|
|
ميشيل عفلق مسلماً
جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 20:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ميشيل عفلق مسلماً*
المشهد الذي عشته في تلك المرحلة الممتدة من عام 1973 إلى عام 1976، على هامش علاقة الحزب بالدين بشكل عام، وبالإسلام بشكل خاص، هو ذلك الذي وضعني مع بعثيين آخرين في مواجهة التيارات اليسارية الناشطة بين صفوف الطلبة العرب في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تعلن عن إدانتها لـ (اليمين البعثي العفلقي) الذي يهيمن على السلطة في العراق. وكان من الطبيعي أن يستثمر أولئك (اليساريون)، الذين كان أغلبهم من أعضاء وأنصار الجبهتين: الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش، والديمقراطية المنشقة عنها بقيادة نايف حواتمة، الخطاب الذي يدين الحزب، وذلك من خلال التأكيد على علاقته بالدين الإسلامي وزيف ادعائه العلمانية. وكنت حينها مسؤولًا عن المكتب الطلابي البعثي في أمريكا، لذلك وضعني ذلك في مجابهة الحملة الشرسة التي يقودها هؤلاء، وخاصة في المؤتمرات السنوية لمنظمة الطلبة العرب. وقد شهدت الساحة الأمريكية في منتصف السبعينات تصاعدًا واضحًا في الحملات التي استلت سيف الخطاب اليساري المتطرف ضد حزبنا. بالنسبة لي، بدوت خائفًا من إمكانية أن تلتبس على البعثيين أنفسهم طبيعة العلاقة البعثية مع الدين. وما ظننته خطابًا مقتدرًا لمحاولة تفعيل العلاقة الجدلية بين الثقافة والتاريخ الإسلامي من جهة، والعروبة والسياسة من جهة أخرى، والذي كان محاولة متميزة وموفقة لتلافي الأخطاء الشيوعية بشأن خطابهم المتقاطع مع الدين، رأيت أنه قد يكون جاذبًا للمجاميع التي انتمت إلى الحزب بفعل ميولها الدينية، مما يهيئ الحزب لأن يكون عرضة للوقوع في أحضان المتدينين. وكنت أنبّه إلى خطر أن ينزلق الحزب نحو طريق "الأخونة"، لتأتي محاولة التفعيل في النهاية لصالح الخط الإسلامي داخل الحزب، وليس لصالح الخط العلماني داخل الإسلام. وحينما تقررت زيارتي إلى العراق مع نائب المسؤول عن قيادة الحزب في أمريكا الشمالية، السيد منير الجندي، فقد كان من أولوياتي أن أطلب لقاءً مع مؤسس ومنظّر الحزب ميشيل عفلق، لكي أطلعه على مخاوفي، وأتمنى عليه أن يصدر تصريحًا أو يكتب مقالة توضّح بشكل دقيق علاقة الحزب بالدين، منبّهًا إلى خطر الارتدادات الدينية داخل صفوف الحزب التي تأتي نتيجة سوء فهم العلاقة الجدلية بين العروبة والإسلام. خاصة وأن الحزب قد عانى من الانشقاقات الخطيرة التي تأسست على هذا المفصل الهام، وأخطرها تلك التي حدثت إبّان جمهورية البعث الأولى التي تأسست في شباط عام 1963، والتي سرعان ما انهارت في معركة البحث عن الهوية بين مجموعة علي صالح السعدي المنحازة للفكر اليساري، وبين مجموعة حازم جواد وطالب شبيب اللذين اتُّهما بالانحياز إلى اليمين البعثي المتحفظ. ونعرف تمامًا أن ذلك التخبط هو الذي أعطى الفرصة لعبد السلام عارف للانقضاض على جمهورية البعث الأولى ليسقطها في 18 تشرين من العام نفسه. يوم ابتلعت السلطة كوادر الحزب أما التجربة المهمة الأخرى، فهي الانقلاب الذي قادته مجموعة صلاح جديد وحافظ الأسد