوير الأدبي تقنية تشبه المنظور المركزي في التصوير التشكيلي فأبدعت للحيين تمثيلاً موجدًا تسوده وجهة نظر مفردة تجعل القارئ يدرك أجزاء الحي في انطباع موحد يسري في العملويقوم على التزامن. ولكن هذه التقنية ليست "طبيعية" فنحن لا نرى الواقع في صورة مكان موحد متسق التنظيم. وقد ركزت الروايتان في تصوير الزمان على تقنية التدفق والتغير وتعدد الإمكانات، على الصيرورة والحركة الدائمة في الحاضر نحو مستقبل بعيد عن الاكتمال والتوقع. وفي الثلاثية أثناء حكم الأقليات في العهد الملكي في سنين يسميها محفوظ سنين الإرهاب والعهر من السياسيين والجلادين. وتصور السكرية القبض على شقيقين يساري وإسلامي في هذا الوقت. وقد انبثقت عند محفوظ البشائر الأولى للتقنيات الحداثية في تصوير الحاضر داخل التقليد الواقعي متمثلة في رواية اللص والكلاب (1961). ففي هذه الرواية يرصد السرد الحاضر منصهرًا في وعي البطل وهذا البطل في الرواية مستعار من حادثة شهيرة واقعية، حادث محمود أمين سليمان الذي لقبه الإعلام بالشهيد. وتترتب الوقائع تبعًا لمنطق شعور البطل لا لمنطقها الموضوعي. ومن بدايتها إلى نهايتها تنزع الرواية الألفة عن العالم الواقعي وعن قيمه المنافقة وتصور عالم إحباط لا إنساني.
وقد لقيت هذه الرواية استقبالين نقديين مختلفين. إن عبد القادر القط يكتب "اللص والكلاب رواية فاشلة" في أخبار اليوم (12/5/1961) فهو يأخذ عليها في المرحلة المسماة فلسفية أو فكرية تركيزها على عاضر البطل دون اكتمال صورته بربط ماضيه بحاضره. ويرى في ذلك إفسادًا للبناء الفني. ولكن فاطمة موسى ترى أن اللص والكلاب قفزة ونقطة تحول عند محفوظ في الخروج من محاولة نقل الحاضر بكل تفاصيله في الأعمال السابقة عليها والالتحاق بركب الرواية العالمية الحديثة باستعمال أرقى وأعقد الأدوات الفنية كالرمز والاستعارة. ومنطق هذه الرواية الصادقة عنده أهم من منطق الواقع الجزئي أو الكلي، فمنطقها قائم بذاته مستقل. وهي تعتبر اللص والكلاب أعلى مستوى من الثلاثية لاستخدامها أدوات فنية أرقى وأعقد (فاطمة موسى: نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية). ولكن نجيب محفوظ في تصويره للحاضر يتعارض مع نظرة واقعية ساذجة تصور أشياء ثابتة جامدة في وجودها السطحي، فهو يصور الواقع الحاضر في حركته وتطوره التاريخي وفي علاقاته الجوهرية وتناقضات القوى الفاعلة داخله. ويرى نقاد آخرون أن بطل اللص والكلاب رمز للإنسان في رحلته الأبدية الهادفة إلى تحقيق العدل. ويعتمد محفوظ في الطريق والشحاذ واللص والكلاب اعتمادًا كبيرًا على الحقيقة المصورة من داخل الشخصية بدل الاعتماد في الروايات المسماة واقعية على الحقيقة المصورة بأبعادها الخارجية المعروفة باستخدام تيار الوعي. ولا تناقض بين تصوير العالم الداخلي للشخصيات والواقعية. أليس العالم الداخلي واقعيًا؟ ولقد طور محفوظ أدوات روائية تتناول عملية ظهور ونمو وصراع الانفعالات والأفكار المختلقة داخل النفس الإنسانية. ومحفوظ لا يأخذ تيار وعي الأفراد المغتربين باعتباره الحقيقة الأساسية في حياتهم. إنه يستخدم هذا التيار لتوسيع مدى تصوير الحاضر الواقعي عمومًا، فهو واقع الفعل الاجتماعي والحلم وأحلام اليقظة والكوابيس والأمنيات المتخيلة. وهو يستخدم تيار الوعي مع تقنيات أخرى مثل تعدد وجهات النظر إلى الشخصية لكي لا يتحول تيار الوعي إلى ذاتية مغلقة.
