محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 01:54
المحور:
الادب والفن
قال عيسى بن هشام، حدّثني من شهد الغياب ولم يغب، ومن حضر ففني ثم بقي، قال:
بينما أنا أطوف بأزقة القلب، وأتقلّب في أسواق الهوى، إذ أبصرتُ رجلاً قد انخلع عن الناس كما تنخلع الروح من ضجيج الجسد، متوسّدًا فقره، متلفّعًا بندمه، وقد شدّ على صدره عقد الانكسار.
فدنوتُ منه، فإذا هو يهمس ولا ينطق، ويبكي ولا يشتكي، ويقول:
بك أستجير، ومن يُجير إذا انقطعت الأسباب؟
وبك ألوذ، وقد أغلقت الأبواب، وتفرّق الأحباب.
قلتُ: ما خبرك يا هذا؟
قال: غرّتني الدنيا، ثم غرّني العفو، فمشيت بين الخوف والرجاء، لا أنا بالهالك فأيأس، ولا أنا بالآمن فأغتر.
ثم قال، وقد أطرق قلبه قبل رأسه:
لو شكّ قلبي ساعة، لسقطتُ عن باب الإيمان،
لكنّ العفو كان أوسع من زلّتي،
وكان اللطف أسرع من معصيتي.
فرأيت في عينيه نورًا لا يُرى،
فقلت: أترى ربك؟
فابتسم ابتسامة من عرف، وقال:
إن لم تَرَه عيني، رآه قلبي،
وإن لم ألمسه بحسّي، لامسني بلطفه،
فأنا أراه في كل شيء،
لا بالشيء… بل به.
ثم نهض، كأنما خفّ عنه ثقل الأكوان، وقال:
رباه، قد خلصتُ من هوى النفس،
واستقبلتُ هواك،
فكان الهوى الأوّل مرًّا،
وكان هواك حلوًا قبل أن أذوقه.
ووقفتُ أسمع، فإذا صوته صار كأنه صدى في وادٍ من الأسرار:
نسيتُ نفسي، لا فناءً ولا ضلالًا،
بل خشيةً أن أنساك،
فمن عرفك، ضاقت به نفسه،
ومن وجدك، استغنى عمّا سواك.
ثم بكى، لا بكاءَ جزع، بل بكاء معرفة، وقال:
يا غافر الذنب العظيم،
أتردّ قلبًا جاءك بلا زاد إلا الصدق؟
حاشاك…
فالردّ صفة الباب،
وأنت باب بلا ردّ.
فقلت: ممّ تخاف؟
قال:
لا أخاف نارك،
بل أخاف أن أُحجب عنك،
فالنار عذاب الجسد،
والحجاب عذاب الروح.
ثم أشار بيده كمن يخلع العالم عن كتفيه:
ما لي وأبواب الملوك؟
وأنت من خلقت الملك والملكوت،
وبحثتُ عن السعادة في الطرق،
فما وجدتها إلا في التقوى.
ثم مضى، ولم أدرِ:
أكان هو التائب؟
أم كانت التوبة تمشي على قدمين؟
وقال في آخر خطوه:
فليرضَ الناس أو ليسخطوا،
فقد خرجتُ من سوقهم،
ودخلتُ في رحاب الرضا.
قال عيسى بن هشام:
فما رأيته بعد ذلك،
غير أنّ أثره بقي في قلبي،
كأثر آية تُتلى ولا تُفسَّر.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