أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جعفر المظفر - الماريشال محمد سعيد الصحاف















المزيد.....

الماريشال محمد سعيد الصحاف


جعفر المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 18:17
المحور: سيرة ذاتية
    


ما زلت أتذكر جيداً تلك الحادثة. في إحدى جلسات المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي تشكل بعد تأسيس نظام البعث في 17 تموز من عام 1968, ولما كنت مسؤولاً عن الثقافة والإعلام طُلب مني الذهاب إلى مقر الإذاعة والتلفزيون في الصالحية لمقابلة المدير العام محمد سعيد الصحاف بعد أن تم التفاهم معه على الأمر بواسطة الشاعر الأستاذ حميد سعيد رئيس المكتب في دورته الأولى.
عند وصولي، أخبرني موظف الاستعلامات أن الصحّاف ينتظرني في حديقة المبنى المتواضعة. وما إن رأيته حتى شعرت بأن الاستهانة كانت حاضرة معنا. كان الصحاف يرتدي بزته العسكرية الكاملة، وعلى كتفيه ثلاث نجمات ذهبية لامعة تشير إلى رتبة نقيب. لم تكن الرتبة بحد ذاتها ما أثار دهشتي، بل طريقة ظهوره واستقباله لي.
في تلك الفترة لم تكن البيروقراطية قد تغلغلت بعد في مؤسسات الدولة، وكانت التقاليد الحزبية تتقدم على الرسمية، حتى إننا كنا نخاطب كبار المسؤولين بأسماء أبنائهم، كأن نقول «رفيق أبو عدي» لصدام حسين، و«رفيق أبو دحّام» لعبد الخالق السامرائي رغم أن السامرائي نفسه لم يكن متزوجاً وإنما هي كنية رافقته بعد ذلك إلى قبره الكريم. لكن الصحّاف ظهر مختلفاً تماماً؛ فقد بدأ حديثه معي بتعالٍ واضح، ممسكاً بعصا «المارشالية» يضرب بها نباتات الحديقة كلما أنهى جملة من جمله المباركة.
لم يردّ حتى على تحيتي، بل بادرني مباشرة بأنه سيكلف قسم البرامج للتنسيق معي، وكأنه كان يريد إنهاء اللقاء بأسرع ما يمكن. شكرته باقتضاب وغادرت إلى مقر الاتحاد لأبلغهم بضرورة اختيار شخص آخر للتعامل مع «الماريشال» الكبير محمد سعيد الصحّاف.
في نهاية عام 1980 صدر قرار من القيادة القومية يقضي بنقل جميع أعضاء المكاتب من العراقيين الذين تجاوزت خدمتهم ثلاث سنوات. أما أنا فكنت قد أمضيت أكثر من عشر سنوات في المكتب القومي، ولم أعمل في التنظيم القطري إلا لفترة قصيرة قبل تفرغي في السبعينات، ثم عدت إليه بعد إنهاء دراستي العليا في أمريكا.
نُقلت إلى ملاك الحزب في العراق بدرجة عضو قيادة شعبة. لكنني شعرت بأن الحزب الذي عرفته لم يعد هو نفسه؛ فقد بدأت العلاقات الرفاقية البسيطة تتراجع لتحل محلها علاقات رسمية جامدة، وصارت البيروقراطية تطغى على الروح الحزبية. ولم يعد غريباً أن تلقي التحية على طه ياسين رمضان دون أن تتلقى جواباً.
كان الحزب قد تضخم كثيراً. فبعد عام 1968 كان هناك فرع واحد في بغداد، يضم أربع شعب، وكل شعبة أربع فرق، وكل فرقة أربع منظمات، تتكون كل منها على الأقل من أربعة أعضاء عاملين أو متدربين. وسيكون بوسع هؤلاء الحصول على العضوية العاملة التي تمنحهم حق انتخاب القيادات من مستوى الفرقة حتى القيادة القطرية. ومع مرور الوقت أصبح من المتعارف عليه أن لا يتم اختيارأي عضو في القيادة القطرية دون موافقة صدام، رغم الإجراءات الانتخابية الشكلية.
تم تنسيبي إلى فرع أبي جعفر المنصور، وتقرر أن أتولى مسؤولية فرقة المنصور. وكان من واجباتي أن أكون خفر شعبة بين حين وآخر، فأمضي الليل في مقر الشعبة لمتابعة أي طارئ، يعاونني عدد من الأعضاء والأنصار الذين يتولون الحراسة.
في إحدى ليالي الخفارة، حدث الموقف الذي لا أنساه. كان محمد سعيد الصحّاف قد عوقب من القيادة، فأُبعد عن مناصبه الحزبية والإدارية، وعاد مدرساً للغة الإنجليزية في إحدى مدارس بغداد، وعضواً بسيطاً في الحزب بعد أن كان في مواقع متقدمة. وقد أظهر التزاماً كبيراً بتنفيذ العقوبة، فكان يؤدي واجباته دورياً كعضو خافر في شعبة المأمون.
