أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرم نعمة - جرح عميق في ذاكرة العراق














المزيد.....

جرح عميق في ذاكرة العراق


كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

(Karam Nama)


الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 16:19
المحور: الادب والفن
    


قال بورخيس يومًا: «الجنة مكتبة». لم يكن يبالغ، كان يصف مصيره. القراءة عنده ليست عادة، بل قدر. المكتبة ليست مكانًا، بل كونًا لا ينتهي، حيث الكلمات تتحول إلى مصائر، والكتب إلى حيوات إضافية داخل الحياة.
وأنا، في هذا العمر، أجد نفسي محظوظًا لأنني أقرأ، وأقرأ، وكلما شعرت بتعب ساعات القراءة أعود إلى كتاب كوينتين بيل عن سيرة فرجينيا وولف لأجدد تلك النشوة التي تصنعها اللغة حين تكون صادقة مع ذاتها. كتاب كوينتين عن خالته فرجينيا لا يشيخ، لأنه يضيء في كل مرة، كأن اللغة فيه كائن حيّ يتجدد.
لكن ما معنى أن تكون الكتابة صادقة؟ بيل يجيب من خلال نصه لا من خلال التعريفات. يقول: «الكتاب جزء من الذات، وعند دفعه إلى القراء يشعر المرء وكأنه يدفع طفله إلى حركة المرور». هنا الكتابة ليست دفاعًا ولا تبريرًا، بل تعرية للذات أمام الآخرين، اعتراف يضيء أكثر مما يبرر. ويضيف في موضع آخر: «الشيء الملعون في الفن الرديء هو أن عدم الإخلاص الكامن في جذوره لا يدركه الفنان نفسه». هذه العبارة تصلح أن تكون معيارًا نقديًا لأي كتابة في فن السيرة والمذكرات. فالإخلاص للذات وللغة هو ما يمنح النص إشراقه، أما التلفيق فإنه يفضح نفسه مهما بدا متقنًا.
حين نلتفت إلى كتب المذكرات والسير الذاتية التي صدرت في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نجد أن أغلبها لم تُكتب بهذا النفس. لم تكن شهادات، بل محاكمات. لم تكن لغة تبحث عن جوهرها، بل أقنعة تحاول أن تبرئ أصحابها مما حصل. الكاتب فيها لا يتقدم كشاهد، بل كمدافع، يتقمص دور الضحية أو البطل، بينما ما زال كثير من شخوص الأحداث أحياء يعرفون الحقيقة.
أليس هذا هو التلفيق المكشوف؟ أن تتحول المذكرات إلى خطاب دفاعي، وأن تفقد اللغة اتساقها الداخلي لأنها لا تنبع من الذات، بل من صورة مصطنعة؟ إن السر المشرق في الكتابة لا يكمن في البطولة المصطنعة، بل في الاعتراف بالضعف، في الإضاءة على الالتباس، في تحويل التجربة الفردية إلى شهادة إنسانية.
اللغة حين تكون مخلصة، تصبح ضوءًا ينساب في النص، يضيء ما هو شخصي ليكشف ما هو عام. أما حين تكون متواطئة مع التلفيق، فإنها تنطفئ، وتترك النص باردًا، بلا حرارة، بلا حياة. لهذا يحتاج فن السيرة والمذكرات في العراق إلى مراجعة جذرية: أن يتحرر من هاجس التبرئة والتلميع، وأن يعود إلى جوهره، شهادة صادقة تحفظ الذاكرة وتفتح أفقًا جديدًا للقراء. وليس كما يحدث الأن في التدمير المتعمد للذاكرة الجمعية وإلحاق جرح عميق بالتاريخ الحديث للعراق. كذلك تُلحق ما يمكن أن نسمية قسرا “النخبة” السياسية منها والأدبية جرحا عميقا بنفسها وبتاريخ البلاد المعاصر.
حين تتحول المذكرات والسير الذاتية إلى خطاب دفاعي، فإنها لا تكتفي بتزييف صورة فرد، بل تساهم في تدمير الذاكرة الجمعية. العراق، في عقوده الأخيرة، عاش أحداثًا كبرى ما زالت جراحها مفتوحة، وما زال شهودها أحياء. وحين يعمد الكاتب أو السياسي إلى إعادة صياغة تلك الأحداث بلغة تبريرية، فإنه يطمس الشهادة الحقيقية ويزرع في الذاكرة العامة صورة زائفة. هذا ليس مجرد خطأ فردي، بل فعل متعمد يهدد التاريخ المعاصر، لأنه يخلط بين الحقيقة والخيال، بين الاعتراف والإنكار. وهكذا تصبح المذكرات أداة لمحو الذاكرة بدل أن تكون وسيلة لحفظها.
المفارقة أن هذا التلفيق لا يجرح التاريخ وحده، بل يجرح الكاتب نفسه أيضًا. فاللغة التي تُكتب بروح الدفاع تفقد اتساقها الداخلي، وتتحول إلى قناع هشّ، يفضح صاحبه أكثر مما يحميه. القارئ يشعر بالافتعال، ويكتشف غياب حرارة الاعتراف. وهكذا يخسر الكاتب مصداقيته، ويخسر النص قيمته، ويخسر التاريخ شاهدًا كان يمكن أن يضيء جانبًا من التجربة العراقية. إن الجرح هنا مزدوج: جرح للذات التي لم تجرؤ على الاعتراف، وجرح للذاكرة الجمعية التي حُرمت من شهادة صادقة.
لكن السؤال يظل قائمًا: لماذا يكتب السياسي أو الأديب مذكراته؟ هل ليكون شاهدًا على زمنه، أم ليبرئ نفسه من تهمة، أو ليصنع لنفسه صورة بطل؟ في العراق، كثير من هذه النصوص اختارت الطريق الأسهل: الدفاع. كأن الكاتب في محكمة، لا في نص أدبي أو تاريخي. كأن اللغة نفسها تتحول إلى محامي، لا إلى شاهد.
وهنا تكمن المفارقة. اللغة لا تستطيع أن تبرئ صاحبها إذا لم تكن صادقة. اللغة شاهدة، لا محامية. كل محاولة لتزييفها تنكشف، لأن القارئ يشعر بالافتعال، ويكتشف غياب الاتساق الداخلي. النص الذي يُكتب بروح الدفاع يفتقد حرارة الاعتراف، ويترك أثرًا باردًا، بلا حياة.
في المقابل، النص الذي يُكتب بروح الاعتراف، حتى لو كان مؤلمًا، يضيء. الاعتراف بالضعف لا يقل قيمة عن البطولة، بل هو البطولة الحقيقية. أن يقول الكاتب: أخطأت، ترددت، ضعفت، هو ما يجعل النص شهادة إنسانية. أما أن يقول: كنت بريئا مما حصل، أو ضحية دائمًا، أو بطلًا دائمًا، فهو ما يجعل النص قناعًا يخفي الحقيقة.
إن فن السيرة والمذكرات في العراق يحتاج اليوم إلى أن يتحرر من هذا القناع. يحتاج إلى أن يعود إلى جوهره: أن يكون شهادة صادقة، لا خطابًا دفاعيًا. أن يكون لغة مخلصة، لا لغة متواطئة. أن يكون ضوءًا، لا قناعًا.
فالكتابة المضيئة ليست ترفًا ومجرد مسعى للتجريب ولعب مع اللغة، بل مسؤولية. إنها التي تحفظ ذاكرة العراق الثقافية من التشويه، وتعيد للزمن المضطرب صورته الحقيقية. لأنه يجعل النص شاهدًا حيًا على عصره، لا قناعًا يخفيه. وهكذا يبقى السر المشرق في الكتابة هو أن تتسق اللغة مع الذات، وأن تتحول السيرة إلى شهادة إنسانية مضيئة، تحفظ للعراق ذاكرته وتمنح القارئ نافذة على الحقيقة، لا على الوهم.



