|
|
لماذا تستمر بروكسل في حرب خاسرة؟
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 12:22
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
تتدلى ثريات الكريستال ، في أروقة بروكسل الرخامية،مثل دموع مجمدة، هناك تجلس أوروبا على كرسي الاعتراف. لكنها لا تعترف بخطاياها، بل تروي لنفسها حكايات بطولة وهمية. هنا، في القلب النظري للقارة العجوز، تُصنع القرارات التي تدفع بشعوب بأكملها نحو الهاوية، بينما يصر صناعها على أنها درجات نحو المجد. هذه ليست مجرد حرب في أوكرانيا، بل هي انتحار أوروبي بطيء، مُراقب بدقة من وراء المحيط الأطلسي، حيث يتابع القائمون على المشفى الدولي حالة مريض يرفض الشفاء، لأن الموت يعود عليه بأرباح وفيرة.
خطأ المقارنة التاريخية - الاختلافات الجذرية
يميل المحللون إلى مقارنة الحرب الحالية بغزوات تاريخية عظيمة، لكن هذا التشبيه كمن يقارن البرق بالسراج. فغزو نابليون عام 1812 كان زحفاً فرنسياً مباشراً نحو موسكو، جيش أجنبي يحمل رايات الإمبراطورية عبر سهوب روسيا، خطوط إمداده تمتد آلاف الكيلومترات، وهدفه واضح: احتلال العاصمة وكسر الإرادة القيصرية. وغزو هتلر عام 1941 كان تكراراً للمأساة بزي نازي، حيث سارت الدبابات الألمانية على نفس الطرق، حاملةً معها وهم التفوق العرقي ووحشية لا تعرف الرحمة.
لكن حلف الناتو في عام 2022 يقدم نموذجاً مختلفاً جذرياً. هذه ليست حرباً بالمعنى الكلاسيكي، بل هي عملية جراحية عن بُعد. الناتو لا يغزو روسيا، بل يمول أوكرانيا لتفعل ذلك نيابة عنه. الهدف لم يعد احتلال موسكو، بل إضعاف روسيا حتى تصبح ظلها. ليس انتصاراً عسكرياً يُحتفل به في ساحات المدن، بل استنزافاً اقتصادياً يُقاس بمنحنيات الناتج المحلي وأسعار النفط. والأهم من ذلك كله، أن ساحة المعركة ليست أراضي الناتو، بل أوكرانيا وحدها، التي تتحول ببطء إلى مقبرة لجيل بأكمله، بينما يجلس القادة في بروكسل وبرلين وباريس يناقشون إرسال الدبابات التالية وكأنهم يختارون نبيذاً لعشاء دبلوماسي.
الحقيقة المرة التي لا يُجهر بها في صالونات بروكسل الراقية هي أن هذه ليست حرب الناتو ضد روسيا، بل هي صفقة دموية ذات أطراف غير متكافئة. الناتو يدفع: أسلحة تخرج من خطوط الإنتاج الأمريكية والبريطانية، ذخيرة تُحسب بالدولار لا بالأرواح، استخبارات تجمع من أقمار صناعية تراقب من علٍ، وتدريب في معسكرات ألمانية وبولندية بعيدة عن صفارات الإنذار. بينما تدفع أوكرانيا العملة الوحيدة التي لا يمكن طباعتها: دماء شعبها. نصف مليون قتيل، ثمانية ملايين لاجئ، مدن بأكملها تحولت إلى ركام، كل ذلك مقابل وعود بالعضوية في نادٍ يبدو أنه يشترط الموت قبل القبول. والحساب الغربي بسيط وقاس: حتى لو مات كل الأوكرانيين، لن يموت جندي ناتو واحد في هذه المعركة. إنها معادلة الربح المطلق، حيث يخاطر الآخرون بكل شيء، بينما تخاطر المؤسسة العسكرية الغربية بسجلات الميزانية فحسب.
