أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 3- تطور الفكر الفلسفي والحضارة - نبذة تاريخية عن التطور الروحي والذهني - 1-13















المزيد.....



من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 3- تطور الفكر الفلسفي والحضارة - نبذة تاريخية عن التطور الروحي والذهني - 1-13


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1473 - 2006 / 2 / 26 - 08:09
المحور: القضية الكردية
    


رابعاًـ سقراط وعصر الفلسفة الاجتماعية
امتدت حضارة الرق الأولى التي كانت مركزها ميزوبوتاميا ومصر من الحدود الشرقية لآسيا وحتى الحدود الغربية، وبدأت مرحلة نهوض نظام الرق عند الإغريق والرومان اعتماداً على هذا الميراث الغني، وان الحديد كتقنية الآن الأساسي يساهم في انتشار الرفاه ويمهد السبيل لاتساع الطبقة الوسطى ويرتفع مستوى الاتصالات والقراءة والكتابة، وامتلك الناس الشروط التي تشعرهم بالأمان، وكانت تقوم هناك رحلات بكل سهولة من مدينة SARD في الأناضول الغربية إلى عاصمة الامبراطورية الفارسية Perepolis. وكان باستطاعتهم أن يتلقوا من كهنة مصر وبابل التراكمات الإيديولوجية والثقافية للعصر الأول، وكان الشرق قبلة لتلقي الثقافة والعلم مثلما الغرب في أيامنا هذه، فقد كانت بابل ومصر مركزاً للعلم والثقافة الرفيعة، والذين نقلوا الإيديولوجية إلى الإغريق والرومان، هم مرشحو الكهنة والمتصوفون الذين تلقوا تعاليمهم في هذين المركزين الإغريق والرومان. فقد كان نمط الإنتاج الشرقي وإنتاجاته الإيديولوجية تشهد تطوراً مكثفاً في القرن العاشر قبل الميلاد، ويقدم تجاربه العملية ويعلم نظام الكتابة "الأبجدية"، باختصار لعبت شبه الجزيرتين الأوروبيتين القريبتين من آسيا، الإغريق وإيطاليا دور الجسر في نقل هذه القيم، فقد كانتا ساحتين مفتوحتين جديدتين على الحضارة.
ولم يكن باستطاعة الميثولوجية السومرية والمصرية وممارستهما الدينية التي وصلت إلى مستوى الإيديولوجية أن تقفا بعيدتين عن عملية النقل هذه، فقد واصلتا لعب دورهما الريادي، ويتطور اللاهوت الإغريقي كمشتق محرّف من الميثولوجيا السومرية، ونظراً لأنه كان تحت التأثير المستمر للنسخة المصرية والفينيقية والكريتية، لم يستطع التخلص من التقليد بشكل تام، ولكنه كان يمررها بمرحلة تصيّر مكثفة لأجل احتوائها، فقد كان الإله الإغريقي "زيوس" أشبه بنسخة عن الرب البابلي "مردوخ" وكان " كرونوس" تقليداً لـ" أنكي”. طبعاً عندما يكون التنقيل من النقطة الأساسية، فإن ما هو بعده سيتواصل دون انقطاع، وكل شيء سيأتي متشابهاً، وتم تغيير كافة المصطلحات والأسماء الدينية والميثولوجية للمجتمع النيوليثي ومجتمع الطبقي العبودي، ومنحت مصطلحات وأسماء محلية، لم يكن يذكر في الميثولوجيا الإغريقية حتى اسم واحد حتى عام 1500 ق.م، إلا انه تم خلق أغنى ميثولوجيا مع هذه التغيرات، وأن التحكم بالقيم المعنوية والتي هي أهم من القيم المادية، لهو أمر مهم ويتم النجاح فيه.
إن الميثولوجيا الإغريقية التي يتم العمل لإقرارها بأنها أفخم ميثولوجيا مبدعة في العالم، يفهم يوماً بعد يوم بأنها ما هي إلا ثاني أو ثالث نسخة للميثولوجيا السومرية، هذه هي النتيجة التي توصلت إليها الأبحاث التي جرت في السنوات الأخيرة لإثبات ذلك. فإذا كان التاريخ عبارة عن نهر يجري، فقد تم في تلك السنين مد أحد فروعه إلى هنا، وكما تمت تغذية هذه التربة بذاك النهر الحيوي، فقد تم ربط الأنهار الصغيرة والبحيرات الموجودة هناك بالمجرى الرئيسي، ومثل الميثولوجيا الإغريقية، فإن التطور الفلسفي الذي خرج منها استفاد من التراكمات العلمية التي حملها نهر هذه الحضارة الى هنا وسيبدأ بعصره .
وعندما بدأ الفلاسفة الإغريق بعصر الفلسفة، فإنهم اعتمدوا على مصدر التراكم الكبير للمجتمع الطبقي ومصدر ثقافة العصر النيوليثي الذي كان يترسخ منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد وينتشر موجة موجة. أما نظام الفكر الغربي فإنه يستصغر هذه الحقيقة إلى أبعد حدود، إذ يعتمد الوجه الإمبريالي للحضارة الغربية على مبدأ "التمركز حول الذات" الذي يتبعه في كل شيء من أجل خلق أساس شرعي له لا يمكن هزه، وعندما تظهر عظمة القيم الحضارية وثقافات الشعوب الأخرى، سيضطرون لقبول بأنهم قدموا إسهاما ريادياً للنهر الحضاري الكبير خلال القرون الخمسة الماضية. ولقد كان الإغريق يظهرون هذا المفهوم الشوفيني منذ بداية العصر الكلاسيكي، لقد كانت كافة الشعوب التي تعيش خارج نطاق حضارة شبه الجزيرة هي عبارة عن شعوب بربرية ومتوحشة، علماً بأنهم كانوا كما بين التاريخ عبارة عن "الطفل الذي يطمح الى كل شيء"، حيث كانوا عبارة عن شبه رعاة بدائيين، ولم يكونوا قد شيدوا حتى كوخاً من الحجارة عندما أخذوا فن العمارة وثقافة المعابد من مصر وصناعة السفن من الفينيقين، ووسائل الإنتاج والزراعة من الهلال الذهبي، وصناعة الحديد من "Frigya " والميثولوجيا واللاهوت من السومريين، وكانت أوروبا وقتئذ في مرحلة المجتمع المتوحش. ويعد تحريف التاريخ سبباً أساسياً لكل الآراء وللمواقف الخاطئة ويؤدي إلى ظلم كبير، ان المفهوم الصحيح للتاريخ يعتبر أساس لا يمكن التخلي عنه من أجل تطوير نظام عالمي عادل، من شأنه تطوير مفهوم صحيح للتاريخ، وإذا كنا سنشعر بالثقة والقانون والعدالة الأوروبية، فيجب وقبل كل شيء أن يتم اسناد ذلك إلى مفهوم تاريخي يعطى حقه بشكل صحيح.
وبالرغم من هذه الحقيقة الحضارية، فمن المؤكد أن الإغريق طوروا حضارة عريقة ومبدعة، وعندما دخلت شبه الجزيرة الإغريقية وجيرانها الأقرب مثل غربي الأناضول وجنوب إيطاليا ومقدونيا في الشمال، في اكبر تجربة حضارية للتاريخ بعد ميزوبوتاميا، فإنهم لم يكتفوا بالمواقف الميثولوجية والإيديولوجية واللاهوتية التي كانت قد استلهمت من الأشكال السابقة، ان الإيديولوجية السومرية التي لعبت كظاهرة دوراً هاماً اكثر من الإقليم والجغرافيا في ذلك، اكتسبت بتجاوزها التقاليد الزرادشتية في ميديا وتقاليد بوذا في الهند أشكالاً أقرب إلى الفلسفة، إن فلاسفة شبه الجزيرة الأوائل تالس وفيثاغورث والذين امضوا سنين طويلة في مصر وميزوبوتاميا، وصلوا في القرن السادس قبل الميلاد الى مستوى ناضج واستطاعوا نقل تجديدات كثيرة ونشرها. كما يحدث في أيامنا هذه حين يعمل شباب الدول النامية على نشر أفكار الحضارة الأوروبية في بلدانهم، كان المرشحون الفلاسفة الأوائل يمضون معظم سنوات شبابهم وخاصة في بابل التي كانت تعد مركز الثقافة في تلك المرحلة، ويعودون إلى بلادهم بعد تجارب عملية طويلة، ويتعلمون أسس العلوم المتطورة في تلك الفترة وفي مقدمتها الرياضيات والطب، وبعد أن يتعلموا الأسس الميثولوجية والتيولوجية "اللاهوتية" على أكمل وجه؛ كانوا يضعون أسس الفكر الإغريقي في العصر الكلاسيكي التاريخي.
هذه هي خصائص انتشار ديالكتيك الفكر في تلك المرحلة، دع جانباً بدء هذا الفكر من الصفر، فإنهم كانوا يوصلون هذه الأفكار في مرحلة ناضجة جداً وينقلونها بعدما يجرون عليها الإصلاحات؛ وبعبارة أحدث، كان يتم الاقتباس حسب الشروط المجسدة للبلد ويجري العمل من أجل جعلها أكثر ملاءمة ويطبقونها.
وإذا ما تناولنا المراحل الفكرية التي لعبت دوراً تنويرياً عند الإغريق وبشكل متسلسل سنجد مايلي :
أ ـ إن المرحلة الأولى التي تقبل على انها بدأت مع "هوميروس وهيسيودوس"، كانت مرحلة شرح للاهوت والميثولوجية الإغريقية، ويعد هوميروس شاعر العصر الكلاسيكي الكبير بمعنى أنه كان يمثل مرحلة الشعر في القرن العاشر قبل الميلاد، حيث كان يعكس شعراً فخماً. إن هذه المرحلة التاريخية الأخيرة هي الأعوام التي طبعتها هذه الأعمال " Veda" في الهند، و"Avesta" في إيران، وأسطورة الخلق البابلي انوما اليش " Ehumaelish" في ميزوبوتاميا، و"يهوا والوهيم" في كنعان، وبقولٍ آخر " التوراة " بطابعها كتابياً وشفوياً، واللغة في جميعها هي لغة الشعر، حيث يشكل كل ذلك أساطير وملاحم تأسيس السلالات والكونفدراسيونات العشائرية والقبلية، ويمكن أن نطلق عليها أيضاً تسمية أساطير وملاحم البطولة التي تعكس رغبات وإرادة الطبقات والأشخاص الذين جعلوا من أنفسهم أنصاف الآلهة.