في سوريا ضد نظام البعث الذي كان يرأسه الفريق أمين الحافظ. وهنا فإن الخطاب الذي تبنته المجموعة المنشقة لم يخرج أيضًا عن ميدان الصراع على الهوية، وكانت حلبة الصراع بين اليمين واليسار جاهزة للانقضاض على مجموعة ميشيل عفلق القومية من قبل القيادة القطرية السورية، بعد أن وجّهت هذه الأخيرة تهمة "اليمينية" ضد قيادة ميشيل عفلق، التي كان من بين صفوفها الفريق أمين الحافظ والدكتور إلياس فرح وشبلي العيسمي. ولم نجد صعوبة تُذكر أمام لقائنا مع قائد الحزب القومي ومؤسسه ميشيل عفلق، فالبعثي الذي رافقني في رحلتي إلى العراق، كما ذكرت، هو السيد منير الجندي الذي كان يعمل سابقًا مديرًا لمكتب عفلق نفسه، وذلك قبل أن يقرر السفر إلى أمريكا بنية إكمال دراسته العليا. لذلك طلب منا مكتب عفلق في اليوم التالي للزيارة أن نجهّز أنفسنا للقاء معه مساءً، واستقبلنا الرجل بحفاوة كبيرة. وبحجة الحرص على وقت الأمين العام، بدأت الحديث معه بشكل مباشر، مؤكدًا المخاوف التي تنتابني نتيجة الارتباك الذي أحدثه تمسك الحزب بنظريته التي تؤكد التفاعل بين الإسلام والعروبة، خاصة وأن الحركة الوطنية والعربية بدأت تتأثر بارتفاع منسوب الثقافة اليسارية في الميدان العالمي، وليس العربي فقط. وأوضحت له مقدار معاناتنا في أمريكا ونحن نواجه حركة اليسار العربي بقيادة الجبهة الشعبية التي يقودها الدكتور جورج حبش، والجبهة الديمقراطية التي يقودها نايف حواتمة. وقد تكلم الرجل مؤكدًا علمانية الحزب التي تحاول أن تجد نفسها من خلال خصوصيات المجتمع العربي ذات النشأة التاريخية المختلفة عن نشأة العلمانيات الأخرى، مثلما أكد أهمية التمسك بنظرية الحزب التي تعطي أهمية فائقة للتفاعل بين الإسلام كثقافة وتراث، وبين العروبة كانتماء إنساني، لا كانتماء قومي متحجر. لكن مخاوفي من الردّة الدينية في الحزب سرعان ما تحققت، فقد كثر الحديث عن إيمان عفلق بالإسلام، رغم أنه لم يعلن عن تلك الاستدارة الدينية. واستمعنا إلى تصريح لصدام حسين يعلن فيه أن عفلق أخبره بإسلامه في لقاء خاص حضره صديقه الحميم سعدون شاكر. وحينما وصل الخبر إلى خال صدام حسين عن إسلام عفلق سرًا، لم يملك نفسه من السخرية بلغته الشتائمية المعروفة. ورأينا بعد ذلك كيف تحول صدام نفسه من لغة سياسية إلى لغة نقيضة لأجل الحفاظ على السلطة؛ فالرجل الذي عزل خمسة من أعضاء القيادة القطرية للحزب بحجة إغراقهم في التدين، عاد هو نفسه ليعلن حملته الإيمانية. ووسط ذلك أعلن عن "أسلمة" عفلق رغم أنف عفلق نفسه، ثم رأيناه والقرآن لا يغادر يده طيلة محاكمته بعد احتلال العراق. وإذا كان بالإمكان تفسير تلك الارتدادات الصدامية كونها جزءًا من لعبة الحفاظ على السلطة، فإن أسلمة عفلق بعد موته قدمت لنا قراءة مضافة بإمكانها أن تشرح كيف يمكن للتفاعل الجدلي بين البعث كعقيدة، والإسلام كثقافة، أن يكون جسرًا يكفل العودة بسهولة من الإسلام الثقافة والتاريخ إلى الإسلام الطقوس والنصوص. وأيضًا، فإن المفاجأة الأكثر دهشة بالنسبة لي شخصيًا هي تلك التي أثارتها الصورة التي بعثها لي صديق كان يعمل معي في قيادة الحزب في أمريكا، والتي يظهر فيها صديقنا منير الجندي، نعم منير الجندي، الذي رافقني في زيارتي لعفلق، وقد أطال لحيته، وقصّر دشداشته، ووضع على رأسه غطاءً أبيض بالطريقة نفسها التي يستعملها الوهابيون. والآن فقد صار من حقي أن أتساءل: أين كان الخطأ بالضبط؟ حينما يقود الأمين العام للحزب، رئيس الجمهورية، حملته الإيمانية مُؤَسْلِمًا الحزب، فلا بد أن نعرف أن السبب كان محاولة الرئيس الحفاظ على السلطة، حتى لو دعاه ذلك إلى التخلي عن كل التنظيرات البعثية. ولم يكن خطأ أن أتذكر لماذا رفض عبد الخالق السامرائي استلام الحزب للسلطة في العراق. وقتها كانت حجته أن الحزب لم ينضج بعد، ولم تتسع قاعدته، ولم يقم بمراجعة أمينة وصريحة لكل أخطائه المريعة بعد تجربة شباط 1963، حتى يكون قادرًا على إصلاحها، وعلى التوفيق بين إدارة السلطة وتنفيذ المبادئ. وبعد شهرين أو ثلاثة أشهر على انقلاب 17 تموز، نشر السامرائي كراسه الشهير: "لكي لا تبتلع السلطة كوادر الحزب". ولأجل أن لا يحدث ذلك، وقف السامرائي وقفة شجاعة لنقد كل المحاولات التي تسهّل عملية الابتلاع. غير أن فم السلطة كان أكبر منه فأكله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل من في (ضيافة المدافع)
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البعث وأزمة الهوية الدينية*
-
في ضيافة المدافع .. حزب البعث ومعضلة البحث عن الهوية (2)
-
في ضيافة المدافع .. حزب البعث ومعضلة البحث عن الهوية (1)
-
الديمقراطية العراقية .. حلم أن تبيض الدجاجة أسداً
-
في ضيافة المدافع .. الهزيمة في الشوش
-
في ضيافة المدافع بعض من الرجال الأوفياء
-
قصة مدينتين
-
في غرفتي طارق عزيز .. (في ضيافة المدافع)
-
ما بعد تموز 1958 .. هذا ما حدث (2)
-
بعد تموز عام 1958 .. هذا ما حدث
-
المقاطعة المشاركة
-
في ضيافة المدافع .. صمت الفرسان
-
لن نمسح مساوئ إيران بمساوئ إسرائيل
-
بين السيء والأسوأ منه
-
صدام حسين لم يكن عميلاً
-
الشاعر كأديب والشاعر كإنسان
-
(الحرام الحرام) و(الحرام الحلال)
-
بين الدولة المدنية والدولة العلمانية
-
حوار مع الأستاذ سالم مشكور فساد في النظام مقابل نظام للفساد
...
-
مقالة من سبعة سطور .. (العراقي السوري .. الصورة والمرآة)
المزيد.....
-
شاهد.. أحمد الأحمد -بطل بوندي- يُكافأ بأكثر من 1.5 مليون دول
...
-
إدانة رجل ألماني خدر زوجته واغتصبها وهي فاقدة الوعي لعدة سنو
...
-
بيت ديفيدسون وشريكته إلسي هيويت يرحبان بطفلتهما الأولى
-
مفاوضون لبنانيون وإسرائيليون يناقشون نزع سلاح حزب الله
-
التعليم : مقدمات لأجل فهم المعضلة
-
إدارة ترامب تستعد لنشر جزء من ملفات إبستين مع انتهاء المهلة
...
-
محاكمة شركة -لافارج- الفرنسية بتهمة تمويل الإرهاب تدخل مراحل
...
-
الشتاء خطر صامت.. نصائح أساسية لحماية قدم مرضى السكري
-
حماس تندد بمخطط لمدينة استيطانية جديدة شرقي القدس
-
محادثات بأميركا حول أوكرانيا وبوتين يتوعّد الغرب مجددا ويذكّ
...
المزيد.....
-
الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد
...
/ علي طبله
-
الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل
...
/ علي طبله
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|