أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 6693 - 2020 / 10 / 3 - 10:49
المحور: الادب والفن
    


هل السعادة في :
الغنى ، الصحة ، الجمال ، الجاه ، السلطة … ؟ ام في كل هذه التفاصيل مجتمعة ، وهو من سابع المستحيلات ؟
صاحبنا وبطل حكايتنا هذه لا يمتلك واحدة من هذه العوامل ، ومع ذلك فهو سعيد ، بل سعيد جدا … !
الاحداث في العهد الملكي في العراق ، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي …
( نعيم ) وهذا هو اسم بطلنا … !
شاب قد تجاوز الثلاثين باشواط ، وشارف على الاربعين ، ولم يتزوج لعدم امتلاكه لمقومات الزواج المكلفة … اما عن شكله فهو ابيض البشرة … يعاني مما يسمى بشق الارنب في شفته العليا … متوسط القامة نحيف محدودب الظهر قليلا هزيل البنية شعره اجعد يميل الى الاحمرار مع صلع خفيف في اعلى الجبهه .
اما عمله … فهو يعمل ( كنّاس ) في احد اهم الاحياء في مدينتنا ، المسمى بحي الضباط ، وهو حي راقٍ ، وحديث في زمانه … بيوته كبيرة وحدائقها واسعة ، غنّاء … ضاحكةً بازهارها ، وورودها … يقطنه كبار الضباط الانكليز ، وعوائلهم ، والمسؤولين الكبار من باشوات ، وغيرهم في العهد الملكي البائد قبل انهاء الملكية في العراق … من امثال الكابتن موريس الذي وجدوه في المغطس داخل حمام بيته ميتا ، او منتحرا كما تطايرت الانباء … عندما نجحت الثورة ، وسقط النظام الملكي الاقطاعي بعد ذلك بسنين … !
المهم … !
ياتينا ( نعيم ) وبشكل شبه يومي باخبار الانكليز وعوائلهم بحكم عمله هناك … كيف كانوا يعيشون في رغد ، وبحبوحة اسطورية متمتعين بكل مسرات الحياة ولذائذها … يثير دهشتنا واستغرابنا بحكاياته … ونتعجب مما نسمع ، ولا نستطيع مهما اطلقنا العنان الى مخيلتنا الصغيرة المحدودة ان نتصور شكل الحياة عندهم ، ونقارن بين ما كنا نعيشه من بؤس وشقاء وعدم ، وبين ما يسرده على اسماعنا من اشياء خيالية ، وغريبة لا تتحملها عقولنا البكر الصغيرة !
كانت المرافق الصحية مثلا في ذلك الزمان الاغبر ترفا ما بعده ترف … لا تتوفر في كل البيوت … لهذا كنا في معظمنا نقضي حاجتنا في الازقة الضيقة كالبهائم ، وباختصار … كان اكثرنا يعيش كما تعيش الحيوانات المنفلتة ، وربما اسوء … !
وكان ( نعيم ) بالرغم من كل ذلك ، يسرد علينا بالتفصيل ما يشاهده من مناظر تسر العين ، وتنعش القلب ، وتفتح النفس ، حتى كنا نحسده على مهنته ككنّاس التي تتيح له كل هذه الاطايب والمسرات ، ويصور لنا باسلوبه المرح كيف يختلس النظر بحذر شديد الى الفاكهة المحرمة … الى الجنة بدون آدم … الى بنات وزوجات الانگليز الشقراوات الفاتنات ، وهن يلعبن التنس نصف عاريات ، او يسبحن في مسابح منزلية واسعة في حدائق البيوت الكبيرة … عاريات الا من ورقة التوت ، ويقفزن في الفضاء ، وكأنهن فراشات ملونة ، وكيف ان كل حديقة من هذه الحدائق كانت اكبر في مساحتها من حينا البائس كله . ربما كانت هذه المناظر ، وتلك الحياة فوق الخيال كانت تشكل الما ، وحسرة من نوع ما الى المسكين ( نعيم ) والتي سيكون لها اثرا مدمرا في نفسيته مستقبلا كما سنرى !
وتنعكس علينا ايضا فتجعل رؤوسنا تغلي بالاحلام الطفولية الفارغة … !
كما كان يسرد لنا كيف ان الضباط الانكليز كان عندهم سينما خاصة بهم تعرض افلاما عن الحرب ، والحب ، والغرب الامريكي … وغيرها يشاهدونها وهم نصف سكارى ، او كاملي السكر ، اما الطعام فمما لذ وطاب من زيتونٍ واعناب … يلقون الفائض منه دون مبالاة في حاويات الزبالة ، يجمع نعيم وزملائه الصالح منه وياكلونه ، وباقي فضلات الطعام يأتي بها الى بيت شقيقه ليتناولونها وجبة دسمة … وهكذا !
اما الغنى … فهو في واد والغنى في واد اخر … !
يعطي ( نعيم ) راتبه الضئيل كله تقريبا الى شقيقه الاكبر حتى يفرد له من بيت الطين الذي يقاسمهم العيش فيه غرفة صغيرة بالكاد تكفيه ، ولا تتوفر فيها اي وسيلة من وسائل الراحة والترفيه … !
ولكنه سعيد ، بل في غاية السعادة ، او هكذا اقنعنا !
لا تراه الا وهو مبتسم … ابتسامة لا تفتر … يصفر بلحن جميل ، ويقفز سرورا ، وكأنه يرقص في الهواء دون ايقاع ، ولا يحدد سروره شئ ، ولا ينغصه شئ مهما كان … متفائل على طول الخط ، وكأن الدنيا والحياة سهلة ، وبسيطة ما عليك الا ان تعيشها ، وتتمتع بما متوفر بين يديك من سعادة ، مؤمنا بانه يمارس حقا طبيعيا منحته اياه الحياة برغبتها او رغما عنها … لا فرق ! هذه هي فلسفته التي يؤمن بها !
فهو يبدو لنا سعيدا دائما مقبل على الدنيا غير مدبر ، ولا اعتقد ان احدا منا كان يعرف سر هذه السعادة الدائمة … هل هي حقيقية تنبع من اعماق اعماقه ، ام مفتعلة يداري بها ما يعتلج في داخله من الم ومكابدة … ؟ لا احد يدري … ! فعلى الرغم من كوننا صغارا الا اننا تصورنا بعقولنا البسيطة الطيبة ان سعادته حقيقية ، وفوق مستوى الشك !
كثيرا ما كان يأتي باشياء تبهرنا ، وتشعل خيالنا المحدود الفضاء بنار الخيال … نتحلق حوله ، وهو يعزف لنا على قيثارة مكسورة ، او هارمونيكا مكسورة ايضا ، او كمان بدون اوتار … قد قام باصلاحها جميعا بمهارة ، وحولها الى الات صالحة للاستعمال …
كما يعرض علينا معايدات وصور مليئة بالالوان ، والرسومات الجميلة لفتيات شقراوات يافعات يحتفين باعياد الميلاد وراس السنة … كل هذه الاشياء يجمعها مما تلقيه عوائل الضباط الانكليز من اشياء مستهلكة ، او تالفة في حاويات القمامة ، ونحن ننظر الى هذه المشاهد فاغري الافواه ، وكأننا مصعوقين بمس كهربائي !
يُسلمْ ( نعيم ) نفسه لشيطان الرقص … على انغام القيثارة ، والهارمونيكا فرِحا سعيدا … ربما متخيلا نفسه واحدا من الضباط الانكليز … ! ويصيبنا من سعادته ومرحه نصيب فتسري عدوى الرقص والغناء بيننا ، على امعاء خاوية ، واجساد هزيلة تسترها اسمال بالية … تصوروا ! في بلدنا يتنعم غيرنا بخيراتنا على حساب جوعنا ، ونحن نعيش الحرمان ، هذه هي الدنيا … قاسية لا قلب لها !
ولكنه يفاجئنا احيانا بقهقهات عصبية ، ويطلق ضحكات لا معنى لها كأنها طرقعات سياط ! حتى قال احدهم يوما ان نعيم يعاني اكثر مما نتصور ، وقد ياتي اليوم الذي ستقذف به هذه المعاناة الى غياهب الموت او الجنون … ! وما سعادته ومرحه الا بخارا حبيسا لابد ان يجد له متنفسا ، والا انفجر بوجه صاحبه وانهاه … !
لقد زلزلت هذه النبوءة ايماننا الراسخ في ( نعيم ) وفي سعادته التي وصفها البعض منا بانها حتما مزيفة … وصَدَقوا !
لاحظنا ان ( نعيم ) بدء يتهرب منا ، وعندما كنا نمسكه في طريق ما لانراه الا عابسا قانطا مطأطأ حتى نكاد لا نعرفه … ينظر بعينين لا تريان شيئاً ، يحاور نفسه كمجنون ، وازداد نحولا وشحوبا حتى فقد الوعي بما حوله … هل اصاب ارادته مرض ، فانكر الدنيا ، ولم يعد يعرفها … وتغلب يأسه على امله ، وحزنه على فرحه ومرحه … ؟! قال البعض ان نعيم قد سقط في قبضة الكآبة التي لا ترحم فنالت منه كل منال !
حتى كان يوما باردا من ايام كانون استيقضنا على اصوات موحشة تنعي ( نعيم ) وتعلن خبر موته المفاجئ ، ويقولون ان ابتسامة جميلة طيبة كانت تُشع من وجهه ، وكأنه كان يحلم حلما ورديا من احلامه التي تنسجها مخيلته المعدمة في نفس اللحظة التي خرج فيها السر الالاهي … فبقيت ابتسامته ساكنة مطمئنة على وجهه الطفولي البرئ ، وكأنها تعكس ما كان عليه يوما سعيدا مسرورا ! لقد كان شعلة من جمر فاصبح رمادا … ونسيا منسيا !
هكذا عاش ، وهكذا مات … فهل كان سعيدٌ حقا ؟!