إن ما قدمه هوميروس من توضيحات هو سرد مقلد كان متبعاً في جغرافية الشرق الاوسط قبل ذلك بكثير، وتطبيق لامع للمرحلة البطولية الإغريقية؛ وهو سرد وقائع سقوط مدينة طروادة التي عاشت فيما بين 1800ـ 1200 ق .م، ليتم فتح باب الأناضول أمام الغزوات البربرية المعاكسة للأكاديين والدوريين بلغة ملحمية، إن تاريخ مدينة طروادة التي تقع على ضفة الأناضول من مضيق "جناقلا" يحظى بأهمية تاريخية بالغة، إذ لعبت هذه المدينة منذ عام 4000 ق.م على الأقل دوراً هاماً باعتبارها البوابة الأساسية لنقل القيم الحضارية والثقافية لميزوبوتاميا والأناضول إلى شبه جزيرة الإغريق والبلقان، حيث تقوم بتغذية الإغريق والبلقان وتتحكم بهما، وبذلك تعيش طروادة عصرها الذهبي اللامع، ولهذا السبب فإن سقوط طروادة تسبب في قلب التاريخ الطويل المستمر رأساً على عقب "وإلياذة" هوميروس التي جاءت في المرتبة الثانية من الأهمية بعد ملحمة كَلكَامش، تسرد عشر سنين من هذا التاريخ العظيم من خلال حرب وقعت بعد القرن الثاني عشر ق.م. ونظراً لأن الحرب ضد مقاومة الشعب والغزوات في تلك المرحلة أصبحت موضوعاً لكثير من الملاحم مما جعلت من الإلياذة قيمة كبيرة على المستوى العالمي، ويتم التحدث بمبالغة وتضخيم عن الدور غير العادي الذي يلعبه رؤساء القبائل في المرحلة البربرية أو بعبارة أخرى في اتحادات أنماط الفيدرالية التي كانت تسيّر بشكل صعب ومؤقت للوحدات الاثنية قبل أن تتحول إلى دولة، وهناك حاجة إلى ذلك، لانه لولا وجود هذه القوة الكثيفة لما سنحت لهم في مرحلة بعد ذلك الفرصة في إقامة مجتمعات طبقية أو التحول إلى دولة، وهذا السرد الملحمي القوي الذي لازال يحيا في أذهان كل الشعب يعكس اهمية وصعوبات الوصول الى قوة حضارية ويعبر عن التحول العصري التاريخي.
هذه هي القيمة التاريخية للإلياذة التي وصلت إلى يومنا بشكلها المدوّن. عندما يتحدث هوميروس عن حلم وحدة "هلين" للإغريق، كان يدرك تماماً القيمة الكبرى لما تم تحقيقه، فكما هو معلوم بعد سقوط مدينة طروادة اعتباراً من 1200 ق.م، بدأت مرحلة الانتشار المعاكس ابتداءً من الأناضول الغربية لما يسمى بـ "أقوام البحر"، وأثناء تحول الأناضول الغربية إلى "ايونيا"، انتشرت هذه الموجة إلى ميزوبوتاميا وشرق البحر المتوسط وجنوبه وجنوب إيطاليا إلى أن وصلت سواحل البحر الأسود، مقدونيا.
تعد الملحمة الثانية الكبيرة لهوميروس "الأوديسة"، سرداً لامعاً رائعاً للتوسع الذي حدث عن طريق البحر؛ وتحكي قصة الغزو والمغامرة البحرية، ونظراً لأنها تنقل إلينا توسعاً يجري عن طريق البحر لأول مرة في التاريخ كتابياً إلى يومنا هذا، فهي تحظى بأهمية بالغة من حيث نوعيتها الوثائقية، وعكسها اللغة الأدبية لميثولوجيا المرحلة، ولانها ذات تعبير يشبه جولة كَلكَامش في المياه الجوفية للبحث عن "عشب الخلود" وهذا ما يعطيها قيمة كبيرة على صعيد العلاقة بالتقاليد.
ان "تيولوجية" هيسيودوس أيضاً استلهمت من الميثولوجيا التي تم تكييفها حسب شروط المرحلة وكتبت في أعوام 800 ق.م. إن ما أخذ عبر الأناضول وخاصة على أساس نسخة الحثيين للميثولوجيا السومرية، تستخدم في تأليه مرحلة البطولة الإغريقية، لقد تم تحويل كافة العمليات البطولية لهذه المرحلة التاريخية وكذلك الجهود المبذولة التي توالت بعدها لخلق دولة قائمة على أساس السلالات الحاكمة باستلهامها الميثولوجيا السومرية والمصرية إلى حالة الدين أي قوالب الإيمان التي ترغم الجميع على طاعتها، وذلك عن طريق تحولها إلى أيديولوجية " فانيتون" وحدت آلهة صغيرة.
إن الجهود المبذولة لخلق دين يعتمد على مفهوم الرب الأكبر الذي سمي بـ "تشوب" عند الحثيين والهوريين و"بعل" عند الفينيقيين و"يهوا والوهيم" عند العبرانيين و"براهما" عند الهنود و"أهورا ـ مزدا"عند الإيرانيين، أدت مؤخراً عند الإغريقيين إلى تشكيل مجمع الإله " Pantheon" بقيادة "زيوس" ويطلق عليهم أسم آلهة "أوليمبيا". يقف وراء هذا التحول تأسيس البنية الفوقية الأيديولوجية للانتقال من وحدات العرق والبنية الاثنية للمجتمع الذي مر من مرحلة البطولة إلى وحدات سياسية للتحول إلى دولة. أي أن ضرورة الوحدة السياسية وخلقها بالعنف تستند الى المبرر الإيديولوجي. فخلق الإيديولوجية هو أمر ضروري لكل تنظيم سياسي جديد.