لم تكن أفكار ومثل أفكار الطبقة الوسطى في الثلاثية مقصورة على أفراد طبقة واحدة. فقد أدخلت عناصر من أفكار ورؤى أنماط تاريخية عتيقة مثل الفلاحين من صغار الملاك وهم آباء سكان المدينة والحرفيين والتجار التقليديين. وكانت رؤية الطبقة الوسطى تبدو باعتبارها رؤية الأمة بأكملها في فترات المد الثوري أقناء ثورة 1919. وأثناء حركة مقاومة الديكتاتورية في النصف الأول من الثلاثينيات وفي تلك الفترات التي صورتها الروايات الواقعية كان الحاضر الوطني يبدو تاريخًا ما يزال في مرحلة الصنع؛ يمكن أن تصنعه الإرادة الوطنية. وتصور هذه الروايات سعد زغلول ومصطفى النحاس باعتبارهما استمرارًا لقيادة الحركة الوطنية منذ الهبة العرابية إلى الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد. كما كانت تعتبر الزعيمين الوفديين رمزين لحركة مصرية خالصة متحررة من الولاء للخلافة العثمانية المتشحة بالإسلام ومن الانصياع للأسرة المالكة غير المصرية. وهي تفسح الصفحات الطوال متعاطفة مع هذا الاتجاه في الحوارات المسهبة حول دور الوفد وكيل الأمة وممثل الوطن. ولا ينقل السرد معلومات تاريخية جاهزة رغم ما فيه من نزعة تسجيلية واضحة، بل يقدم استراتيجيات نصية تقوم على غلبة الحوار الدرامي وعلى صراعات الاستجابات الشخصية المتغايرة للمواقف السياسية، وعلى إبراز اللغة المشتركة التي تدرك المعاني المتحررة والقيم الجديدة متفاعلة ومصطدمة بأعراف الحياة اليومية والعالمية والسمات الشخصية. لقد تجسد انبثاق عقلانية سياسية للأمة المصرية بكاملها في شكل سردي تطوري قائم على الاستمرار التاريخي في بين القصرين وقصر الشوق وبداية السكرية. كما بلور السرد صورة الأمة المصرية حول قادة سياسيين يبتعثون ذكرياتها المجيدة ليؤكدوا هوية مصرية مفردة وعناصر كثيرة مشتركة بين الجميع متطلعة إلى الأمام. ولكن السرد المحفوظي لا يقدم للهوية المصرية جوهرًا عنصريًا أو طائفيًا، فهو يتتبع اختلاط عناصر متنوعة في مرجل التاريخ المشترك (آل شوكت بأصولهم التركية يصاهرون آل عبد الجواد على سبيل المثال). ويصور السرد الهوية المصرية والناس يضيفون إليها ويحذفون منها ويضفون عليها معاني جديدة من قبيل واجبات المرأة والأبناء ومعايير السلوك وقيم الحياة ونماذج الجمال والعدالة. فالأمة المصرية شخصية بارزة في الثلاثية كما كانت في روايات محفوظ التاريخية هي تضامن ضخم تشكل من الماضي والحاضر وآفاق المستقبل، بين استمرار قيم الفاعلية والإبداع والجماعية والانتماء والتضحية والتكريس. ولا يبدو الجانب القومي المصري ميلودراميًا صارخ اللون أو معتمدًا على نزعة صوفية تاريخية، فهو يتغلغل في حياة الأفراد والفئات وفي صلاتهم المادية والروحية، ويربطهم معًا في حركة قوية كأنه نسيج ضام.
وقد أسهمت روايات محفوظ منذ البداية (القاهرة الجديدة 1945 وخان الخليلي 1946 وزقاق المدق 1947 وبداية ونهاية 1949) في تحديد الأمة المصرية بتمثيلاتها الجمعية في خطاب روائي. لقد عملت رواياته على إيقاظ القراء المصريين والأمة المصرية على الوعي الذاتي وعلى إبراز استمرار تاريخي قد يكون متخيلاً مأمولاً في بعض نقاطه ويشكل تقليدًا قوميًا مثاليًا في النضال من أجل الحرية. وكانت أعمال محفوظ تصهر العالم المتخيل داخلها بالعالم الاجتماعي التاريخي خارجها في وحدة لا تنفصم عراها.