لماذا تستمر بروكسل في حرب تبدو خاسرة؟
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: لماذا تستمر أوروبا في هذه المسرحية المكلفة التي تهدد وجودها نفسه؟ الإجابة تكمن في طبقات من المصالح المتشابكة والأوهام المصطنعة. فالحسابات الاقتصادية الخفية تكشف عن قصة مختلفة تماماً عن تلك التي ترويها البيانات الصحفية. فصفقات السلاح التي تجاوزت مائتي مليار دولار منذ عام 2022 لم تكن مساعدة مجانية لأوكرانيا، بل كانت محفزاً اقتصادياً لشركات الدفاع الأمريكية والأوروبية. ألمانيا، التي كانت تتباهى بتفوقها الصناعي السلمي، خصصت فجأة مائة مليار يورو إضافية للجيش، وكأنها اكتشفت فجأة أن السلام كان خطأ تاريخياً. وشركات مثل لوكهيد مارتن ورايثيون وبي إيه إي سيستمز سجلت أرباحاً قياسية، بينما كانت المدن الأوكرانية تتحول إلى أنقاض. إنها دورة اقتصادية مروعة: الدمار يخلق الطلب، والطلب يخلق الأرباح، والأرباح تبرر المزيد من الدمار.
لكن الأهداف غير المعلنة تتجاوز تجارة السلاح لتصل إلى القلب الصناعي لأوروبا نفسها. ارتفاع أسعار الطاقة دمر صناعة ألمانيا التي كانت تُعتبر محرك القارة. شركة باسف، عملاق الكيماويات الألماني، أغلقت مصانع تاريخية في أوروبا، بينما توسع في أمريكا والصين. صناعة السيارات الألمانية، التي كانت تتوجها مرسيدس وبي إم دبليو وفولكس فاجن، فقدت أربعين بالمئة من إنتاجها، وكأنها تقدم تضحية على مذبح العقوبات. والأخطر من ذلك هو هروب رأس المال الأوروبي إلى أمريكا، حيث استثمرت الشركات الأوروبية مائتي مليار يورو في الولايات المتحدة خلال عام 2023، بينما أفلست مصانع أوروبية وفتحت فروعاً لها وراء المحيط. إنها عملية نقل ثروة ممنهجة، تموهها خطابات عن التضامن الأطلسي.
الهدف الأمريكي الحقيقي يبدأ بالوضوح هنا: إنه ليس هزيمة روسيا، بل هزيمة أوروبا كمنافس. فالقارة التي كانت الاقتصاد الأول عالمياً بإجمالي ناتج محلي يبلغ ثمانية عشر تريليون دولار، تتحول ببطء إلى سوق استهلاكية لمصانع أمريكا. المؤشرات لا تكذب: انهيار اليورو أمام الدولار من سعر صرف 1.2 إلى 0.95، تضخم أوروبي بنسبة عشرة بالمئة مقابل ثلاثة بالمئة في أمريكا، هجرة الصناعة الأوروبية بأكملها إلى حيث الطاقة أرصف والأسواق أكثر استقراراً. إنها معركة وجودية تخوضها أوروبا ضد نفسها، موجهة بيد خفية من واشنطن، تدرك أن تفكيك المنافس أهم بكثير من هزيمة الخصم.
السيناريوهات المحتملة - لماذا قد يستمر الناتو 10 سنوات؟
في عالم اقتصاد الحرب الجديد هذا، تتوزع الأدوار بوضوح مخيف. أمريكا تنتج السلاح وتبيع الغاز المسال وتجذب رأس المال الأوروبي الهارب. أوروبا تستهلك السلاح الأمريكي وتشتري الغاز الأمريكي بأسعار مضاعفة وتفقد صناعتها قطعة قطعة. روسيا تنفق احتياطياتها وتخسر شبابها في ساحات القتال، لكنها تتعلم دروس الاكتفاء الذاتي القاسية. إنها لعبة محصلتها صفر، لكن بعض اللاعبين يخسر أكثر بكثير من الآخرين.
حسابات واشنطن الدقيقة تكشف عن معادلة مالية صادمة. فالتكلفة السنوية على أمريكا للمساعدة الأوكرانية تبلغ خمسين مليار دولار، لكن الربح السنوي يفوق ذلك بكثير: ثمانون مليار دولار صادرات سلاح لأوروبا، مائة مليار دولار صادرات غاز مسال بزيادة أربعمائة بالمئة، ومائتا مليار دولار هروب رأس المال الأوروبي إلى الاقتصاد الأمريكي. النتيجة صافية ربح ثلاثمائة وثلاثين مليار دولار سنوياً، تحققها واشنطن بينما تحترق القارة الأوروبية. إنها ليست حرباً بالمعنى التقليدي، بل هي إدارة محفظة استثمارية بعناوين دموية.
السؤال الذي يبقى هو: كم يمكن أن تتحمل أوروبا؟ الألمان يدفعون أربعين بالمئة أكثر للطاقة، والإيطاليون يدفعون ثلاثين بالمئة أكثر للغذاء، والفرنسيون يشهدون إفلاس مصانع تاريخية كانت جزءاً من هويتهم الوطنية. لكن الأنظمة الأوروبية تظهر قدرة مذهلة على قمع الاحتجاجات. ففي فرنسا، خرج مليون ومائتا ألف شخص إلى الشوارع ضد رفع سن التقاعد، لكن ماكرون مرر الإصلاح بقوة القانون وقمع الشرطة. في ألمانيا، أغلقت مصانع كاملة، لكن لم تشتعل ثورة شعبية. هناك انفصام غريب بين المعاناة اليومية والقدرة على التنظيم الاحتجاجي الفعال، وكأن سنوات الرفاهية الطويلة قد شلت إرادة المقاومة.
نقاط الضعف الأوروبية التي تجعل الهزيمة حتمية
تتعدد نقاط الضعف الأوروبية وتتشابك، فتشكل شبكة من العجز الذاتي. فالتقسيمات الداخلية تعطل أي قرار موحد: بولندا ودول البلطيق تريد حرباً حتى النهاية، ألمانيا وفرنسا تبحثان عن تسوية، المجر وسلوفاكيا تطالبان بالسلام الفوري. النتيجة هي قرارات بطيئة، تناقضات في المواقف، وفرص ضائعة للتفاوض. إنها لعبة الدبلوماسية الأوروبية التي تحولت إلى مسرح للخلافات، حيث يفضل كل طرف أن يظهر موقفاً شجاعاً على شاشات التلفاز، حتى لو كان الثمن دمار القارة بأكملها.
العجز العسكري الحقيقي يضيف طبقة أخرى من المأساة. الجيش الألماني، الذي كان يوماً الرعب الذي هز العالم، أصبح عشرين بالمئة فقط من معداته جاهزة للقتال. الجيش البريطاني، إمبراطورية البحار السابقة، أصبح أصغر جيش منذ مائتي سنة. الجيش الفرنسي، ورث جيوش نابليون، يعتمد على الأسلحة الأمريكية في أكثر معداته حيوية. الحقيقة المرة التي لا يمكن تجاهلها هي أن أوروبا لا تستطيع خوض حرب حقيقية بدون أمريكا، وهذا يجعلها رهينة للقرارات التي تتخذ في واشنطن.
التبعية الاقتصادية القاتلة تكمل الصورة الكئيبة. الطاقة انتقلت من الاعتماد على روسيا إلى الاعتماد على أمريكا، استبدال تبعية بتبعية. التكنولوجيا، خاصة الرقائق الإلكترونية، تسعين بالمئة منها تأتي من تايوان التي تقع تحت الحماية الأمريكية. التمويل مرتبط بشكل عضوي بالدولار، والبنوك الأوروبية تابعة لوول ستريت في قراراتها المصيرية. إنها دائرة مفرغة: التبعية تخلق الضعف، والضعف يزيد التبعية.
هل ستستمر الحرب 10 سنوات؟ تحليل الاحتمالات
سيناريو الاستمرار يحمل احتمالاً بنسبة ستين بالمئة، حيث تستمر أمريكا في الربح، وروسيا في التحمل، وأوروبا في المعاناة دون أن تثور. المدة قد تصل إلى خمس أو سبع سنوات، وليس عشراً، لأن أوروبا قد تنهار اقتصادياً قبل ذلك. النهاية قد تكون تسوية مع روسيا، ولكن بعد أن تكون أوروبا قد دمرت صناعياً وأصبحت سوقاً استهلاكية بالكامل.
سيناريو الثورة الأوروبية يحمل ثلاثين بالمئة من الاحتمال، حيث يكون المحفز انهيار اليورو، إفلاس دول، وثورات شعبية لا يمكن قمعها. الزمن قد يكون سنتين أو ثلاثاً، خاصة إذا وصل التضخم إلى عشرين أو ثلاثين بالمئة. النتيجة قد تكون سقوط الأنظمة الحالية، خروج من حلف الناتو، وسلم مع روسيا على أساس المصالح المشتركة بدلاً من الأيديولوجية.
سيناريو الانفجار الداخلي يحمل عشرة بالمئة فقط، حيث يبدأ الانقسام داخل الناتو نفسه، وتخرج دول من التحالف تحت ضغط شعبي أو أزمات مالية. العلامات المنذرة قد تظهر في انتخابات اليمين المتطرف في أوروبا بين عامي 2024 و2025. النتيجة قد تكون انهيار الناتو كمنظمة، ونهاية الهيمنة الأمريكية على أوروبا، لكن بثمن باهظ من الفوضى والاضطراب.
لماذا أوروبا تذهب نحو الهاوية برغم علمها بالمصير؟
الحقيقة الصادمة التي يجب مواجهتها هي أن بروكسل لا تتحكم في قرارها. فالهيكل الأوروبي نفسه مبني على التبعية: المفوضية الأوروبية غير منتخبة وتعيّنها النخب، البرلمان الأوروبي صوري بلا سلطة حقيقية، والقرار الحقيقي يتخذ في واشنطن ثم يمرر عبر بروكسل كصورة من صور الديمقراطية المشوهة.
مصلحة النخب الأوروبية تفسر الكثير من هذا الاستسلام. السياسيون مرتبطون بمشاريع أمريكية، إما بشكل مباشر عبر العلاقات الشخصية، أو بشكل غير مباشر عبر التمويل الانتخابي. الشركات الكبرى، التي يفترض أنها تمثل الاقتصاد الأوروبي، تجد استثماراتها في أمريكا أكثر من أوروبا. وسائل الإعلام، التي يجب أن تكون مرآة المجتمع، مملوكة إما لأمريكان مباشرة، أو لنخب موالية لأمريكا تخشى على امتيازاتها.
العقدة النفسية تكمل المأساة. أوروبا تعاني من عقدة المستعمر الذي أصبح مستعمراً. من كان يهيمن على العالم بأساطيله وجيوشه وثقافته، أصبح تابعاً لواشنطن. من كان يصدر الحضارة والفنون والعلوم، أصبح يستورد الثقافة الأمريكية الجاهزة. من كان يصنع القرار العالمي في مؤتمرات السلام وحروب التحرير، أصبح ينفذ قرارات واشنطن وكأنه موظف في فرع خارجي.
الخلاصة القاسية التي لا مفر منها هي أن أوروبا تشبه مدمناً يعرف أن المخدر يقتله، لكنه لا يستطيع التوقف. الحرب في أوكرانيا هي الهيروين الذي تبيعه أمريكا لأوروبا: تعطيها وهم القوة والبطولة والأهمية، بينما تدمر جسدها قطعة قطعة. تقدم لها صورة ذهنية عن نفسها كمدافعة عن الديمقراطية، بينما تفقد ديمقراطيتها الداخلية. تبيع لها أحلام الانتصار على روسيا، بينما تهزم نفسها في صمت.
والسؤال الأعمق ليس لماذا تستمر أوروبا في حرب خاسرة، بل إلى متى سيستمر الشعب الأوروبي في دفع ثمن حروب النخب؟ إلى متى ستقبل الأسر الألمانية بدفع أربعمئة بالمئة أكثر للطاقة؟ إلى متى ستقبل العمالة الفرنسية بإغلاق مصانعها؟ إلى متى ستقبل المجتمعات الأوروبية بتحويل قارتها من مركز للحضارة إلى سوق استهلاكي تابع؟
الإجابة قد لا تأتي من قصور بروكسل الرخامية، ولا من مكاتب برلين الزجاجية، ولا من قصور باريس التاريخية. الإجابة قد تخرج من الشوارع الأوروبية التي تئن تحت وطأة التضخم، من المصانع التي تغلق أبوابها، من المزارعين الذين يحرقون محاصيلهم، من الشباب الذين لا يجدون عملاً، من المتقاعدين الذين لا يكفيهم معاشهم. هناك، في الأسفل، حيث تلتقي المعاناة اليومية بالإحباط المتراكم، قد تولد الإرادة للتغيير.
لكن الساعة تدق، والوقت ليس في صالح أوروبا. فمع كل يوم يمر، تهرب استثمارات، تغلق مصانع، يهاجر شباب، وتترسخ التبعية. النافذة الزمنية للتغيير تضيق، والخيارات تصبح أكثر قسوة. إما أن تستيقظ أوروبا من سباتها وتعيد اكتشاف إرادتها المستقلة، وإما أن تتحول إلى ذكرى في كتب التاريخ، تحكي كيف قاربة عظيمة دمرت نفسها لأن نخبها فضلت التبعية المريحة على السيادة الصعبة.
التاريخ لا يرحم الضعفاء، ولا يحفظ مكاناً للتابعين. والأمم التي تنسى دروس السيادة، تدفع ثمن النسيان بأغلى ما لديها: وجودها نفسه. أوروبا اليوم على مفترق طرق، والخيار بين يديها: إما أن تعود لتمثل حضارة مستقلة، وإما أن تتحول إلى حديقة خلفية لحضارة أخرى. القرار لن يتخذه الآخرون، بل سيتحدد في قلوب وعقول الأوروبيين أنفسهم. والسؤال الوحيد المتبقي هو: هل بقي في هذه القارة العجوز ما يكفي من إرادة الحياة؟
المادة الساخرة :
الملهاة الأوروبية التراجيدية: أو كيف تخسر حرباً وأنت تعتقد أنك تكسب؟
المقدمة: حيث تتحول البروتوكولات إلى مهزلة
بين رائحة البن والكرواسون، في بروكسل ،حيث كانت تُصنع القرارات التاريخية ، تجلس اليوم القارة العجوز على كرسي الاعتراف ولكن بلسانين: أحدهما يلهج بخطابات البطولة، والآخر يحسب الخسائر. إنه مشهد يستحق عرضاً كوميدياً: قارة بأكملها تقود نفسها نحو الهاوية بكل أناقة بورجوازية، بينما تظن أنها ترقص على أنغام النصر!
مقارنات تاريخية أو "كيف نخلط التفاح بالموز"
لنتخيل هذا المشهد الكوميدي: نابليون وهتلر يجلسان في عالم الأرواح يشاهدان الأخبار. ينظر نابليون بدهشة: "مون ديو! (الهي) أنا غزوت روسيا بجيشي، خسرت، لكنني على الأقل ذهبت بنفسي!" ويهز هتلر رأسه: "أنا أيضاً، رغم كل شيء، كنت في الجبهة!" ثم ينظران إلى الناتو عام 2022 فيضحكان: "هؤلاء يحاربون بالإنابة! إنهم يدفعون للآخرين ليموتوا مكانهم!"
الاختلاف الجوهري؟ بسيط: في الماضي، كانت الحروب مثل السينما: المخرج والممثلون نفسهم. اليوم، أصبحت مثل برامج الواقع: تدفع للمشاركين، تجلس في الاستوديو، وتشاهدهم يقتلون بعضهم!
الحقيقة المرة؟ هذه ليست حرب الناتو ضد روسيا، بل هي أول حرب في التاريخ يُعلن فيها: "نحن ندعمكم حتى آخر أوكراني!" الناتو يدفع: أسلحة عمرها عشر سنوات بسعر أسلحة جديدة، ذخيرة من مخزونات الحرب الباردة، واستخبارات من تطبيق Google Maps. وأوكرانيا تدفع: أبناءها، مدنها، مستقبلها.
والحساب الغربي العبقري: حتى لو مات كل الأوكرانيين، لن يموت جندي ناتو واحد! إنها معادلة رياضية رائعة: خسارة 100% من الأوكرانيين = خسارة 0% من الناتو!
الاقتصاد الخفي أو "كندرة الفشل"
الحسابات الاقتصادية الخفية تكشف عن روائع كوميدية:
صفقات السلاح: أمريكا تبيع لأوروبا أسلحة بـ200 مليار دولار، ثم تقول: "هذه مساعدة لأوكرانيا!" وكأنك تبيع لشخص دراجة ثم تقول له: "هذه هدية لابن جارك!"
ألمانيا تخصص 100 مليار يورو للجيش: "أخيراً، بعد 80 سنة، سنصبح عسكريين!" لكن المشكلة أن 80% من هذا المال سيذهب لشراء أسلحة أمريكية! إنها حلقة مفرغة: ألمانيا تدفع لأمريكا لتصبح قوية، لتتمكن من... الاستمرار في الدفع لأمريكا!
الشركات الدفاعية تسجل أرباحاً قياسية: لوكهيد مارتن توزع أرباحاً على مساهميها، بينما توزع أوكرانيا شهادات وفاة على مواطنيها. ما أجمل الرأسمالية: الموت يجلب الحياة... للأسهم!
الأهداف غير المعلنة? ألمانيا تدمر صناعتها بنفسها: مصانع السيارات تغلق، مصانع الكيماويات تهرب إلى الصين، والخلاصة: "لقد انتصرنا على أنفسنا قبل أن ننتصر على روسيا!"
الغاز المسال الأمريكي: أوروبا كانت تشتري الغاز الروسي بـ-$-100، الآن تشتريه أمريكياً بـ-$-400، وتصرخ: "حرية التكلفة!"
تحويل الاستثمارات: مصانع أوروبية تغلق في ألمانيا، تفتح في تكساس، والمفارقة: نفس المالك، نفس المنتج، لكن الأسعار تضاعفت! وهنا تسقط دمعة أوروبية على خد الرأسمالية: "كنت أظنك حبيبتي، فإذا بكِ عاهر!"
التمثيلية الأوروبية أو "كيف تدفع أكثر وتحصل على أقل"
مشهد من الحياة اليومية الأوروبية:
الألماني يفتح فاتورة الغاز: "يا إلهي! 400% زيادة! لكن... على الأقل نحن ندعم الديمقراطية في أوكرانيا!" ثم يذهب لشراء سجائر من متجر تركي، لأن السجائر الألمانية أصبحت ترفاً.
الفرنسي يشاهد مصنعاً تاريخياً يُغلق: "أوه لا! مصنع عائلتنا منذ 150 سنة! لكن... انتظر، الرئيس قال إننا نربح الحرب!" ثم يذهب ليشتري سيارة كورية، لأن السيارات الفرنسية أصبحت بأسعار اليخت.
الإيطالي ينظر إلى فاتورة الطعام: "مادونا! 30% زيادة! لكن... الصحف تقول إن بوتين يرتجف!" ثم يأكل باستا من القمح الأمريكي، لأن القمح الإيطالي أصبح للتصدير فقط.
والحكومات الأوروبية تبرر: "نعم، تدفعون أكثر، لكن... انظروا! نحن نربح معنوياً!" وكأنهم يقولون: "الجوع جيد للروح!"
القدرة على التحمل الأوروبية؟ الأسرة الألمانية تجلس في غرفة واحدة في الشتاء لتوفير التدفئة، بينما تتحدث ميركل على التلفزيون: "الأوروبيون يظهرون صلابة استثنائية!" نعم، صلابة تجمد الأصابع!
فرنسا: 1.2 مليون محتج، ماكرون يمرر القوانين وكأنه يقول: "احتجوا كما تشاؤون، القرارات تتخذ حيث نريد!" إنها الديمقراطية الأوروبية: تصوت كما نريد، أو لا تصوت على الإطلاق!
الوحدة الأوروبية أو "كيف تختلفون في كل شيء وتتحدون في الخسارة"
الانقسامات الداخلية الأوروبية هي بحق كوميديا سوداء:
بولندا تصرخ: "حتى النهاية! سنقاتل حتى آخر أوكراني!" ألمانيا تهمس:"ربما... تسوية؟" المجر تتمتم:"سلام الآن! لن ندفع فلساً!" النتيجة:قرار أوروبي نموذجي: "لنفعل شيئاً لا يرضي أحداً، لكنه يكلف الجميع!"
العجز العسكري الحقيقي؟ الجيش الألماني: 20% من معداته جاهزة! وكأنهم يقولون: "لدينا جيش رمزي، للاستعراضات فقط!" الجيش البريطاني:أصغر جيش منذ 200 سنة! "نحن نؤمن بالجودة لا الكمية... حتى في الجيوش!" الجيش الفرنسي:يعتمد على أسلحة أمريكية! "نحن أصل الحضارة، ولكن... نستورد الحضارة العسكرية!"
التبعية الاقتصادية القاتلة تقدم مشاهد هزلية: الطاقة:من الاعتماد على روسيا إلى الاعتماد على أمريكا! "استبدلنا سيداً بسيد، لكن السيد الجديد أغلى!" التكنولوجيا:90% من الرقائق من تايوان! "نحن عقل العالم، ولكن... العقل مصنوع في مكان آخر!" التمويل:اليورو مرتبط بالدولار! "عملتنا مستقلة... ولكن مستقلة في اتباع الدولار!"
المستقبل أو "كيف تستمر في الشيء الفاشل"
سيناريو الاستمرار (الاحتمال 60%): أمريكا تربح، روسيا تتحمل، أوروبا تدفع! صورة المستقبل: أوروبا بدون مصانع، بدون طاقة رخيصة، بدون عملات قوية، ولكن... بخطابات أخلاقية رنانة! "نحن أفقر، لكننا أطهر!"
سيناريو الثورة الأوروبية (الاحتمال 30%): الشعب يستيقظ! لكن بطريقته الأوروبية المميزة: إضرابات منظمة، احتجاجات بترخيص، ثورات بموافقة البلدية! "نحن حتى في الثورة نلتزم بالقوانين!"
سيناريو الانفجار الداخلي (الاحتمال 10%): كل دولة لشأنها! ألمانيا تعود للتفكير بدماغها، فرنسا تعود لغرورها، بولندا تعود لشكواها الدائمة! والناتو؟ يصبح ذكرى مثل عصبة الأمم!
لماذا تستمر أوروبا في المهزلة؟
الإجابة بسيطة: لأن القادة الأوروبيين يعتقدون أنهم في مسرحية شكسبير، بينما هم في واقع الأمر في مسرحية هزلية!
التبعية الهيكلية: المفوضية الأوروبية غير منتخبة! "نحن نختار من يختار لنا!" البرلمان الأوروبي صوري!"نصنع القرارات حيث لا يرانا أحد!" والقرار الحقيقي في واشنطن!"نحن الأوروبيون الأحرار... أحرار في تنفيذ ما يقوله الأمريكيون!"
مصلحة النخب: السياسي الأوروبي مرتبط بمشاريع أمريكية! "لا يمكنني معارضة من يملك أرشيفي!" الشركات الكبرى تستثمر في أمريكا أكثر من أوروبا!"الوطن حيث الربح!" وسائل الإعلام مملوكة لأمريكان!"حرية التعبير... ضمن الحدود الأمريكية!"
العقدة النفسية: أوروبا التي حكمت العالم أصبحت تابعاً! وكأن الإمبراطور الروماني يستيقظ ليجد نفسه حارس أمن في متجر! أوروبا التي صدرت الحضارة تستورد الثقافة!وكأن شكسبير يكتب مسرحياته بلغة الإشارة الأمريكية! أوروبا التي صنعت القرار العالمي تنفذ القرارات!وكأن نابليون يصبح ساعي بريد!