يمكننا رؤية هذه الفترة في كل مرحلة تاريخية ولدى كل مجتمع متطور. وتكمن في أساس كل ذلك الجهود المبذولة في سبيل تحقيق التحول إلى دولة والفرز الطبقي والتحول الاجتماعي، الذي تطور تقريباً فيما بين4000 ـ3000 ق.م في مرحلة البطولة السومرية. ونتيجة لهذه الجهود، فإن التقليد على شكل كسب الهوية للتصورات "آن" إله السماء و"إنليل" إله الهواء و "نينبورساغ وبعدها إنانا وعشتار" إلهة الجبل وثم "أنكي" الذي أصبح إلهاً للماء والأرض، والتي تعتمد أساساً على الابداعات الرائعة للكهنة السومريين. وهذه التجارب السومرية لعبت دوراً رئيساً في إكساب كافة "التيولوجيا" أشكالا وأصبحت أساسا لها حتى يومنا هذا. حيث تضيف كل منطقة إقليمية تقاليدها الثقافية الى هذه التجارب وتجري التحولات التي ترتأيها لتتناسب معها. وهيسيودوس قام بذلك بشكل يتناسب مع شبه الجزيرة الإغريقية. وان كافة الأبحاث الجارية حول هذا الموضوع استطاعت ان تبني في الفكر وبشكل علمي العلاقة بين "انكي" يساوي "كرونوس"، "إن" يساوي "أورانوس"، "مردوخ" يساوي " زيوس". تكتسب "تيولوجية" "لاهوت" هيسيودوس أهمية كبيرة، لأنها متناسقة وأصيلة ووصلت مكتوبة إلى يومنا هذا، وتحضير جزء مهم من تقاليد الثقافة البشرية على هذا الأساس لا يمكن استصغار شأنها، ولكن لا يمكن الوصول إلى نتائج صحيحة دون معرفة منبعها. إن وضع هذا التيار الثقافي التقليدي أمامنا والشروع بتحليله يحمل أهمية كبيرة خاصة أثناء دراسة تشكل الأديان التوحيدية.
ب ـ لقد كانت ملاحم البطولة والشروحات التيولوجية تظهر بشكل جيد عدم كفاءاتها اعتباراً من القرن السادس قبل الميلاد، وان القوالب الأيديولوجية في مرحلة الرق البدائية، لم تكن كافية من أجل استمرارية حضارة الرق التي كانت تشهد الأزمات ولم تجد لها مخرجاً، لقد وجدوا في تلك المرحلة أنهم بحاجة ماسة إلى انفجار إيديولوجي جديد وإلى مخرج روحي وذهني، ولقد ازدادت شيئاً فشيئاً الحاجة لتقديم تفسيرات جديدة عن الوقائع في الطبيعة والمجتمع من جهة، ولا يجاد حلول للفوضى الاجتماعية من جهة أخرى.
لقد تم تعميم الإصلاح الذي قام به كل من بوذا وزرادشت خاصة على المستوى الأخلاقي، وأصبح بحاجة لعكسه على العلاقات الاجتماعية وعلى كافة نواحي الطبيعة. وان وفرت المدن التي أنشأت حديثاً عند الإغريق وجنوب إيطاليا والأناضول الغربية، أجواءً مثاليةً لأجل ذلك التوجه، إن القمع الذي كانت تمارسه الدولة المركزية في سومر ومصر، والثقافة الدينية بعيدان هنا عن الترسيخ على أساس قوي. ومثلما تظهر العبودية الإغريقية الجديدة احتياجها إلى منظرين إيديولوجيين يخدمونها، فإنها لا تقحم في الضيق ولا تمارس أي ضغط أو قمع، ولهذا تعيش هذه المدن مرحلة عطاء، وإن الجهود الإيديولوجية المتسامية لا تشكل عقبة، بل تقدم الدعم، وتكمن هذه الحقيقة المادية وراء التنوير الإغريقي.
لقد توفرت في المنطقتين اللتان تطورت "إيونيا" في الأناضول الغربية و"إليا" في جنوب إيطاليا واللتين تطورت فيهما الفلسفة في البداية، نظراً لبعدهما عن الإغريق المركزي، أجواء أفضل للحرية، نرى إسهامات "تالس الميلتي" الذي يعتبر الفيلسوف الأول في تاريخ الفلسفة؛ إذ قام بتفسير الطبيعة اعتماداً على علاقاتها الذاتية الجوهرية دون أن يضم الله الى العمل، وبالرغم من أننا سنجد أنه لم يقدم أي شيء بمقاييس أيامنا هذه حين يقول: " خلق الكون من الماء"، ولكن عندما نأخذ قوله هذا في تلك الأيام دون أن يضع فكره تحت ظل الله وأن يقوله بكل حرية، فإننا سنرى أنه يمتاز بقيمة ثورية في تاريخ الفكر الإنساني. ولكن يجب أن لا ننسى أن وراء هذه الفكرة هي المقولة السومرية التي تقول: أن الله خلق الماء في البدء أو أن الإله خلق من الماء. و من المعلوم أن تالس تعلم في بابل ومصر. ويجعلون الفكرة القائلة (( إن كل مكان مليء بالآلهة)) ملكاً لـ تالس، وهنا نجد توجهاً نحو فلسفة الدين، حيث لم يتم الانفصال التام بين الطبيعة والله، مما يعني افتراض الاثنين معاً التي تأخذ الشكل الأول لمفهوم "وحدة الوجود".