وقد تتبعت روايات محفوظ وقصصه عمومًا في رسمها للحاضر انقسام الأمة المصرية إلى أمتين بعد الاستقلال الشكلي، واستقطابًا من ناحية بين الطبقات الرجعية والطبقات الشعبية والديمقراطية من ناحية أخرى. وأبرزت السكرية حدود الدور الذي كان الوفد قادرًا على القيام به في فترة تصاعد القوى الشعبية خارج الطبقة الوسطى ومحاولتها اكتساب الوعي المستقل عن وعي تلك الطبقة الوسطى (عدلي كريم وهو مقابل سلامة موسى وتلامذته وأحمد عاكف وسوسن حماد ورفاقهما). ومن الواضح أن محفوظ لا يتبنى الاتجاهات اليسارية رغم تعاطفه مع نوايا ممثليها. ويقول محفوظ في مجلة الكاتب –يناير 1963- "لا أعتقد أن أحدًا قرأ الثلاثية دون أن تتركز عواطفه في شيء معين واضح". ومن المؤكد أن الشئ المعين الواضح هو البحث عن حل للمأساة الاجتماعية والإيمان بإرادة الحياة والناس واتباع مثلهم العليا حينما تكون صحيحة؛ فهذا هو معنى الثورة الأبدية. ولكن السرد لا يتبنى ما ينسب إلى اليسار من إلحاد فهو يضع على لسان الأخ المسلم كلمات لم يكن يرددها الإخوان عادة مثل الإلحاد سهل وهو حل هروبي من الواجبات التي ياتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس. ويفسح عالم محفوظ للدين والوجدان الديني والبحث عن المطلق والاتحاد به مكانًا مرموقًا.
بعد تلك الفترة في ثرثرة فوق النيل ( 1966) يصور محفوظ الانهزامية والهروبية في المجتمع المصري بكل طبقاته قبل هزيمة (1967) مباشرة. وتفضح رواية الكرنك (1974) الدولة البوليسية في الفترة الناصرية. أما ثرثرة فوق النيل فتدور في عوامة على النيل حيث تهرب مجموعة من الناس ينتمون إلى مستويات اجتماعية متعددة من واقع بعيد إلى تعاطي الحشيش وممارسة الجنس وترديد ترهات سياسية. وتتصاعد هروبيتهم وسلوكيات مذاقهم حتى تؤدي إلى مصرع فلاحة يصدمونها بسيارتهم، فلا يتوقفون لرؤية ما حدث لها ولا يذهبون إلى قسم الشرطة، بل يعودون سريعًا إلى العوامة. ويحكي محفوظ أن مسئولين بأعيانهم رأوا أيامها أن الرواية قد تشير إليهم وأنها خرقت الحدود المسموح به. وقد استشار عبد الناصر ثروت عكاشة حول السماح بالرواية فكان رأيه لصالحها في فترة كانت السجون فيها جزءًا من الواقع، وكان النظام يضرب بشدة أي معارضة أو نقد. وفي ميرامار (1967) توقع السرد الهزيمة كما لجأت قصص محفوظ القصيرة في تلك الفقرة لجوءًا عميقًا إلى الرمزية. أما الكرنك (1974) فقد فضحت التعذيب في المعتقلات وما يحدث للسياسيين المساجين في الفترة الناصرية. لذلك نشرت في سهولة نسبية أثناء فترة بداية انتقال السلطة إلى السادات، على الرغم من أن أحمد بهاء الدين رئيس تحرير الأهرام أيامها رفض مخطوطتها وأوصى بها كمال أبو المجد رئيس تحرير مجلة الشباب. كما أن رواية الحب تحت المطر (1973) نشرت مسلسلة في جريدة الشعب وليس في الأهرام. وقد وافق محفوظ بنفسه على حذف قسم كامل منها لكي يسمح بنشرها في كتاب (سامية محرز: كتاب مصريون بين التاريخ والقص المتخيل –بالإنجليزية). وبعد أربعة عقود من الوظيفة الحكومية نشر محفوظ روايته حضرة المحترم (1975). وتلك الرواية صورة ساخرة لعقلية الوظيفة الحكومية، فهي تراها وظيفة مقدسة مثل الدين. فالموظف المصري هو أقدم الموظفين الحكوميين في تاريخ المدنية. وقد يكون المواطن المثالي في أمم أخرى جنديًا أو سياسيًا أو صاحب حرفة أو بحارًا، ولكنه في مصر موظف الحكومة. وحتى الفراعنة أنفسهم كما يفكر فيهم الموظف لم يكونوا سوى موظفين عينتهم آلهة السماء لحكم وادي النيل بواسطة طقوس دينية وترتيبات إدارية واقتصادية وتنظيمية. وتتابع الرواية تاريح حياة رجل تستهلكه النيران المقدسة للخدمة العامة. ولكن محفوظ على العكس من هذا المحترم اعتبر الوظيفة دائمًا جزءًا من قدر غير مرحب به ولن ينقذه منه إلا تدخل مباشر من الله سبحانه. وكان يأمل أن يوقظه الله من وظيفته ..."أو يجعلني أفوز بورقة يانصيب"، وقد أرسل الله إليه بدلاً منها جائزة نوبل. وفي رأي محفوظ أنها جاءت متأخرة ويشعر في مفارقة أنها صار موظفًا عند جائزة نوبل. فقد كان يرى نفسه رجل أدب داخل نطاق النظام، كفرد هو جزء من المؤسسة. وهو في مقالاته لا يتخذ موقفًا مؤيدًا ضد جانب آخر وتظل تسود كلامه نزعة المحافظة. وحينما ينتقد شيئًا أو وضعًا يقول صراحة "لست واعظًا ولست مهوبًا لكي أقوم بالعمل السياسي بمعنى التخطيط والقيادة، وبعد 1952 أصبحنا جميعًا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي. وكان ذلك يشبه تمامًا وظيفة جديدة".
ويبدو محفوظ للكثيرين في أعماله مصورًا للعالم في حياد، ولكنه يقوم بذلك دون أن يكون محايدًا فعلاً كما في عمله أمام العرش (1983) وعنوانه الفرعي حوار مع حكام مصر من مينا إلى أنور السادات في محكمة يرأسها أوزوريس وإيزيس ويتوافد عليها الزعماء المصريون. وعلى الرغم من أن العمل يشبه محاكمة فلا حكم يصدر على أي من الحكام الذين ظهروا وظل العمل حوارًا، وحتى حينما يكشف خلال الحوار عن المناطق الحرجة في حكم كل زعيم فإن العمل يتجنب إصدار حكم ويصر على الحياد المميز لمحفوظ وقد جعل نجيب آتوم ممثل ثورة الفلاحين على الفراعنة وكبار الملاك والمهنة خالدًا بين الخالدين بلسان الثورة الدائمة. وآخر الزعماء الذين ظهروا في المحاكمة كان أنور السادات ويسأله ناصر "كيف امتلكت الجرأة للتخذ موقفًا عديم الاحترام لذكراي"، ويجيب السادات "لقد كنت مضطرًا لأن جوهر سياستي تأسس على تصحيح الأخطاء التي ورثتها من حكمك"، ويرد ناصر "ولكنني عهدتك مؤيدًا وصديقًا"، ويقول مصطفى النحاس للسادات "لقد أدهشني أن أسمع دعوتك للديمقراطية ثم اكتشفت أنك أردت ديمقراطية من خلالها تستطيع ممارسة سلطاتك الديكتاتورية". ويرد السادات "لقد أردت ديمقراطية تستطيع أن تحمي أخلاق القرية وحقوق كبير العائلة". وهنا يجيب زغلول "ولكن الديمقراطية الحقة تؤخذ ولا تعطى، لذا لا تبالغ في لومه". ويواصل مصطفى النحاس "لقد كان الشعب مقهورًا وبدأت علامات الحرب الأهلية والتطرف في الظهور, لقد تركت الأمور تسير كما لو لم تكن شغلاً من شواغلك، ثم انفجرت فجأة ووضعت الجميع في السجن بحيث أغضبت المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين وانتهى كل شيء بمأساة اغتيالك". وعند تلك النقطة قالت إيزيس "شكرًا لهذا الإبن. لقد عادت روح البلاد إلى الحياة واستعادت مصر استقلالها الكامل مثل الأيام قبل الغزو الفارسي، لقد ارتكب أخطاء مثل الآخرين ولكنه صنع من الصواب ما يفوق الكثيرين". وهكذا يقول أوزوريس "أرحب بك وسط أبناء مصر الخالدين، ستقدم فيما بعد إلى المحكمة التالية بتوصية رقيقة منا".
ولم يكف محفوظ عن تأريخ الحاضر في يوم قتل الزعيم (1985) رواية الانفتاح وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية على الطبقة الوسطى المصرية. وماذا عن حيادية محفوظ؟ فتبعًا له تظهر كل تعاطفاته وتضاداته وأحلامه وضياع أوهامه بطريقة أو بأخرى ضمن السرد الروائي نفسه وليس خارجه، فتجاوز ذلك يصير عنده صراخًا. وفي يوم قتل الزعيم يرتفع صوت علوان مثلاً معبرًا عن صوت جيله الذي يستمع إليه في مقهى ريش وسط القاهرة حيث تحول ناصر إلى رمز للآمال الضائعة، آمال الفقراء والمهمشين. وهناك أيضًا شلالات السخط تنقض على بطل النصر والسلام (السادات)، النصر الذي تكشف عن لعبة والسلام عن تسليم على مسمع من السياح الإسرائيليين حينما يقول السادات صديقي بيجن وصديقي كيسنجر: "ما هو إلا ممثل فاشل. الزي زي هتلر والفعل شارلي شابلن". ويقول الجد شيئًا مماثلاً: "ما هذا القرار يا رجل؟ تعلن ثورة تصحيح في 15 مايو ثم تصفيها في 5 سبتمبر، وتزج بالمصريين جميعًا في السجن، مسلمين وأقباطًا ورجال فكر. ولا يبقى حرًا إلا الانتهازيون. فلك الرحمة يا مصر". أي أننا لن نجد في يوم قتل الزعيم حيادًا بل صرخة لم يسمح محفوظ لنفسه بالنطق بها من قبل.
وفي روايات محفوظ لا تكون الحركة التاريخية تعبيرًا عن قوى خارجية مجردة توجه الأحداث من قصورها وقلاعها البعيدة، بل قد جرى استئناسها وتحويلها إلى تجارب شخصية. فالاستعمار الإنجليزي نصب معسكره أمام بيت السيد أحمد عبد الجواد، ورأينا الجنود الذين يطلقون الرصاص على المصريين ويقتلون المجاهدين باعتبارهم أدوات لقوة لا شخصية أفرادًا من البشر العاديين أفرغوا في الزي العسكري وسيقوا بعيدًا عن أهلهم وديارهم وطبيعتهم الإنسانية يلعبون مع كمال الطفل ويقدمون له الشوكولاتة ويرددون وراءه الأغاني ويغازل أحدهم مريم كما تعجب بشكله الجميل إحدى أخوات كمال. لقد كان هذا الطفل يعتبرهم أصدقاءه ويحبهم في تبدياتهم الفردية الشخصية. ومن السخف القول إن محفوظ يتخذ موقفًا محايدًا بين صداقة الإنجليز عند طفل لا يعي الكثير وبين شقيقه فهمي طالب الحقوق الذي يشارك في النضال ضدهم. فوجهة نظر الساذجة إلى سطح الأشياء يوظفها السرد للكشف عن مسألة جوهرية تتعلق بقهر الاستعمار لأفراد شعبه وتشويههم والزج بهم في مذبحة الحرب العالمية الأولى وفي الاعتداء على ىشعوب المستعمرات. فلم تكن الحركة الوطنية المصرية معادية للشعب البريطاني. وتصور الثلاثية في البداية حركة الأحداث باعتبارها جزءًا من الأحاديث المزجاة بين تضاعيف الحياة اليومية وإن اعتمج السرد التركيز على أحداث فاصلة. وحينما يقدم السرد سعد زغلول في الثلاثية أو في ميرامار لا ينحت له في جميع الأحوال تمثالاً مهيبًا، فيوجد حوله خلافات شتى. وهو مثل كل حدث سياسي في عالم محفوظ يصور منكسرًا على وعي الشخصيات ذوات التركيب النفسي والسياسي المتباين. إلا أن التجربة الجمعية "للعالم العمومي" لا تنكشف بكل بساطة من خلال التجارب الذاتية الخاصة فتقنيات السرد تدل من حيث التنسيق والمزاوجة بين وجهات النظر الخاصة المختلفة والوزن النسبي لكل منها وإحاطتها بالتأكيد أو الهكم على أن هناك فجوة قد تضيق وقد تتسع بين الوعي الفردي والواقع التاريخي. فهذا الواقع كما توحي الروايات والقصص بمساره محصلة صراع بين قوى لا شخصية وقد يكون مغايرًا لمجموع خبرات وعي الأفراد. وليس الواقع ببساطة ما يسجله أو يستجيب له وعي شخصيات الروايات أو القصص المتباين. ويكشف مسار الأحداث في الأعمال الأدبية أن لذلك الحاضر التاريخي إيقاع حركته المستقل عن إرادة الأفراد، فالأوضاع تتغير ويتغير معها الناس فيكون هناك تمايز رغم التداخل بين الزمن التاريخي وأزمان السير الشخصية، كما أن المسائل المثارة تتخطى حدود المساحة الشخصية ولا يمكن احتواؤها داخل تاريخ علاقات الشخصيات فيما بينها، فللروائي أو القاص منظور ثابت حافل بإصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات، وهو يخرج عنها ليعبر عن طبيعة حاضر الفترة التاريخية التي كانت تمر بها مصر أما بالتأكيد السافر أو بالافتراض الضمني، باللجوء إلى الأشياء التي لا نزاع حولها في التاريخ والتي يتفق عليها الجميع بما فيهم القراء (من قبيل الموقف من الاستعمار والاحتلال والأحكام العرفية والديكتاتورية وتسخير الناس وإطلاق الرصاص على