|
|
في ضيافة المدافع .. الهزيمة في الشوش
جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 22:45
المحور:
سيرة ذاتية
قادة الجيش المنهزم شرّ هزيمة، العائدون من الكويت، لاقوا الأسوأ. دبّر لهم صدام مكيدة بدعوى أنهم لم يقاتلوا في الكويت، وكان الإعدام بانتظارهم. تذكّرت حينها ما جرى لي في منطقة السنّ الصخري بعد الهزيمة الماحقة في الشوش وانسحاب الفيلق الرابع بكامله من المناطق الإيرانية المحتلّة. لم يبقَ غير قاطعنا في المناطق الأمامية المتقدّمة، فلجأنا جميعًا إلى "الشقيّات" التي حفرناها قبل أيام من معركة الشوش الكبرى. في الليل، حيث باشر الإيرانيون هجومهم الكاسح، كانت رائحة البارود مع شظايا من قنابل المدفعية التي أُطلقت علينا طوال الليل تدخل إلينا ونحن في شقيّاتنا الضيّقة التي لم يكن الواحد منها يتّسع بالكاد إلا لشخص واحد، أو فلنقل مثل جنين صار جسمه أكبر من رحم أمه فتقوّس لكي يتلاءم مع المكان. كنت قد أحسست في بداية الليلة السابقة بهدير الدبابات العراقية وهي تسير منسحبة على الطريق المحاذي للتلّة التي ندافع عنها، فانتابني الشكّ أن جيشنا في طريقه إلى الانسحاب. لم يتوقّف ذلك الهدير طيلة الليل. خاطرت زاحفًا في الظلام ومعي أحد أعضاء الفصيل الذي بأمرتي لمعرفة سرّ ذلك الضجيج المتواصل الذي أحدثته حركة الدبابات العراقية. سألت أحد الضباط عمّا إذا كان هناك انسحاب، فأجابني بالنفي، زاعمًا أنهم في طريقهم للالتفاف على الجيش الإيراني الذي استطاع الاختراق، وأمرني بالحفاظ على مواقعنا. الضابط العراقي لم يقل لي الحقيقة، ربما لاعتقاده أنه يحافظ على سرّ عسكري، لكن الذي كنّا ندركه أن الودّ بيننا وبين العسكر كان غائبًا. هؤلاء كانوا يتمنّون نهاية سريعة لحرب أكلت الأخضر واليابس. أغلب الجيش العراقي الذي بدأ دخوله إلى الأراضي الإيرانية قبل عامين انتهى بين شهيد وأسير. القديم الذي تبقّى والجديد الذي عوّض الخسائر يرى أن متطوّعي الحزب قد حلّوا ضيوفًا ثقالًا وغير مرحّب بهم. مجيئهم كان يعني أن الحزب وقادته ليسوا بصدد البحث الجادّ عن حلّ قريب لإيقاف تلك الحرب الطاحنة، وأنهم لا يقدّرون حقًا حجم الخسائر الجسيمة التي يقدّمها الجيش، أو أنهم غير مهتمّين بذلك أصلًا. ومهما كان الأمر، فإن الجيش أسقط همّه الكبير ذاك بأشكال متعددة ضد الجيش الشعبي وألوية المهمّات الخاصة من المنضمّين إلى حملات التطوّع التي نودي بها نهاية عام 1981، أي بعد سنتين على نشوب الحرب. حينما ولّينا الأدبار عند فجر اليوم التالي، ركضنا مع الجيش المنسحب نحو منطقة المفرق في جبهة ميسان، وحينما وصلنا إلى السنّ الصخري، وهو طريق ضيّق على قمّة جبل عريض، لاقتنا فرق الإعدام تأمرنا بالتوقّف خلف الصخور الكبيرة لذلك السنّ لمقاومة الإيرانيين الذين بدأوا يأخذون الأسرى العراقيين مثلما يُقطفون الثمار الناضجة في يوم حصاد، وكان أغلبهم من قواطع الجيش الشعبي التي لازمت مكانها دون أن تصلها أوامر الانسحاب، فذهبوا ضحية الهرج والمرج الذي قاد به صدام معركته ضد إيران. أمرتنا فرق الإعدام أن نشكّل حاجزًا أماميًا لكي نعطّل زحف الجيش الإيراني، ولكي نوفر للجيش العراقي غطاءً لانسحابه، حيث تصوّروا أن بإمكان عدّة أفراد أن يقوموا بما عجز عن القيام به جيشٌ كامل. لكن فرق الإعدام نفسها لم تبقَ ثابتة، بل ولّت هاربة بعد أن أمرتنا بالبقاء في السنّ الصخري لأجل تغطية هروبها، ويا روح ما بعدك روح. كل تلك الذكريات، وأكثر مما سأكتبه في صفحات لاحقة، تعود إلى ذاكرتي حينما أقارن بين معاناتنا أثناء الحرب، وقضية اتّهامنا بلا خجل بالجبن والتخاذل، فأنظر عندها إلى مشهد القياديين البعثيين الكبار الذين لم يطلقوا طلقة واحدة في معركة زجّوا العراق فيها، وتركوا شعبه وحيدًا تائهًا أعزل في مواجهة قوى التحالف المدجّجة بالسلاح. لقد قاتلنا في الجبهة، وكنا على بعد ثلاثمائة متر من القوات الإيرانية، سواءً في البسيتين الأولى والثانية، وفي فتحة الرادار في منطقة الشوش، لكننا لم نسمع أن أحدًا منا قد تسلّل في ظلام الليل ليسلّم نفسه للعدو. الدكتور نعيم العضاض، صاحبي منذ أن كنّا في أمريكا لغرض الدراسة، حيث كان متخصصًا في الفيزياء، وكان رفاقه في المخابرات العراقية يسمونه "العبقري"، زارني في عيادتي بعد رجوعنا من الجبهة، وكان حينها مديرًا عامًا في جهاز المخابرات العراقية، لكي يقصّ عليّ كيف أن قصة ضياعي في الأرض الحرام في منطقة البسيتين قد وصلت إلى أسماعهم، مع مواقف بطولية أخرى ذهب ضحيتها عدد من الشهداء "المتّهمين بالجبن والتخاذل"، وكان من بينهم اثنان من شباب المحمودية الذين لم "يتطوّعوا" بسبب وجودهم في مرحلة الدراسة للحصول على الدكتوراه من الجامعة المستنصرية، فتصوّروا أن قضية التطوّع بمعناها في اللغة العربية تعني حرية الاختيار. بعد الهزيمة في الكويت، التقيتُ صديقي الدكتور نعيم العضاض في أحد فنادق بغداد، وكان يعمل حينها مستشارًا في اليونسكو. وأنا أعرف الرجل جيدًا، إذ لا يستطيع أن يمنع نفسه من نقد النظام، خاصة بعد أن أُقيل من جهاز المخابرات. قلت له إنّ قرار خروجه من العراق كان خاطئًا، والأكثر خطأً عمله في منظمة دولية. صدام حسين لن يسامحه، ونصحته على الأقل أن يلزم الصمت ما دام ينوي زيارة العراق. فالمخابرات العراقية سوف تلاحقه وتغتاله، حتى لو كان في الأردن، فقد حصل ذلك مع شقيق الدكتور إياد علاوي. وفعلًا، حصل الأمر نفسه مع الدكتور نعيم العضاض، فبعد أن أوهموه بوجود مجلس عزاء إثر وفاة والدته، اغتالوه على طريق عمّان – بغداد برصاصة في جبينه. في المقابل، كان طه ياسين رمضان، الذي طالب بإعدامنا بحجّة أننا لم نتطوّع، قد سلّم أقدامه للريح حتى عُثر عليه متخفّيًا في منطقة كردية شمال العراق، وهكذا فعل القائد المهيب صاحب المائة وعشرين لقبًا، الذي أُلقي القبض عليه متخفّيًا، والذي كان يُعدم خصومه من العسكريين الأبطال بدعوى تراجعهم عن مواجهة العدو، فإذا به يهرب دون أن يخوض معركة، وكان الأحرى به أن يستشهد حتى يختتم تاريخًا كان قد كتبه بدم ضحاياه. أما عزّت الدوري، نائب الرئيس لشؤون الإعدامات، فقد كان أحد أبطال قصة الهروب الكبير، حتى ظهر في شمال العراق بعد أن منحه مسعود البارزاني الأمن، وأهداه فيلّا كبيرة لكي يقود منها ما تبقّى من الحزب، وهي عملية تحتاج بكل تأكيد إلى تفسيرات ضرورية. أما محمد الصحّاف، فعلينا ألّا نتعامل مع قضيّته كشخص، وإنما علينا أن نتعامل مع النظام الذي صنع منه مسكينًا.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ضيافة المدافع بعض من الرجال الأوفياء
-
قصة مدينتين
-
في غرفتي طارق عزيز .. (في ضيافة المدافع)
-
ما بعد تموز 1958 .. هذا ما حدث (2)
-
بعد تموز عام 1958 .. هذا ما حدث
-
المقاطعة المشاركة
-
في ضيافة المدافع .. صمت الفرسان
-
لن نمسح مساوئ إيران بمساوئ إسرائيل
-
بين السيء والأسوأ منه
-
صدام حسين لم يكن عميلاً
-
الشاعر كأديب والشاعر كإنسان
-
(الحرام الحرام) و(الحرام الحلال)
-
بين الدولة المدنية والدولة العلمانية
-
حوار مع الأستاذ سالم مشكور فساد في النظام مقابل نظام للفساد
...
-
مقالة من سبعة سطور .. (العراقي السوري .. الصورة والمرآة)
-
طوفان الأقصى وما أدراك ما طوفان الأقصى
-
العقائدي السايكوباث
-
الطائفية التقدمية
-
أصحاب الحناجر المريضة
-
الدولة المدنية والدولة العًلمانية
المزيد.....
-
حصريا لـCNN: بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أمريكا بش
...
-
مستوطنون إسرائيليون يشعلون حريقا في بلدة بالضفة الغربية مع ت
...
-
الحزب الشعبي الإسباني يعقد أول اجتماع له في مليلية ويقول إنه
...
-
إسبانيا: مطالب بمساءلة الحكومة حول -مركزي احتجاز مهاجرين- في
...
-
دراسة مموّلة من ألمانيا: الجيش الموريتاني -شديد التسييس- ودو
...
-
الشرع في واشنطن.. الغولف بعد السلة؟
-
الجيش الإسرائيلي يعتقل مستوطنين بعد هجمات واسعة على قرى فلسط
...
-
رئيس كولومبيا: أمرت أجهزة استخبارات إنفاذ القانون بتعليق جمي
...
-
حقوقيو تونس يطلقون -صرخة فزع- بعد تعليق نشاط 17 منظمة
-
إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل
المزيد.....
-
أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة
/ تاج السر عثمان
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
المزيد.....
|