أوروبا اليوم كالمدمن الذي يعرف أن المخدر يقتله، لكنه يقول: "جرعة أخرى فقط!" الحرب في أوكرانيا هي الهيروين الجديد: يعطيك أوهاماً بالنصر، ويأخذ منك كل شيء!
المشهد الأخير: الشارع الأوروبي يستيقظ، ينظر حوله، ويسأل: "لقد دفعنا الثمن، ولكن... من كان البائع؟"
وأوروبا تجيب: "لقد كنا نحن البائع والمشتري في نفس الوقت! بائعو أوهام، ومشترو كوارث!"
والستارة تسقط على قارة كانت عظيمة، وأصبحت... كوميديا سوداء تبحث عن مخرج! لكن المخرج الوحيد هو الجمهور الذي لم يعد يضحك!
………. قسم دراسات سمير امين في بيت الثقافة البلجيكي العربي ـ لييج ـ بلجيكا
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليمن كقلب العالم الجديد - إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية
-
رواية : الرحلة المقطوعة
-
في حضرة الضوء: الصين تعيد كتابة قوانين الحوسبة والقوة
-
رواية - من طيرة اللوز إلى الراين - أو - ظلال الكرمل -
-
نهاية الإمبراطورية الرقمية: كيف خسرت أمريكا سباق الرقائق أما
...
-
دراسة أدبية نقدية معمقة لرواية -دمية بعين واحدة- لأحمد صالح
...
-
حلب... عندما تَصْفَعُ المدافعُ وجهُ الماضي
-
في تشريحِ خُرَافَةِ مُعَادَاةِ السَّامِيَّةِ وَتَجْنيدِهَا س
...
-
بروكسل في الفجر: فاتورة الوهم على كاهل أوروبا( كتيب)
-
كبت الرمال: تناقضات التقوى في محميات الخليج
-
همسة رضيع في عاصفة الإبادة..قصة قصيرة عن الهولوكوست الأمريكي
...
-
مقبرة الأسياد.. كيف تشيّع بروكسل أحلامها بأكفان شعبين؟..الجو
...
-
قمة بروكسل تفضح أزمة الإمبريالية المتأخرة في مواجهة روسيا
-
في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : ا
...
-
قصة : رقصةُ الغزال الأخيرة
-
تقشف أوروبي تحت غطاء العسكرة: كيف يُعاد تشكيل الدولة الاجتما
...
-
انتصار جنرال الوقت على الهيمنة الأمريكية
-
تراجع التفوق الأمريكي: وثيقة سرية تكشف هشاشة الإمبراطورية أم
...
-
يوروكلير: قبر اليورو الذهبي
-
كيف استثمرت بروكسل في هزيمتها المحققة اليوم
المزيد.....
-
كيف وصف زيلينسكي بوتين بعد أطول هجوم روسي على منطقة كييف؟
-
انهيار طيني وانفجار غاز طبيعي جنوب كاليفورنيا يتسبب بإغلاق ط
...
-
السعودية.. هيئة العناية بالحرمين تكشف عن مدة أداء العمرة وعد
...
-
مجلس الأمن يناقش الاعتراف الإسرائيلي بجمهورية أرض الصومال وت
...
-
عرض ليلي يضيء سماء صقلية.. ثوران بركان إتنا يدهش المتزلجين ع
...
-
على وقع تهديد روسي ودعم أوروبي زيلنسكي يستعد للقاء ترامب
-
كأس أمم أفريقيا: هل سيحضر مبابي مع عائلته مباراة الجزائر ضد
...
-
مباشر: الجزائر - بوركينا فاسو... الخضر في معركة انتزاع تأشير
...
-
-أسطول الظل- بعد حملة الكاريبي.. حرب عالمية بوتائر متباينة
-
سجال رقمي بين وزارة الدفاع التركية والجيش الإسرائيلي يثير مو
...
المزيد.....
-
حين مشينا للحرب
/ ملهم الملائكة
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
المزيد.....
|