#كرم_نعمة (هاشتاغ)       Karam_Nama#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا تطلب من الذكاء الاصطناعي ما لاتستحق
- حين تُفتي الآلة ويصمت الفقيه
- صندوق أكاذيب البصرة
- مكابرة دنزل واشنطن على السنين والثراء
- من يملك الإعلام العراقي؟ الجواب سهل!
- الملهم غوارديولا.. أخلاقي عندما يتعلق الأمر بفلسطين
- إحسان الإمام يعيد نبض القلوب
- عفيفة إسكندر وشهد الراوي
- المعادل الطائفي في العراق
- الحقيقة المؤجلة عند الشريان وقطيش
- زمن النسيان العام
- باب انتخابي دوّار لا يفضي إلى وطن
- المستقبلية في ألحان كاظم الساهر
- بغداد تتفوق على برافدا في الخيال السياسي
- تونس مختبر الذاكرة
- أينتصر القلم على محفظة النقود؟
- دوخي المفقود في تقاسيم الصبا
- فؤاد التكرلي بين حافظ والعناني
- موعد مع أخطبوط!
- ياسمين الخيام تبتهل بالمولد النبوي الشريف


المزيد.....




- أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو ...
- عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني ...
- الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت ...
- بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟ ...
- الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس ...
- التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم ...
- -ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كرم نعمة - جرح عميق في ذاكرة العراق