أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - حين تتحوّل واشنطن بوست إلى أداة تخوين لا إلى مساءلة















المزيد.....

حين تتحوّل واشنطن بوست إلى أداة تخوين لا إلى مساءلة


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 09:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الردّ المفصّل على متن مقالة واشنطن بوست، لمن يودّ الاطلاع والقراءة المتأنّية.
كيف يجري تحويل الدروز والكورد من ضحايا إلى متهمين؟
حين تتحوّل الصحافة إلى أداة تحريض، ثمّة ما يكفي من المؤشّرات للقول إن نشر واشنطن بوست لهذه المقالة لم يكن زلّة تحريرية عابرة، بل نتاج ضغطٍ مباشر من لوبيات قوى إقليمية فاعلة في واشنطن، تسعى إلى تسويق سردية جاهزة تخدم صفقات جارية على حساب الحقيقة. فحين تُقدَّم اتهامات بهذه الضحالة، وبهذا القدر من التلفيق ضد الكورد والدروز، يصبح السؤال مشروعًا: من كتب فعليًا، ومن موّل، ولصالح أيّ أجندة يُراد تضليل الرأي العام الأميركي والسوري بها؟
في مقالٍ نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، إحدى أوسع الصحف انتشارًا وتأثيرًا في دوائر صنع القرار الغربي، بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2025، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة).
قدّمت الصحيفة سردية سياسية وأمنية خطيرة، تتهم فيها الدروز والكورد على أنها حصلت على مساعدات ودعم من إسرائيل بهدف إضعاف “التماسك الوطني السوري” وعرقلة مسار الحكومة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع.
غير أن ما تفتتح به واشنطن بوست مقالتها ليس توصيفًا محايدًا لوقائع، بل بناءٌ دراميّ مقصود يُراد له أن يسبق الاستنتاج ويُوجّه القارئ إليه منذ السطر الأول. فاستدعاء صورة “المروحيات تحت جنح الظلام” لا يهدف إلى نقل حدث بقدر ما يسعى إلى شحنه بدلالة تآمرية جاهزة، تُفرغ السياق من تعقيده وتختزله في مشهد إثارة. وما يُقدَّم بوصفه “إسقاطًا سريًا للأسلحة” يفتقر، رغم كل التفصيل السردي، إلى دليل قابل للتحقق أو وثيقة مستقلة، ويعتمد مرة أخرى على رواية منسوبة إلى “مسؤولين إسرائيليين سابقين” بلا أسماء، بلا توقيت موثق، وبلا أي مساءلة لمصداقية المصدر.
الأكثر إشكالية أن المقالة تقفز مباشرة من توصيف الدعم المزعوم إلى تحميله وظيفة سياسية كبرى: “إضعاف التماسك الوطني السوري”. هكذا، وبجملة واحدة، تُنزَع عن الدروز صفة الجماعة التي تدافع عن نفسها في بيئة عدائية، ويُعاد تعريفهم كأداة في مشروع خارجي. لا سؤال يُطرح عن سبب اندلاع الاشتباكات أصلًا، ولا عن طبيعة التهديدات التي واجهتها القرى الدرزية، ولا عن دور التنظيمات الإسلامية المتحالفة مع السلطة الجديدة في إشعال المواجهة. الدفاع عن النفس يُمحى من الرواية، ليُستبدل بتهمة جاهزة: العمالة، أو على الأقل “التحالف المشبوه”.