المظاهرات السلمية)، وهو منظور يمكن تصنيفه بأنه ليبرالي وطني. ولا تشير الروايات من قريب أو بعيد إلى أن التاريخ قصة متخيلة، فهي ترسي أسس واقعيتها في أحداث تفصيلية تاريخية محددة. ومحفوظ لا يقدم روايات وقصصًا تاريخية ذات تصميم نظري جامد، بل يحاول أن ينفذ إلى قلب العملية التاريخية من خلال التوتر بين وجود الإنسان على المستوى الخاص ووجوده على المستوى العام. فلكل فرد تاريخ وتشكله الأحداث وهو يؤثر في الأحداث سلبًا وإيجابًا فهناك تفاعل بين توجيه التاريخ العام للحيوات الفردية في الأعمال الأدبية وإسهامها في إيقاع مساره بالمشاركة الفعلية أو مجرد التعاطف أو باللامبالاة أو بركوب الموجة الرابحة في فترة تهادن وسلبية أو بمناوءة الحركة الصاعدة. ولا تقدم الأعمال المحفوظية موادًا متحفية بل تبرز فهمًا لتداخل الماضي والحاضر لتأثير الماضي الجمعي وعلاقته بما يحدث اليوم في الحاضر. فهي تصور طرائق الحياة والحالات الذهنية لفترات متعاقبة راصدة خطوطًا بيانية موضوعية يقدمها الراوي من وجهة نظر الحاضر عند كتابة العمل، ناسجة العناصر الواقعية والإشكالية معًا. فالتحرير من خلال التاريخ ينطوي في أعمال محفوظ على المفارقة ويتضمن الكسب مع الخسارة وواقعيته أكثر من أن تكون طريقة خاصة في محاكاة الحاضر فهي تعني التعرف والتفهم والتقييم من خلال المشاركة الإنسانية في عالم فني من المعاني والقيم المقتسمة. إن عالم الحركة والتغير والسرد التاريخي في أعمال محفوظ يرفض أن تكون حركة التاريخ فوضوية بلا معنى أو أن تكون عبثية بلا منطق. وزمنه الروائي القصصي التاريخي يقف طويلاً عند اللحظات الحاسمة في صعود وهبوط عصر ما وليس تجريدًا فكريًا عن مسار خطي مستقيم يسير إلى الأمام، بل باعتباره متغلغلاً في أعماق شخصيات حية. وأهم لحظات التاريخ المصري تحدد سلوك الشخصيات بوصفها التاريخي وبوصفها دلالات لمواقف اجتماعية من الأحداث.
ففي حديث الصباح والمساء (1987) والتي تتناول الثورة العرابية نجد شخصية في الرواية لا تحدد موقفها من الثورة انطلاقًا من موقف سياسي أو وطني ولكن من زاوية الأموال والأملاك. فهي تؤيد الثورة حينما تكون منتصرة وحينما فشلت أعلنت ولاءها للخديوي. ويعلن وريث تلك الشخصية عقب ثورة 1919 انحيازه للملك، لا لسعد ولا عدلي، فالإنجليز في تقديره لن يغادروا مصر كما أن مصر لا تستطيع أن تعيش بغير الانجليز. أي أن محفوظ قد قدم لونًا من التأريخ الفني لأهم نقاط الحاضر الممتد من مجيء الحملة الفرنسية حتى مصرع السادات، وهذا اللون لم يعتمد في جميع الأحوال على أحداث بارزة أو تجريدات بل تنسجه شخصيات من لحم ودم تأثرت بنقاط تحول فاصلة. وهناك شخصيات ثورية بالمعنى الإيجابي تحمست للثورة العرابية وناصرتها بالقلب واللسان وتعرضت بعد هزيمتها للسجن والغربة، ولكنها ذابت في قلب التاريخ وتخللت نسيجه واعتبرت في الضمير الشعبي صاحبة بطولة تضاف في هذا الوجدان إلى عنتره والهلالي وآل البيت (فاروق عبد القادر: أوراق من الرماد والجمر). ومن أحفاد هذه الشخصية نقرأ عن شباب وطنيين في ثورة 1919 ومن ضباط يوليو 1952، وعن شهداء في المعارك حتى أكتوبر 1973. ومن الملاحظ أن نجيب محفوظ في جميع أعماله ظل سرده يتعاطف مع قيادة سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس للحركة الوطنية والديمقراطية. أما قرينة الشخصية الثورية الحقة فهي أيضًا ثورية بطريقتها المتميزة لأنها موسوعة ملمة بالغيبيات والخوارق والطب الشعبي وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت والأرواح التي تسكن القطط والطيور والزواحف، والأحلام وتأويلها وقراءة الطالع وبركات الأديرة والقديسين والقديسات. فهي الوجدان الشعبي الحافل بكل الموروث وهذا الوجدان انطبعت عليه أهم أحداث الثورة العرابية وثورة 19 فسجلت هذه القرينة في قاموسها الخالد وليًا جديدًا اسمه سعد زغلول وبعد ذلك وليًا آخر اسمه مصطفى النحاس. وآخر الأولياء الذين عاصرتهم هو جمال عبد الناصر ولكنه رفع أحفادًا لها حتى السماء وخفض أعزة منهم إلى الحضيض والسجن فراوحت بين الدعاء له والدعاء عليه. و حديث الصباح والمساء رواية أجيال مثل الثلاثية والباقي من الزمن ساعة وملحمة الحرافيش. وهي تتناول صباح التاريخ المصري الحديث ومساءه، الحياة بكل مجالاتها وتناقضاتها وحركتها إلى الأمام.
ويقال إن بعض أعمال محفوظ بعد الحرافيش حاولت تسجيل أحداث معاصرة وأبدت رأيه فيها ولكنها تنازلت في بعض منها عن الإحكام في البناء وتكثيف الصور وشاعرية اللغة وإن أسهبت في سرد مشاكل حاضرها مثل عصر الحب والباقي من الزمن ساعة. وبعضها الآخر معارضة أدبية لعمل من أعمال التراث مشبعة بنظرة إلى الحاضر وتحولاته: ليالي ألف ليلة وليلة (1982) ورحلة ابن فطومة (1983). وابن فطومة لا يحدد موطنه فأي مدينة من دار الإسلام تصلح موطنًا له وقد تعرض لتجارب مزلزلة فرجال الدين خانوه بأن جعلوا الدين لا يتعدى الجوامع تاركين المؤمنين فرائس الفقر والجهل، وخانته أمه لأنها قبلت الزواج من معلمه وخانته حبيبته فتزوجت من حاجب الوالي. وحينما بدا له كل شيء كالحًا تخايل له حلم الرحلة في طلب الحكمة خلاصًا وحيدًا. وكانت عيناه في رحلاته مشدودتين إلى نظام الحكم والسياسة من جهة وإلى العلاقات بين الرجال والنساء من جهة أخرى. وهنا تسقط رحلته على الماضي نظم الحاضر، الصراع بين رأسمالية الغرب واشتراكية الشرق، ويبدو أن الرحالة يميل إلى نظام الغرب الديمقراطي دون تحفظ من جانب محفوظ، فالشرق عدواني يهاجم جنوده الغرب.
وقد واصل محفوظ رصد الحاضر المصري المتغير بعد هزيمة 1967 وهي هزيمة نظام وسياسة وقادة ومؤسسات تركت أثرًا مستمرًا في إبداع محفوظ. ففي قشتمر (1989) يقول الراوي "غلب علينا الاستسلام للواقع الذي بدا لنا هنيئًا إذ تخلصنا من كثير من رواسب الماضي واجتاحنا النعاس والحلم حتى فزعنا على صوت انفجار كالبركان في 5 يونيو". وقد أحدث ذلك عواطف متناقضة وكانت القصة القصيرة هي الشكل الفني الملائم. فبعد الهزيمة اجتاز محفوظ أزمة كالتي دفعته للتوقف سبع سنوات كاملة بعد 1952، فصار يبدأ كتابة القصة القصيرة دون أن يعرف كيف تنتهي، ولم تعد لديه تخطيطات لأعماله كما كان الأمر في الماضي. فمن يستطيع مثل هذا التخطيط؟ فالانفعال اليومي هو عذابه وعزاؤه. وهل يستطيع أن يثبت ما في الخارج لكي يطيل النظر إليه ثم يتناوله بالمعايشة والتحليل لأن الرواية عند محفوظ في حاجة إلى رؤية متكاملة تضم الذات والموضوع والماضي والحاضر وتستشرف المستقبل. وهذا ما لا يستطيعه في هذا الوقت (حديث محفوظ مع الناقد الراحل فاروق عبد القادر في روز اليوسف -29/6/1970). ويرى فاروق عبد القادر أن محفوظ يكشف عن التزامه الحار بقضايا حاضر وطنه وهموم أهله ويعرض حيرته ودهشته وفجيعته وتشتته واضطراب خطاه، ولكنه لم يغفل لحظة واحدة عن أن بلاده تخوض معركة شاملة. فملمح قصصه القصيرة الأساسي عنده في تلك الفترة هو الصراع الذي يشمل العالم كله. ويرى الناقد رشيد العناني أن مجموعة تحت المظلة القصصية تمثل خروجًا جوهريًا على طريقة محفوظ المعتادة في إعادة خلق الحاضر الخارجي داخل قصصه حتى وقت صدورها. فالعالم في هذه المجموعة عند رشيد العناني عالم