في تلك الليلة، وصلت إلى مقر الشعبة في اليرموك، وكان أربعة من الأعضاء الخافرين يقفون عند البوابة بزي الجيش الشعبي، ومن بينهم الصحّاف. وما إن رأوني حتى أدّوا التحية العسكرية. نزلت من سيارتي ورددت التحية، ثم مددت يدي إلى الصحّاف وسحبته معي إلى السيارة، وصحبته إلى غرفة الخفارة، ثم سألته بكل احترام التفضل بالجلوس, ثم طلبت لنا قدحين من الشاي.
لم يكن سلوكي معه مقصوداً لأجل المقارنة بين موقفه السابق وموقفي الحالي، بل جاء تلقائياً. وقد شعرت أنه يستحق الاحترام كما هو. ورأيت أنه بدا عليه الارتياح، لكنني لم أترك له فرصة استعادة مشهد تعاليه القديم في حديقة الإذاعة، فسألته عن الكتاب الذي يحمله، وقد اكتشفت حينها سعة اطلاعه واهتمامه بالأدب والفكر والسياسة.
كانت العقوبة التي أعادت الصحاف إلى مهنة التدريس وأنزلت درجته الحزبية إلى مواقع دنيا تهدف إلى تطويعه، وقد نجحت. وتذكرت حينها قول صديقي كاظم جعفر في منتصف السبعينات، (تذكّر يا صديقي أننا كنا نعمل معهم، أما اليوم فصرنا نعمل عندهم).
ويبدو أن هذا المعنى وصل إلى الصحّاف أيضاً؛ فقد أدرك أنه لم يعد في مرحلة «معهم»، بل أصبح في مرحلة «عندهم» فبدأت بعد ذلك رحلة استعادة مواقعه الحزبية والرسمية، وأجاد الانتقال بين المرحلتين.
بعد فصلي من الحزب وتقاعدي، تفرغت لعيادتي في حي المنصور البغدادي. وكان من بين مراجعي الدائمين الصديق (م.أ) وعائلته. والرجل هو كردي من دهوك، وقد أصبح لاحقاً من المقربين لي.
قبل انتقاله من دهوك إلى بغداد للعمل في صحيفة «الثورة»، طلب من مسؤوله الحزبي تأجيل إرسال قسيمة نقله ثلاثة أشهر ليستريح من سنوات العمل المتواصل. لكنه ما إن باشر عمله بعد يوم من وصوله حتى دخلت عليه في مكتبه وأبلغته بوصول قسيمة نقله إلى شعبة الكرادة للحزب، وطلبت منه حضور اجتماع الغد. وكان يروي هذه القصة مازحاً أمام زواره، قائلاً إنني قطعت عليه إجازته، لكنني أكسبته صداقة ثمينة.
تدرج صديقي (م.أ) في مناصب عدة، حتى أصبح سفيراً. وقد حدثني مرة أنه بعد عودته من الخارج أراد كالعادة مقابلة وزير الخارجية محمد سعيد الصحّاف، فدخل مع وكيل الوزارة إلى مكتبه. وما إن فتح الباب حتى صرخ الصحّاف على مسمعٍ من محدثه على الطرف الآخر من التلفون وكأنه يفرغ فيه ما فرغه فيه رئيسه الذي فوق, حتى كأنهم صاروا يمارسون لعنة الإسقاط : رئيسي يصرخ بوجهي وأنا أصرخ بوجه مرؤوسي.
قلت لصديقي السفير: بعض الناس يتعلمون من الدروس باتجاه واحد. فالصحّاف تعلم الخوف من رئيسه، لكنه ظل منحنياً كراكب دراجة يرضيه أنه يضع قدميه على الدواسة. وتذكرت مشهدينا معاً: الأول في حديقة الإذاعة حين كان مديراً، والثاني عند بوابة شعبة المأمون حين صرت أنا المدير.
أيقنت بعدها أن الرجل يعيش تحت وطأة خوف دائم من صدام، وأن تجربة إعادته إلى التدريس كانت كابوساً يطارده. لذلك لم يكن غريباً أن يقف أمام الكاميرات يبشر بالنصر على «العلوج**» بينما الدبابة الأمريكية كانت تسير خلفه مباشرة. لقد كان خائفاً إلى حد العمى عن رؤية الواقع.
ومع ذلك، كان الصحّاف الوحيد الذي زرع الابتسامة على وجوه العراقيين حين راح يعلن «النصر المؤزر» بينما كان النظام في شدة انهياره .
وربما لهذا السبب وضعه الأمريكيون على أول طائرة, بدلاً من أن يسجنوه كما فعلوا مع غيره من مسؤولي النظام, وذلك تقديراً لدوره الكوميدي الذي أضحكهم في الوقت العصيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من (في ضيافة المدافع)سيرتي المعدة للإصدار.
**العلوج تُستخدم في العربية الحديثة غالبًا كلقب ازدرائي يشير إلى العدو الأجنبي أو الغريب المحتل.