ويقوم هيروقليطس بإلقاء الخطوة الثانية، حيث يقول: أن أساس الطبيعة عبارة عن حركة ذاتية، دون أن يتحدث عـن الإله. ويـقول بأن الطـبيعة تـتحرك بـواسطة نـظام قـوانينها الـداخلية الـذاتية أو ما يمكن أن نقيمها كقانون " LOGOS " لها، وتتغير بشكل مستمر دون حاجتها لأي مؤشر إلهي خارجي؛ حيث يضع هذه الصيغة في المقولة التالية " لا يمكن أن تستحم في مياه نهر جاري مرتين". وبذلك ولأول مرة يضع وبكل وضوح أساساً لأسلوب التفكير الذي يأخذ المادة أساسا له، ويعد أسلوب التفكير هذا مصدراً رئيساً لنظرة المادية في تاريخ الفلسفة ولنظرة المادية التاريخية التي سيتم تطويرها فيما بعد.
في الجانب الأخر، في جنوب إيطاليا كان فيثاغورث يضع أسس الفلسفة المثالية، وهو أيضاً كتالس يتلقى تعليمه في مدارس الكهنة في مصر وبابل لفترة طويلة من شبابه "25"، حيث تجول وشاهد ديار الحضارة، إن أهمية هذا الفيلسوف الذي عاش في القرنين السادس الخامس قبل الميلاد كونه طبق الرياضيات على علاقات الطبيعة، كما أضفى القدسية على الأرقام، ويؤمن بأنه يستطيع تفسير كل شيء بالاعتماد على خصائص الأرقام وأدعى بأنه يستطيع أن يسمع لغة الانسجام الموجودة في الكون بواسطة الموسيقى ودافع عن نظام "ARMONIA ". وأفترض بوجود الأسس الروحية في أساس كل شيء، وكان يرى أن حقيقة المادة والجسد تلعبان دور القفص فقط، لقد مارس فيثاغورث تعاليمه بطريقة صوفية، ويأخذ التعليم المكثف أساساً، وأعد النظام الفلسفي لمرحلة ما قبل أفلاطون في المجتمع الطبقي الذي كان يولد في الإغريق وجنوب إيطاليا. ومن الواضح أن ما قدمه عن أحياء المبادئ التي تشكل أساساً للأنظمة في مصر وسومر وقيامه بملاءمتها مع الشروط المحلية، أنه تأثر بشكل كبير بهذين المركزين. ولكن اعتماده على علاقة النسبة العددية مع كل صيغة وكل تشكل في الطبيعة، ونظرته إلى وجود هذه النسبة في كل شيء يعد إسهاماً كبير منه، ولهذه النسبة العددية التي أوجدها نصيب في تطويره كالطب وللفن المعماري والموسيقى. وهناك أهمية كبيرة للوصول إلى هذه النسبية، وإدخاله العدد والقياس والحدود إلى العلاقات يشكل تقدماً مهماً، وكل ذلك يلعب دوراً متقدماً لإدخال المنطق إلى البنية الروحية والذهنية للإنسان.
أما في مركز الإغريق، فقد كان يعيش فيلسوف مهم بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وهو الفيلسوف بارمنيديس الذي يكتسب أهمية كبرى لافتراضه بأنه يكمن في أساس كل شيء المنطق والفهم وموهبة الدماغ. وادعى بأنه لا يمكن الوثوق بالأحاسيس ومدلولاتها، وأما التعلم عن طريق الأحاسيس قد تكون خاطئة بينما الاستعلام بالدماغ أو المخ هو الأساس وبهذه الطريقة يمكن الوصول إلى الحقيقة. بالأساس إن أهمية بارمنيدس تأتي من إيلائه الأهمية للعقل ومن اهتمامه الكبير بعقل الإنسان المتيقظ وتثمينه الكبير للمخ. فربما كان متطرفاً، وابتعاده عن المصادر الاستعلامية الملموسة، فتح باباً أمام الخطأ في الأسلوب والذي يستمر لألف سنة وبوصفه الأساسي للفكر المنطقي لدى الإنتاج واظهار أهميته، لعب دوراً كونياً.
لقد أدت الأوضاع الصعبة التي عاشتها دولة أثينا في مواجهة البارثيين والخسائر التي منيت بها والمنافسة مع إسبارطة والفروقات الطبقية التي بدأت بالازدياد، الى الدخول في مرحلة من الأزمات التي بدأت تتفاقم شيئاً فشيئاً اعتباراً من نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. وبدأت القضايا الاجتماعية تفرض نفسها مع مرور الزمن، باختصار لقد نضجت الظروف لظهور السفسطائيين "الذين يدعون العلم، الأساتذة الذين يبيعون العلم". وهذا الوضع أدى إلى نوعين من المؤثرات، فمن جهة بدأت الدوغمائيات الدينية تفقد مصداقيتها ويضعف الإيمان بالآلهة، ومن جهة أخرى بدأت المدارس الفلسفية المتناقضة تخلط الحابل بالنابل في ذهنية الإنتاج. وان السفسطائيون الذين استفادوا من هذا الوضع، فتحوا الطريق أمام وضع أقرب إلى الحرية الفردية تحت شعار " لكل شخص فكر خاص به"؛ ولكن بإخراجهم الفكر من قالبه الأساسي تسببوا في خلق السطحية في الفكر، وتدني في مستوى المعرفة والفكر الى درجة الانحطاط بين الأرجل مما أوصل الوضع إلى حالة من البلادة والاستغلال، ولم يبق أي مقياس لا في الفلسفة ولا في الدين. وأن يكون لكل شخص معاييره الخاصة، فإن هذا سيؤدي إلى سيطرة قانون الغاب وإلى الاستبداد في المجتمع وإلى سيطرة الدوغمائيات. وأدى ذلك إلى تآكل وتدني النوعية لكل القيم الاجتماعية وتزييفها وخرقها. وبات القول: قف لهذا التوجه أمر لا مفر منه.
جـ ـ سقراط : ظهر سقراط في هذه الأجواء التي أختلط فيها الحابل بالنابل، وعندما كان يبحث عن حل وتفسير للقضايا الاجتماعية المتثاقلة، أصبح كيف يجب ان يكون أسلوب ومضمون ذلك قضيته الأساسية، إذ لم يلعب السفسطائيين أي دور أكثر من إثارة الفوضى، فإنهم هزوا النظام ولكنهم ابتعدوا عن مسؤولية وضع البديل، وكان يتم فتح الطريق أمام جيل من الشبان عديمي المسؤولية ولا يشعرون بأنهم ملتزمون بأي إيمان أو قيمة، وهنا كانت تكمن عظمة الخطورة.
لعب سقراط في "470 ـ 399" ق.م، دوره التاريخي بوضع الأسس لتعاليم أخلاقية جذرية في مواجهة هذا الوضع، وإن السؤال الذي أراد سقراط أن يقدم الإجابة عليه هو: هناك الكمال في كل شيء وخاصة في كل عمل "مقاييس الكمال وقوانينه وتقاليده"، وإذا أردنا التوسع ، إن أول شيء يجب القيام به من أجل التحدث عن موضوع أو عن عمل ما، هو معرفة أسس هذا العمل أو هذا الموضوع. وهنا تظهر أمامنا كلمة السر الشهيرة المتمثلة بمبدأ " أعرف نفسك " ويجب على الذين ليس لديهم معلومات كافية عن الموضوع أو العمل، بل وأكثر من ذلك إن الذين لا يملكون معلومات على درجة من الكمال يجب ألا يتكلموا، وأن لا يتدخلوا بهذا العمل، لان الجهل هو مصدر الفوضى والخطأ وهو بالتالي مصدر كل الشرور، ويجب على الذي يريد فتح طريق الخير، وأن يكتسب المعرفة الخاصة به.
وتوجد لهذه المعرفة معايير عامة، إذ لا يمكن أن يكون لكل شخص معايير خاصة به، فلكل مهنة ولكل مؤسسة معايير وقوانين خاصة بها، وهذه المعايير والقوانين سارية المفعول أيضاً من أجل فروع هذه المهن والمؤسسات والتي ذات مستويات. وتوجد معايير كاملة معتمدة على المعرفة لكل المؤسسات الاجتماعية من العسكرية وحتى السياسية والزراعية والحرفية والتدين، وعندما يتم التصرف بموجب هذه المقاييس، فإن هذه المؤسسة وهذه الحرفة ستقوم بدورها على أكمل وجه، لذا فإن الشيء الأكثر ضرورة من أجل ذلك، هو وجوب اعتماد كل جهد أصبح موضوع العمل والمهنة على المعرفة، وأما الشخص الذي لا يملك المعرفة، فإن كل عمل سيقوم به سينحرف ومؤدياً به في النهاية إلى طريق مسدود، وبذلك نجده قد نادى بوضع الأساس للمبدأ القائل" الممارسة السليمة، تعتمد على النظرية السليمة"، وإذا دققنا قليلاً، سندرك أن هذا الموقف هو الموقف ذاته الذي كان يبحث عنه كل من بوذا و كونفوشيوس وزرادشت.
لم يضع سقراط أفكاره حول مضمون أي موضوع ضمن سياق شامل أو في كتاب، فأكثر ما أنشغل به هو الأسلوب والإجابة عن سؤال " كيف نعيش..؟" وعندما لا يوجد منهج فإن كافة المعلومات التي ستتراكم، تصبح أشبه بكتب محملة على ظهر حمار، وربما تكون أخطر من ذلك، لان المعرفة التي سيستخدمها إنسان ما، باتباع منهجٍ خاطئٍ، ستكون أخطر بألف مرة مقارنة بالحمار الصامت، إذ أنها ستؤدي إلى وضع خطير، ويظهر سقراط أمامنا في هذه المسألة الأساسية، وهو محق في ذلك وذو موقف راديكالي جداً، فهمّه ليس الحصول على العلم بقدر كيفية الحصول عليه ولماذا، وإنه لا يؤمن بقيمة المعلومة التي لا سبب لظهورها وكيف وفي نفس الوقت عندما تتم الإجابة بشكل صحيح على سؤال: لماذا المعلومة، حينها ستظهر تلك المعلومة والعمل المرتبط بها بشكل صحيح، والتفكير الصحيح لدى سقراط يؤدي إلى الإنجاز الجيد، والعمل المنجز حينها سيكون عمل جميل، وقد شكل "المبدأ" التالي "فكر بشكل صحيح، أعمل بشكل جيد، وكن جميلاً " جوهر الأخلاق السقراطية، وقد تم صياغة هذا المبدأ عند زرادشت كما يلي: "التفكير الصحيح، الكلام الصحيح، العمل الصحيح"، في الحقيقة إن الجوانب المشتركة لهذين المبدأين متشابهين فيما بينهما، هو لإصلاح النظام الفاسد، وإن ما قام به المؤسسين الأوائل هو جعل هذه الضرورة هي المسيطرة.