لا ارتباط فيه بين النتائج والمقدمات، ولا تضمن لغته إطلاقًا القدرة على التواصل، وهو أيضًا عالم دون حس بالغرض يسوده العنف والعقم والفوضى. ويصل الناقد من ذلك إلى أنه عالم مصور بواسطة أفضل تقاليد أدب اللامعقول. وقد يختلف آخرون مع أن تحت المظلة قفزة مباغتة خارج المسار القصصي السابق لنجيب محفوظ، فقصة همس الجنون كانت تشير إلى حالة العقل المتوائم في ركود وسلبية مع منطق لا معقول يسود الحاضر أيامها وإلى عناصر الجنون في هذا الحاضر. كما أن قصة قوس قزح من مجموعة بيت سيء السمعة (1965) تصور بالمثل ما في الآلية المنتظمة التي يطلق عليها أنها عاقلة وإن استهدفت التسلق من دواعي اللامعقولية والجنون. أما المنظر في قصة تحت المظلة فقد أوشكت الرتابة أن تجمده وهو مثل الأحداث التي تقع في الطريق لا يسير وفق المنطق اليومي "المعقول" المعتاد ولا وفق الصورة التي تقدمها أجهزة الإعلام للواقع. فلقطة مطاردة لص والانهيال بالضربات عليه حتى يوشك على الموت تنتهي بإصابة المطاردين بالإعياء وبلهاثهم، ثم الانغماس في مناقشة معه فيبدو اللص كأنه يخطب. أهكذا تعبر هذه اللقطة اللامعقولة عن منطق تعامل المطارِدين مع اللصوص في واقع ما قبل الهزيمة؟ فهل كانت حجج الصصوص تبدو لهم جديرة بالإصغاء أم كانوا مستعدين للمصالحة مع اللصوص؟ ويظل الشركي المدافع عن قانون النظام بلا حراك، كما أن النظارة لا يبرحون مكانهم خشية المطر. فهل كانت اللامبالاة هي التي تطبع الموقف من كوارث الصراع الاجتماعي والسياسي الحاد الدامي في حاضر تلك الفترة؟ ويخلع اللص ملابسه ويتجرد عاريًا ويرقص في رشاقة ومطاردوه يصفقون له تصفيقات إيقاعية. فهل كان الحاضر السياسي في تلك الفترة عروضًا تمثيلية غرائبية للأوضاع المجنونة؟ ولكن لقطات لا معقولة أخرى يمكن اعتبارها أجزاء معقولة في مكانها المعتاد من المركب الكلي للحاضر الواقعي المرفوض وهي تشويهات منطقية بالقياس إلى هذا السياق الشامل للحياة الاجتماعية السياسية. وفي تصوير فترات الهزيمة والتمزق والإحباط استخدمت قصة تحت المظلة تقنية المونتاج السينمائي، أي تجاور لقطات متشظية مبتورة غير متصلة لتؤدي إلى نقل الإحساس بتدمير الكلية الإنسانية في حاضر تلك الفقرات. ولكن هذا المونتاج الذي ربط بين لقطات متغايرة متباينة يحدث في المتلقي صدمة حادة تدفعه إلى استبصار رافض للمنطق المختل دون لجوء من جانب الكاتب المبدع إلى نزعة اللامعقول.
إن عالم محفوظ في قصصه ورواياته التي تكتشف الحاضر باعتباره حلقة من تاريخ لا يعتبر التاريخ كابوسًا يحاول الاستيقاظ منه، فهو عالم يرفض اليأس من المصير الإنساني ولا يعتبر التاريخ مخلفات وبقايا أثرية، كما لا يعتبر الحاضر وقائع متناثرة في البيوت والشوارع. إن هذا العالم على العكس من ذلك يكتشف التطور الاجتماعي والسيكولوجي والعقلي للإنسان في مصر.