وتُمعن المقالة في هذا المنطق حين تربط أي دعم، حتى غير القتالي منه، بمحاولة “تقويض قدرة الشرع على تركيز السلطة”. هنا يتحوّل مفهوم السلطة من أداة لحماية المجتمع إلى غاية بحد ذاته، ويُعاد تعريف الاستقرار بوصفه خضوعًا كاملًا للمركز، مهما كانت طبيعته أو تاريخه. السؤال الجوهري الذي تتجاهله المقالة هو: أي سلطة هذه التي يُفترض أن تُمنح احتكار القوة، بينما لا تزال تضم في بنيتها مقاتلين متطرفين، ولم تقدّم بعد نموذجًا وطنيًا جامعًا يطمئن المكوّنات التي عانت أصلًا من الإقصاء والعنف؟
أما توصيف الدعم الإسرائيلي للدروز بوصفه “جزءًا من جهد مستمر منذ سنوات”، فيُطرح كحقيقة مكتملة دون أي مقارنة أو سياق. لا إشارة إلى أن إسرائيل قدّمت خلال سنوات الحرب مساعدات طبية ولوجستية لمقاتلي المعارضة السورية أنفسهم، بمن فيهم فصائل إسلامية متشددة، من دون أن يُعدّ ذلك آنذاك “تفتيتًا لسوريا”. لماذا يصبح الدعم ذاته مشروعًا حين يخدم سردية معينة، وخطيرًا حين يتعلق بحماية أقلية مهدَّدة؟
ثم تأتي الأرقام — 100 إلى 200 دولار، ثلاثة آلاف مقاتل — لا بوصفها معطيات دقيقة، بل كإيحاء مالي يُراد له أن يُكمل صورة “الميليشيا الوكيلة”. لا وثائق، لا مسارات تحويل، لا أسماء. مجرد أرقام تُلقى في النص لتأدية وظيفة سياسية: تثبيت الانطباع، لا إثبات الواقعة. وكأن دولة بحجم إسرائيل، إن كانت فعلًا تسعى إلى تفكيك سوريا، تحتاج إلى هذا “التدبير الصغير” بدل أدواتها المباشرة والمعروفة.
في المحصلة، لا يقدّم هذا الجزء من المقالة تحليلًا لسوريا ما بعد الأسد، بل يعيد إنتاج منطق قديم بثوب صحفي: مركزٌ يُطالَب بالسيطرة الكاملة، وأطراف تُدان لمجرد أنها تطالب بالأمان والضمانات. وبين “الجنح المظلم” و“الأسلحة السرّية” و“القوى الموازِنة”، تضيع الحقيقة الأساسية: أن ما يهدد وحدة سوريا ليس دفاع الأقليات عن نفسها، بل الإصرار على بناء دولة جديدة بعقلية الإقصاء نفسها، ثم اتهام الضحايا بأنهم سبب التصدّع.
ما تقدّمه واشنطن بوست في هذا النص ليس تحقيقًا صحفيًا بقدر ما هو سردية سياسية مُعلّبة، تستعير لغة “المصادر المتعددة” لتُخفي فراغ الأدلة، وتستبدل المساءلة بالتلميح، والوقائع بالانطباعات. فالحديث عن “أكثر من عشرين مسؤولًا إسرائيليًا وغربيًا حاليًا وسابقًا” دون تسمية اسم واحد، أو إيراد وثيقة واحدة، أو تقديم معطى قابل للتحقق، لا يرقى إلى الصحافة الاستقصائية، بل يندرج في تقنيات الخطاب الأمني التي تُراكم العدد لتعويض هشاشة الرواية.
الأخطر من ذلك أن المقالة تنطلق من فرضية جاهزة ثم تُسقطها على الواقع السوري قسرًا: كل قوة لا تخضع للحكومة السورية الانتقالية تُصنَّف تلقائيًا كقوة انفصالية، وكل مطالبة بالحماية أو اللامركزية تُؤوَّل كأداة إسرائيلية. بهذه البساطة الفجّة يُختزل مشهد معقّد، وتُجرَّم مكوّنات كاملة لأنها ترفض إعادة إنتاج دولة فاشلة تحت اسم “الاستقرار”.
تتجاهل المقالة عمدًا السياق الذي نشأت فيه الوقائع التي تتحدث عنها. فالدروز السوريون لم يتحولوا إلى “ميليشيا” لأن إسرائيل رغبت بذلك، بل لأنهم وُضعوا في مواجهة مباشرة مع تنظيمات تكفيرية هاجمتهم، أحيانًا بتواطؤ واضح من قوى حكومية وعشائرية. الدفاع عن النفس هنا يُحوَّل إلى تهمة، بينما يُمنح العنف المنفلت صكّ البراءة تحت مسمّى “توحيد الدولة”. هذا قلبٌ أخلاقي فاضح للحقائق.
والتناقض يبلغ ذروته حين تُقدَّم إسرائيل بوصفها “قوة تعرقل توحيد سوريا”، في الوقت الذي يعلم فيه كل مراقب جاد أن وصول الحكومة الانتقالية ذاتها إلى دمشق تمّ عبر تفاهم دولي واسع، شاركت فيه الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، وبعلم وموافقة إسرائيل. كيف تصبح إسرائيل فجأة خصمًا لمسار كانت جزءًا من هندسته؟ وكيف يُحمَّل الدروز والكورد وزر تفككٍ لم يصنعوه، بينما يُعفى من المسؤولية من أوصل سوريا إلى هذه الهشاشة البنيوية؟
ثمّة ازدواجية صارخة في المعايير لا يمكن تجاهلها. فحين قُدِّم الدعم العسكري واللوجستي للمعارضة السورية طوال سنوات الحرب، جرى تبريره بوصفه “ضرورة سياسية” أو “واجبًا أخلاقيًا”. أما حين يُقدَّم دعم طبي أو دفاعي لمكوّن يتعرّض لهجمات تكفيرية، يتحول فجأة إلى “تقويض للوحدة الوطنية”. هذه ليست قراءة متوازنة، بل تحيّز سياسي يُعاد تدويره بلغة صحفية ناعمة.
وتزداد السردية هشاشة حين تحاول المقالة الزجّ بقوات قسد والحراك الكوردي في هذا المستنقع الاتهامي، عبر روايات مالية هزيلة وأرقام مثيرة للسخرية، وكأن الحديث يدور عن دولة عاجزة عن إيصال مئة ألف دولار، لا عن قوة إقليمية تمتلك أدوات دعم مباشرة وعلنية. الإصرار على هذا الربط ليس تحليلًا، بل إقحام مقصود للكورد في خطاب التخوين، لإعادة إنتاج منطق قديم: شيطنة المكوّنات التي ترفض الخضوع لمركزية قسرية.
في جوهرها، لا تناقش المقالة مستقبل سوريا كوطن لجميع مواطنيه، بل تُعيد تعريف “الوطنية” بوصفها الطاعة المطلقة لسلطة انتقالية لم تُثبت بعد قدرتها على حماية الناس، أو ضبط العنف، أو بناء عقد اجتماعي جامع. كل من يشكك، أو يطالب بضمانات، أو يرفض تسليم مصيره لمنظومة لم تتخلّص من جذورها التكفيرية، يُوصم تلقائيًا بالانفصال أو العمالة.
بهذا المعنى، لا تسيء المقالة إلى الدروز والكورد فحسب، بل تسيء إلى فكرة الصحافة ذاتها. فهي لا تفتح نقاشًا، بل تُغلقه. لا تُضيء التعقيد، بل تُبسّطه حتى التشويه. ولا تُسائل السلطة، بل تُحمّل الأقليات مسؤولية فشلها. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: حين تتحوّل صحيفة بحجم واشنطن بوست من منصة مساءلة إلى أداة تبرير غير مباشر لسرديات إقصائية، فإنها لا تخدم استقرار سوريا، بل تُسهم—بوعي أو بدونه—في تعميق الشرخ، وتمهيد الأرض لصراعات جديدة باسم “الوحدة”.
يواصل النصّ انزلاقه من الادّعاء التحليلي إلى بناء سردية اتهامية مكتملة الأركان، تُحمِّل المكوّنَين الدرزي والكوردي وزر “تعطيل” الاستقرار السوري، لا عبر الوقائع بقدر ما عبر ترتيبٍ انتقائي للوقائع يخدم غاية واحدة: شرعنة سلطة مركزية بعينها، وتجريم كل أشكال التنظيم الذاتي بوصفها انفصالًا مقنّعًا.
فالعنف يُدان هنا لا لأنّه عنف، بل لأنّه—بحسب السرد—لا يخدم مشروع السلطة الجديدة في دمشق. أمّا حين أدّى العنف ذاته إلى تفكيك منظومة النظام السابق وإعادة هندسة ميزان القوى، فقد جرى التغاضي عنه، بل جرى التعامل معه كضرورة “انتقالية”. هكذا يصبح معيار الصواب والخطأ سياسيًا محضًا، لا أخلاقيًا ولا قانونيًا، وتتحوّل فكرة “سوريا الموحّدة” إلى غطاءٍ لتكريس مركزية قسرية جديدة، ولو كانت محمولة على تحالفات هشة مع تنظيمات متطرفة.
الاستشهاد بتصريحات مسؤولين أميركيين عن “إحباط” واشنطن لأن إسرائيل تعرقل فرصة دبلوماسية مع دمشق، يكشف بدوره انقلابًا في المعايير: الشرعية لم تعد تُقاس بقدرة السلطة على حماية التعدّد أو صون الحقوق، بل باستعدادها اللفظي للتطبيع و”ذكر كلمة إسرائيل”. في هذا المنطق، تُدان المكوّنات التي سعت لحماية وجودها حين غابت الدولة، بينما يُمنح هامش الثقة لسلطة لم تُختبر إلا في قدرتها على عقد الصفقات.
الأخطر من ذلك هو تحويل التنظيم الذاتي إلى جريمة سياسية. فكل ما يُروى عن أطر درزية دفاعية، أو عن تواصل قادتها مع أطراف مختلفة في لحظة فراغ أمني وتهديد وجودي، يُقدَّم باعتباره مشروع تفكيك لسوريا، لا ردّ فعل على غياب الحماية. لا سؤال يُطرح عن السبب الذي دفع هذه المكوّنات إلى تنظيم نفسها أصلًا، ولا عن الجهات التي هدّدتها. التنظيم الذاتي هنا انفصال، أمّا ترك الناس مكشوفين أمام السلاح الطائفي فليس موضوعًا يستحق النقاش.
ثم يأتي إقحام قوات قسد والحراك الكوردي بوصفهما “حلقة الوصل السرّية” لكل ما يراد تجريمه. أرقام ضئيلة تُضخّم، ومسارات دعم تُقدَّم كدليل دامغ، فيما يُتجاهل حجم التمويل الإقليمي والدولي الهائل الذي صُبّ طوال سنوات في دعم فصائل إسلامية مسلّحة. ليست المشكلة في التحقّق من الوقائع، بل في تثبيت صورة ذهنية جاهزة: الكورد والدروز كوكلاء، لا كأصحاب قضية وحقّ في الدفاع عن الذات.
ويبلغ الخطاب ذروة انحداره الأخلاقي حين يُستدعى الحديث عن تدريب نساء درزيات، لا لإدانة عسكرة المجتمع، بل لإثارة الغرائز الثقافية والدينية وتحويل المرأة—الكوردية والدرزية—إلى أداة تشهير سياسي. هنا تتخلّى الصحافة عن وظيفتها المعرفية لتصبح تحريضًا ناعمًا بلغة مُنمّقة.
أمّا التلويح بخرائط “دولة درزية تمتد إلى العراق”، دون وثيقة، ودون أسماء، ودون أي تحقق مستقل، فليس سوى إعادة إنتاج لفزّاعة التقسيم القديمة، تلك التي استُخدمت تاريخيًا لتبرير القمع ووأد أي نقاش جدي حول اللامركزية. إنها أسطورة التخويف ذاتها، تُستدعى كلما طالب طرف بحقوقه أو بسياق حكم أكثر عدلًا.
بهذا المسار، لا تُحاكم الوقائع بقدر ما يُعاد تدوير منطق التخوين: كل من لا ينخرط في مشروع السلطة المركزية الجديدة يُصنَّف خطرًا أو أداة خارجية. والنتيجة ليست حماية سوريا، بل تعميق جراحها؛ إذ تُحوَّل الضحية إلى متّهم، ويُجرَّم الدفاع عن الذات، وتُشيطَن المكوّنات الأكثر التزامًا بفكرة الشراكة. تلك ليست قراءة تسعى إلى الاستقرار، بل سردية تُمهّد لإدامة الصراع تحت لافتة “الوحدة”، فيما تُفرَّغ الوحدة من معناها الحقيقي.
يستكمل هذا المقطع المنحى ذاته، لكنّه يذهب أبعد في قلب الوقائع وتبديل مواقع الفاعلين والضحايا، عبر تقديم كل فعل دفاعي أو إنساني بوصفه مشروع “تسليح وكيل”، وكل استجابة لحصارٍ وتهديدٍ وجودي على أنها هندسة انفصال. هنا لا يعود النص معنيًا بالتحقيق، بل بتثبيت سردية سياسية جاهزة.
فالحديث عن “منطقة عازلة” ومساعدات من خشب ووقود وطعام وماء وعلاج، يُنتزع عمدًا من سياقه الواقعي: مناطق حوصرت، وسكان تُركوا بلا دولة تحميهم، وقوات حكومية أو متحالفة معها شاركت في العنف أو عجزت عن وقفه. في هذا السياق، تصبح المساعدة الإنسانية جريمة محتملة، لا لأنها سلاح، بل لأنها وصلت إلى مكوّن لم يُرِد النص الاعتراف بحقه في النجاة. هكذا يُجرَّم الفعل الإنساني حين لا يخدم مركز السلطة.
ثم تُساق شهادات لمسؤولين إسرائيليين—بأسمائهم هذه المرّة—لتثبيت فكرة “الوكيل المسلح”، لكن دون اختبارٍ نقدي واحد: هل أُنشئت هذه الأطر لأن إسرائيل قررت ذلك، أم لأن فراغ الحماية دفع مجتمعات مهددة إلى تنظيم حدٍّ أدنى من الدفاع الذاتي؟ السؤال يُلغى لصالح اتهام جاهز. وحتى الاعتبار “الأخلاقي” الذي يذكره النص—حماية الإخوة الدروز—يُستعمل لا لتفسير دافع إنساني، بل لإدانة نتائجه سياسيًا.
الأخطر هو تسويغ القصف الإسرائيلي لدمشق بوصفه ردًا على “ضغط” و”مخاوف”، من دون أي مساءلة قانونية أو سياسية، في حين يُدان التنظيم الذاتي المحلي بوصفه تقويضًا للدولة. معيار القوة هنا مزدوج: القوة الجوية تُفهَم كسياسة، أمّا قوة الدفاع المحلي فتوصف كخيانة. هذا انقلاب في المنطق، لا تحليل.
وعندما يعود النص إلى “تاريخ الدعم السرّي”، فهو يعترف—من حيث لا يقصد—بأن أنماط الدعم هذه ليست استثناءً ولا مؤامرة مستجدة، بل كانت جزءًا من تقاطعات إقليمية ودولية أوسع، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة والأردن. لكن بدل أن يقود هذا الاعتراف إلى مساءلة شاملة لسياسات التدخل، يجري حصر التهمة اليوم في مكوّنات بعينها، وكأن التاريخ يبدأ وينتهي عندها.