#جعفر_المظفر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميشيل عفلق مسلماً
- البعث وأزمة الهوية الدينية*
- في ضيافة المدافع .. حزب البعث ومعضلة البحث عن الهوية (2)
- في ضيافة المدافع .. حزب البعث ومعضلة البحث عن الهوية (1)
- الديمقراطية العراقية .. حلم أن تبيض الدجاجة أسداً
- في ضيافة المدافع .. الهزيمة في الشوش
- في ضيافة المدافع بعض من الرجال الأوفياء
- قصة مدينتين
- في غرفتي طارق عزيز .. (في ضيافة المدافع)
- ما بعد تموز 1958 .. هذا ما حدث (2)
- بعد تموز عام 1958 .. هذا ما حدث
- المقاطعة المشاركة
- في ضيافة المدافع .. صمت الفرسان
- لن نمسح مساوئ إيران بمساوئ إسرائيل
- بين السيء والأسوأ منه
- صدام حسين لم يكن عميلاً
- الشاعر كأديب والشاعر كإنسان
- (الحرام الحرام) و(الحرام الحلال)
- بين الدولة المدنية والدولة العلمانية
- حوار مع الأستاذ سالم مشكور فساد في النظام مقابل نظام للفساد ...


المزيد.....




- أمريكا تعلق على اتفاق جديد لوقف القتال بين تايلاند وكمبوديا ...
- شخص يهاجم بسكين نجاة ومادة سائلة.. ويصيب 15 شخصا بينهم خمسة ...
- تايلاند وكمبوديا تتفقان على -وقف فوري- لإطلاق النار بعد أساب ...
- السعودية - شريفة الغوينم: كان حلمي أن أبتكر روبوتا يكشف اكتئ ...
- لبنان: باريس تندد بإطلاق نار إسرائيلي أصاب أحد عناصر اليونيف ...
- نيويورك تايمز: هدى طفلة غزية كافحت المرض لتحيا لكن الحصار قت ...
- دراما الجامعة في -ميد تيرم- طموح الفكرة وسطحية التنفيذ
- باكستان: مستعدون للذهاب لغزة ولا نسعى لنزع سلاح حماس
- إيران: الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل تشن حربا شاملة علين ...
- هجوم مكثف على كييف وزيلينسكي يبحث جهود السلام مع الأوروبيين ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية (مذكرات شيوعى ناجٍ من الفاشية.أسباب هزيمة البر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جعفر المظفر - الماريشال محمد سعيد الصحاف