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ابن زنا … ! ( قصة قصيرة )
- ما موقف الاخوان في حال وقوع صدام بين مصر وتركيا ؟!
- ماذا بعد الضم ان حصل … ؟!
- الاخوان … والنفخ في صورة مرسي !
- هل العقوبات الاقتصادية تُسقط نظاما … ؟!
- هل ( صدق الله العظيم ) بدعة … من صنع بشر ؟
- الاسلاميون … والمتاجرة بكورونا !
- هل يستطيع الاردن مواجهة اسرائيل عسكريا ؟!
- الاخوان … اعداء الاوطان !
- امريكا : الجوهرة … المدفونة في العفن !
- امريكا … نار تحت الرماد !
- الاخوان عصا في الدولاب … الغنوشي نموذج !
- القضية الفلسطينية … وقبلة الحياة !
- يكاد المريب ان يقول خذوني … !
- الأخوان … وأطروحاتهم الجديدة للوصول إلى الحكم !
- هل كورونا آخر المطاف … ؟!
- كورونا … درس باهض الثمن !
- من سيحسم الانتخابات الامريكية المقبلة لصالحه … ؟
- اخيرا تمخض الجبل فولد حكومة : ( ليس بالإمكان أفضل مما كان ) ...
- جريمتي … انني رايت جريمة الاخر !


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )