|
حسون … ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6699 - 2020 / 10 / 10 - 12:50
المحور:
الادب والفن
هل صادفت يوما في حياتك بيتا افراده كلهم اشرار ؟ نعم … واليكم هذه القصة : وهي بصيص من نور الذاكرة … اي ذكرى ؟ واي ايام ؟ لا اذكر منها الا اثرا ذاهبا … ! كان في منطقتنا زمان ، في العهد الملكي … بيتا يقع على الشارع العام ، واذا اراد احدا من اهل الحي البؤساء الذهاب الى السوق مثلا عليه ان يمر من امام ذلك البيت المشؤوم … والبيت فيه ثلاثة افراد فقط : ام ، وولديها ، والحية لاتلد الا حية … والكل يخاف منهم … الكبير قبل الصغير … كيف ؟ لا ادري … ! اليكم وصفا مختصرا لاعضاء هذه الاسرة : الام … : لا احد يعرف اسمها ، ولكننا نطلق عليها لقب ( المشهورة ) وهو مصطلح عندنا يُطلق على المرأة العراكة ، والتي تبحث عن المشاكل ، وتشتريها بفلوس … ضعيفة البنية كانها قصبة … في اواخر الاربعينات ، او بداية الخمسينات من عمرها … متوسطة القامة … مسربلة بالسواد دائما حزنا على زوجها … كتلة من الاعصاب … خالية من الشحم ، واللحم والدسم … عميقة السمرة اقرب الى السواد … دائمة التدخين للسجاير ، ونادرا ما تجد فمها غير مشغول بها … صوتها اجش اشبه باصوات الرجال ربما بتاثير التدخين ! واذا حميَّ الوطيس ، ودخلت في معركة ما … فانها تقاتل بتوثيتها المشهورة مثلها … بشراسة منقطعة النظير ، وباعصابها ، وتصرع اعدائها بكل بساطة ، وتجعلهم شذرا مذرا … ! صبيح … الابن الاكبر : شاب اسمر اللون وسيم الشكل انيق الملبس … غامض الشخصية على الاقل بالنسبة لنا نحن الفتية ، وهو ايضا شقاوة ( بلطجي ) ، ولكن مجاله ليس مجالنا ، وانما على الكبار من اقرانه … لا احد في الحي يعرف اين يذهب ، ومن اين ياتي … يخرج كل يوم صباحا او مساءً رافلا ببدلة جديدة انيقة وهو يتقلب ذات اليمين ، وذات الشمال ، والكل تبتعد عن طريقه لا احتراما ، وانما خوفا ، وتجنبا لشره المستطير ، واذا اراد احد الصغار ان يذهب اليه مثلا - وهذا ما حدث مرة - واشتكى عنده على اخيه حسون على اعتباره كبير العائلة ، وعاقلها فسيصفعه بدون مقدمات ، ولا تفاهم ، ويتبعها ب ( چلاق ) اي شلوت بالمصري … ! حسون … الابن الاصغر : وهو ما يهمنا هنا اكثر لان عمره كان مقاربا لاعمار البعض منا ، واكبر من بعضنا الاخر بسنوات … غلام عمره تقريبا اربع او خمس عشرة سنة … قد يزيد ، او ينقص لست متاكدا … وهذا الحسون ايضا داكن السمرة … طويل القامة … ممتلئ الجسم ( سمين ) ضخم الهيكل ، ولا ادري ماذا كان يأكل ، ونحن نعيش في بيئة شعبية انهكها الفقر ، والتقشف ، والأسى … عيناه كبيرتان دمويتان بمعنى : لا يوجد فيهما بياض ، وانما البؤبؤ اسود ، والباقي احمر لون الدم … هذا هو حسون … لا اعتقد بان احدا في المنطقة كان لا يخاف من حسون هذا … سواء كان كبيرا ام صغيرا … رجلا ام إمرأة ً… شجاعا ام جبانا … الكل تخاف من حسون ، وتتقي شره … ! فاذا جاء ، ونحن نلعب مثلا في الشارع … بمجرد ان نراه مقبلا علينا يفر الكل كالجراد فرررررر … عض دشداشتك ، واهرب … عض دشداشتك ، واهرب … واذا امسك بواحد منا معناها هذا امه داعية علية صباح ذلك اليوم … يشبعه ضربا ، ورفسا بدون اي ذنب اقترفه هذا الفتى المسكين … حتى يترك البعض منهم احيانا ، وقد بال على نفسه من الخوف ، والفزع …انه شرير … كحجارة لا احساس فيها . واذا اراد احد من الفتية من سكنة هذه