طبعاً لم يرحب الذين لهم مصالح في الأزمات التي يشهدها المجتمع بهذا الموقف المبدئي والقاسي، فكما رأينا في كل المراحل إن الذين يعيشون على الربح غير المشروع الذي تخلفه الأزمات هم عبارة عن ملوك مستبدين وديكتاتوريين انسلخوا عن القانون وعن العدالة، وسلاحهم الأكبر في ذلك هو الديماغوجية "فن التضليل بواسطة الكلمات" والاستبداد، وان أساس محاكمة سقراط هو قيامه بإصلاح جذري لأخلاق الشباب والعمل على القيام بانقلاب في أفكارهم أعتماداً على المبادئ الصحيحة، وتتم محاكمته بالتهمة التالية: " إنكار مبادئ وحدة أثينا العظيمة وإنكار وجود الآلهة التي تحمي هذه المبادئ"، وأمام ذلك اتخذ سقراط موقفاً وأعطى جواباً لا مثيل له، ولا يمكن للذاكرة البشرية أن تنساها، إن قبل إطاعة القوانين كنوع من الفضيلة، وعاش حسب مبدأ الفضيلة، وعندما عرض عليه تلامذته فكرة الهروب من السجن، اعتبر ذلك منافياً لمبدأ الفضيلة ويرفضه، ويتجرع كأس السم بكل شرف وتتصدر شهادته المرتبة الأولى في قائمة الخالدين .
د ـ أفلاطون وأرسطو:
يصل عصر الفلسفة الكلاسيكية مع أفلاطون وأرسطو تلميذا سقراط في فلسفة المجتمع إلى ذروته. كتب أفلاطون كتابه"الدولة" من أجل خلق النموذج الذي ينقذ دولة أثينا اعتمادا على مصطلحات "الصحيح، الجيد، الجمال" التزاما منه بذكرى معلمه سقراط، والمثالية هي الأساس في عالم أفلاطون، وأما العالم المادي فهو عبارة عن ذكرى ضعيفة لعالم المثاليات، فالجوهر يأتي أولاً أي توجد المثالية، ثم يجري التركيز لتكوين أنواع الماديات، ولا يمكن التفكير بوجود المادة بمفردها. هذا هو الشكل الأكثر تطوراً من مفهوم العقل لدى بايرمينديس. ويعد أفلاطون من أعظم فلاسفة المثالية، وله مكانة قريبة من النبوة، وانه من هذا الجانب يشبه زرادشت إلى حد ما، ومن الممكن التفكير بأن سقراط وأفلاطون مع بعضهما يشكلان جواباً يشبه تعاليم زرادشت، وأهم خصائص فلسفة أفلاطون هي إدارة الحكماء، والمظهر المتخصص، والفيزيائية النشيطة، ولو تمت تربية النخبة على هذا النمط فإنه سيمكن إدارة الدولة بشكل سليم، ويعتمد أفلاطون أسلوب الحوار كمعلمه سقراط، ولأنه أعطى أول دروسه التاريخية في مكان قريب من أثينا يدعى" Akademia أكاديميا"، يتم تذكر أفلاطون كلما ذكرت هذه الكلمة، وبالارتباط مع أسلوبه أصبح Akademia تقليداً ومؤسسةً. وهو فيلسوف المجتمع الطبقي، ولا يفكر بالمساواة بين كل البشر، ويفكر في الحضارة العبودية على أنها طبيعية ونظام مستمر، ودولة أثينا تشكل مثالاً قوياً لهذا النظام، وهذا التصور يمر في الحوار الذي يسمى"الدولة".
إن رؤية الإغريق بأن كل إنسان ليس بإغريقي هو أدنى منهم مرتبة، مرتبطة بهذا الطراز الفكري، وظهر بعده العديد من المفكرين المثاليين أرادوا تطوير الأفلاطونية بعدة أشكال وحاولوا تفسير الكثير من تعاليم مراحلها اعتماداً عليه. والأفلاطونية الجديدة تعني تطبيق الفكر الفلسفي بواسطة الفكر الديني بشكل عام وتطبيق هذا في الواقع المسيحي بشكل خاص، ولها تأثير عميق على الدين الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، ويلعب هذا التأثير دوراً أساسياً في كل المفاهيم المثالية المعاصرة القريبة.
يعد أرسطو آخر مبدعي الفكر الفلسفي الكبار في العصر الكلاسيكي، وهو معلم اسكندر، ولم يكن أهل أثينا يحبونه كثيراً، وهو لا يتوافق مع القوالب الإغريقية بعض الشيء. انه عاش في فترة 386ـ320 ق.م، بحث وتعلم كافة الأفكار الدينية والفلسفية التي كانت موجودة في تلك الفترة بعقل أشبه ما يكون بالموسوعة، رصد الطبيعة بعمق وأعطى مكاناً متساوياً للعقل وللأحاسيس، وحاول تأسيس رابطة سليمة بين العقل والإدراك والحواس، ونظراً لشغفه الكبير بتعلم كل العلوم في مرحلته، يحاول جمعها دون تفريق بين المجتمع والطبيعة، وهذا ما خلق عنده المنهج الشمولي المتكامل، والذي يسمى بمنطق أرسطو، وهو عبارة عن الجهد الذي بذله لإنشاء الأسس العامة للمنطق من الأفكار والمعلومات المتراكمة، لهذا يمكن اعتبار أرسطو محصلة الذهن الإنساني كقوة عامة حتى تلك المرحلة، وإن تسميته بالرمز الذي في ذروة المعرفة والفكر المنسق، يعتبر إحدى نتائج هذه الخاصية، وإن تعبيرها وممارستها المجسدة هي تحقيق الاسكندر الكبير لإمبراطوريته العالمية الكبيرة. وهذا يعني التطبيق الكبير للفكر الكبير، والسلطة الكونية للفكر الكوني.
لا ينكر أرسطو وجود الله، ويعتبره السبب الأول ويعد المراحل التالية عبارة عن مبادرة، معتبراً أن الطبيعة طورت ذاتها بذاتها، ويضع مفهوم الكون ذي الهدف بقوله إن كل شيء في النهاية سيتحد مع السبب الأول، أي مع الله. وتعد مقولة "لكل شيء سبب وهدف" هي صيغة أرسطوية بمثابة الدستور، وبالتالي هي صيغة إلهية. ومن هذه الناحية مثلما كان لأرسطو تأثيراً كبيراً على الأديان التوحيدية، كان له تأثير كبير على فلاسفة الإسلام والمسيحية للعصور الوسطى أيضاً. وبالأحرى تم تطوير الفلسفة الإسلامية والمسيحية باستخدام الفكر الفلسفي عند أفلاطون وأرسطو.
حتى يومنا هذا لازالت الرؤية الأروسطية تهيمن على البنية المنطقية للإنسان الوسط. ولا زال المنطق الديالكتيكي بعيد عن الهيمنة عن ذهنية الإنسان وبسبب هذه الميزة، لا زال أرسطو يعيش بقوة في المنطق وفي فلسفة الإيمان لدى المؤمن، ولهذا لا يمكن استصغاره. بينما لا يمكن تعلم العلم وفهم نمط التفكير الصحيح في عصرنا ما لم نتجاوز أرسطو، وتقييمه على أنه حقق مرحلة متقدمة كبيرة في طراز الفكر الفلسفي؛ لكن تم تجاوزه منذ وقت طويل على المستوى المعرفي بسبب التقدم الكبير في ميادين علوم الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الاجتماع، وبات من المهم رؤيته على انه موقف محافظ في الاعتقاد والمنطق، والوقوف في هذا الموقف يعني الرجعية في يومنا هذا. لهذا فإن تجاوز أرسطو بات ضرورياً ويحظى ببالغ الأهمية من حيث متطلبات التحول والتقدم التي لا بد منها.
لقد تطورت فيما بعد ضمن البنى الفكرية الإغريقية العديد من المدارس المختلفة التي تعتمد على التفسيرات المختلفة لهؤلاء الفلاسفة العظام، إذ لعبوا دور المصدر بشكل مباشر أو غير مباشر حتى عصر النهضة، العصر القريب في تطوير فلسفة هؤلاء الفلاسفة وحتى العصر القريب ظهرت فلسفات دينية مختلفة كثيرة وفي مقدمتها الإسلام والمسيحية من جانب، بالإضافة إلى العديد من مدارس فلسفية أخرى خارج الدين من جانب آخر.
إن التدفق الفكري لتاريخ الحضارة يشبه النهر، وعندما يكون منبعه الأساسي هو سفوح جبال الهلال الخصيب، فإنه بالفروع التي استمدها من هناك شكل موجة هائلة متدفقة في سومر، وبالفروع التي استمدها من مصر والأناضول والهند والصين وإيران أصبح في حالة مصدر للطاقة كسدّ للفلسفة في مضيق الإغريق، ويكسب قوة التدفق مرة أخرى، ورغم العقبات المجففة للعصور الوسطى، وصل إلى قوة عظيمة في أوروبا في العصر القريب، بحيث أصبح كتدفق سيل يصعب الصمود أمامه في يومنا هذا.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...


المزيد.....




- اليمنيون يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة
- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...
- ممثلية إيران: القمع لن يُسكت المدافعين عن حقوق الإنسان
- الأمم المتحدة: رفع ملايين الأطنان من أنقاض المباني في غزة قد ...
- الأمم المتحدة تغلق ملف الاتهامات الإسرائيلية لأونروا بسبب غي ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ز- الاصلاح والمقاومة ضد الحضارة العبودية 3- تطور الفكر الفلسفي والحضارة - نبذة تاريخية عن التطور الروحي والذهني - 1-13