المنطقة التعسة الذهاب الى السوق … عليه بطريقين : الاول طويل ، وممل ، ولكنه آمن ، وهو المفضل لدى الغالبية خاصة من الذين لا يحبون المشاكل ، والثاني قصير ، ومختصر ، ولكنه غير آمن لانه يمر من امام بيت حسون … ! وان قررت يوما ان تجازف وتركب الصعاب ، وتذهب الى السوق مرورا من امام بيت حسون ، فستلاقي الاتي : حتى لو كان الجو صيفا زافراً انفاسه الحارة ، والوقت ظهرا مثلا ، والكل هدوء ، ونيام ، وبابهم مغلق ، وانت تمشي على اطراف اصابعك حتى لا توقضهم من نومهم … خاصة حسون الذي لا ينام ، وتقرء في سرك ما تحفظ من الذي تعلمته من الملا من آيات ، وادعية … لن تشفع لك طبعا مع حسون كأنه محصن منها ، وتقول مع نفسك : الحمد لله خلصت … سوف امر بسلام ، وبمجرد ان تمشي خطوتين ، او ثلاثة … إلا ، وتجد نفسك امام حسون مباشرةً … وجها لوجه كعفريت خارج من قمقم ، وهو يرميك بنظرات من نار … يتطاير منها الشرار ، وابتسامة ساخرة اشبه بتكشيرة ذئب ترتسم على وجهه المخيف … وكأن هذا البيت فيه رادار روسي يكشف دبيب النملة … ما معنى ان تجد حسون امامك … والوقت ظهرا ، ولا سائر من بشر او حتى حيوان يدب … ولا من ناصر ، ولا من معين … السماء ، والطارق ؟ اقول لك : معناها … انك ستعود الى بيتكم تعوي وتعوّص وتنوّص مثل الجرو المرفوس ، وملابسك ممزقة ، ووجهك متورم يقطر دما ، وحالتك زبينة لانه اشبعك ضربا ، ورفسا ، وصفعا من كل جنس ولون ، وزيادة في الاذى يأخذ فلوسك … ثم يودعك ب ( چلاق ) او اثنين … وبعض الشتائم ، والتهديد ، والوعيد بعقاب اشد اذا عدتها ثانية … هذا هو حسون المصيبة … اذا سولت لك نفسك ، وتجاسرت ، ومررت من امام بيتهم ! ولكن شاؤوا غير ما شاءت الاقدار … ! وفي يوم من الايام التي تستحق الذكر … تناهت الى اسماعنا ضجةً ، وصراخا ، وعويلا تمزق استار السكون … خرج الناس على اثرهما من بيوتهم كالزنابير النافرة من خليتها … مستطلعين ، واذا بنا نرى ( المشهورة ) ام صبيح ، وبيدها التوثية ، وهي تدبچ ، وتصرخ ، وتولول ، وتبكي ، وتلوح بتوثيتها ، وكأنها تعلن الحرب على الهواء … وتأخذ الشارع طولا وعرضا ، ويتصاعد غضبها كما يتصاعد الزئبق الى الترمومتر … وتبدء من نقطة وتعود اليها كالمخبولة … اما حسون فخرج غاضبا ، باكيا ، نائحاً وبيده سكيناً يلوّح بها ، وهو … يرغي ، ويزبد ، ويهدد … مكفهر الوجه … يكور قبضته ويسددها بوجه الهواء … ! والشرطة قد ملأت الشارع ، وسيارة الاسعاف تقف امام البيت … ما الموضوع ؟ يقولون بان صبيح قد … قُتل ! كيف … ؟! لم نعرف التفاصيل بعد … ولكنك لن تعدم قائلا يقول في مثل هذه المواقف ، ويشرح الموضوع ، وهي رواية على اية حال من بين روايات كثيرة تناثرت مثل الرذاذ تلقي الضوء على الجريمة … يقول الراوي بان صبيح احب فتاةً جميلة مستورة ، ومن عائلة طيبة في المنطقة ، واخذ يضايقها في كل مكان يراها فيه ، ويحوم حول البيت ليل نهار … احيانا صاحي ، واحيانا اخرى سكران … حاول اخوتها ردعه ، وثنيه عما يفعل ، ولكنه لم يرعوي ، فخافوا ان يتهور كعادته ، ويفعل فعلةً كبيرة تسئ الى عرضهم ، وشرفهم فنصبوا له كمينا ، واستدرجوه الى مقبرة صغيرة للاطفال في اطراف الحي ، وذبحوه … لكن الشرطة لم تجد دليلا دامغاً على تلك الرواية المزعومة ، ولم تسفر التحقيقات عن شئ يذكر … ثم قُيد الحادث ضد مجهول ! اما نحن الصغار فكنا نتمنى ان يكون القتيل حسون ، وليس صبيح لان الاول كان اذاه علينا اكثر بكثير … ولكننا لم نيأس ، وكنا ندعوا على حسون بميتةً اسوء من اخيه … ثم ساد هدوء ، وصمت … كراحةٍ بعد التعب ، ولكن هل اتعظوا … ؟ هيهات ! حسون اصبح يحمل السكين ، والقامة ، والبوكس الحديد في جعبته ، واعلن نفسه شقاوة المنطقة على صغر سنه ، واخذ يعاقر الخمر مثل بقية الشقاوات ، ويأخذ الإتاوات ، وياتي الى الحي في منتصف الليل ، وهو لم يعد يرى من النهار الا غباره ، ومن الليل الا ظلامه … كئيبا ، بائسا ، حزينا ، ثملا ، ويقف في منتصف الشارع … بهيكله الضخم ، وشكله المخيف ، ويغني ، ويرقص ، ويبكي بكاءً حاراً ، ويعوي كذئب جريح ، ويلوح بالسكين ، واحيانا يركض باتجاه الحائط ، ويضرب راسه بعنف ، وكأنه يريد سحق شئ ما في داخل ذلك الرأس … يقلقه ، ويؤذيه ، ولا احد يجروء على الاقتراب منه ، او الوقوف في وجهه . وتتابعت الايام والشهور ثقيلة تجرجر اذيالها خائبةً ، حتى كان يوما سمعنا فيه ان حسون قد قُتل في شجار في احدى المقاهي بين الشقاوات مع بعضهم البعض … متلفعا بعاره بعد ان قتل منهم اثنين … وانطوت قصة حسون الى الابد ، وانتهى كأن لم يكن … وبعد مرور فترة ماتت امهم حزنا ، وكمدا … وهكذا طوتهم الارض ، وتلاشوا في العدم ، وانطوى سفر هذه العائلة المؤذية ! يقال ان صاحب البيت الذي كانوا يسكنوه قد عاد ، واستلمه بعد ان القى اغراضهم في الشارع … يقول الرجل بانهم لم يكونوا يدفعون الايجار منذ اليوم الاول الذي استأجروا فيه هذا البيت منذ سنين … حتى نسي المسكين ان له بيتا … ولم يكن يجروء على مطالبتهم بالايجار … تصوروا ! وانتهى تاريخ ، وبدء تاريخ … وغدا يوم آخر !
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غدر الصديق … ! ( قصة قصيرة )
-
قرينة الشيطان … ! ( قصة قصيرة )
-
اسماء تستحق التبديل … ! ( حكاية … من الواقع العراقي المعاصر
...
-
وجهة نظر حول التطبيع … !
-
الاخوان … وتوالي الاحباطات !
-
موهوب ، ولكن بطريقته الخاصة … ! ( قصة قصيرة )
-
المصيدة جاهزة تنتظر فأرا … !!
-
هل للسعادة من باب … ؟! ( قصة قصيرة )
-
سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )
-
ابن زنا … ! ( قصة قصيرة )
-
ما موقف الاخوان في حال وقوع صدام بين مصر وتركيا ؟!
-
ماذا بعد الضم ان حصل … ؟!
-
الاخوان … والنفخ في صورة مرسي !
-
هل العقوبات الاقتصادية تُسقط نظاما … ؟!
-
هل ( صدق الله العظيم ) بدعة … من صنع بشر ؟
-
الاسلاميون … والمتاجرة بكورونا !
-
هل يستطيع الاردن مواجهة اسرائيل عسكريا ؟!
-
الاخوان … اعداء الاوطان !
-
امريكا : الجوهرة … المدفونة في العفن !
-
امريكا … نار تحت الرماد !
المزيد.....
-
التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم
...
-
تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف
...
-
بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني (
...
-
مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
-
الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال
...
-
بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد
...
-
مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
-
إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
-
-قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا
...
-
وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|