التحذير من “دروزستان” في خاتمة المقطع ليس سوى فزّاعة أخرى تُستدعى لإغلاق النقاش. فحتى الأصوات الإسرائيلية التي يُستشهد بها تقرّ بأن دعم كيان مستقل ليس خيارًا، ومع ذلك يُستمر في التلميح إليه لإدامة التخويف. النتيجة ليست رفض الانفصال—وهو موقف تشترك فيه غالبية القوى المحلية—بل تجريم أي شكل من أشكال اللامركزية أو الحماية الذاتية.
بهذا، يكتمل البناء السردي: تحويل النجاة إلى تهمة، والدفاع إلى وكالة، والمطالبة بالأمان إلى مشروع تقسيم. إنها ليست قراءة تسعى إلى استقرار سوريا، بل خطاب يعيد إنتاج منطق التخوين القديم بأدوات صحفية جديدة، ويضع بذور صراعٍ دائم عبر إنكار الأسباب الحقيقية لانهيار الثقة بين الدولة ومكوّناتها.
يواصل هذا المقطع ترسيخ المنهج ذاته: تحميل الضحية وزر التفكك، وتقديم الفوضى بوصفها خاصية داخلية للمكوّن الدرزي، لا نتيجة مباشرة لفراغ الدولة، ولعنفٍ مُمنهج، ولتدخلات متقاطعة صنعتها السلطة المركزية
وحلفاؤها قبل أي طرف آخر. فحين يتحدث النص عن “قلق إسرائيلي” من صراعات النفوذ داخل المجتمع الدرزي، فإنه يتجاهل عمدًا السؤال الجوهري: من الذي خلق شروط هذا الصراع أصلًا؟ وهل كان يمكن لأي مجتمع محاصر، مهدَّد، ومحروم من الحماية، ألا يُنتج تعددًا في المرجعيات ومحاولات متباينة لتنظيم الدفاع الذاتي؟
يُقدَّم الخلاف بين قيادات درزية بوصفه دليلًا على عدم الأهلية السياسية، بينما يُغفل السياق البنيوي الذي دفع إليه: دولة غائبة، وسلاح منفلت، وسلطة انتقالية عاجزة أو متواطئة، وعنف طائفي لم يُحاسَب مرتكبوه. في هذا الفراغ، يصبح التنافس الداخلي نتيجة متوقعة لا “مؤامرة”، لكن النص يصرّ على قلب السببية، ليجعل الانقسام ذريعة إضافية لتجريم المطالبة بالأمان.
ثم يُساق سيل من الاتهامات الثقيلة—اختطاف، تهريب مخدرات، تعاون مع أطراف متناقضة—منسوبة إلى “مسؤول إسرائيلي سابق” أو “وسيط مالي” أو “قائد درزي”، بلا وثيقة واحدة، وبلا اسم، وبلا أي معيار مهني يتيح للقارئ التمييز بين الوقائع والإشاعات. هذه ليست صحافة استقصائية، بل بناء سردي قائم على التسريب الانتقائي، حيث تُستخدم التهمة لا للتحقيق، بل للتشويه. والأسوأ أن الاتهامات تُوزَّع بالتساوي على أطراف متخاصمة، بما يضمن نتيجة واحدة: الجميع مدان، وبالتالي لا أحد يستحق التعاطف أو الحماية.
ويبلغ التناقض ذروته حين يُقال إن إسرائيل “لا تجد من يمكن العمل معه”، وكأن المشكلة في “الشركاء المحليين”، لا في سياسة تدخلية متخبطة تعترف بها المقالة نفسها. فبدل مساءلة هذا التدخل، يُعاد تدوير العجز بوصفه عيبًا في المجتمع المحلي، لا فشلًا في المقاربة الخارجية. هكذا تُغسَل يد السياسة، ويُلقى العبء على من يعيشون تحت النار.
أما الحديث عن “استقلالية مؤسسية” للدروز، فيُطرح بانتقائية متعمدة. لا تعريف واضح للمفهوم، ولا تمييز بين اللامركزية الإدارية، والحكم الذاتي الثقافي، والانفصال السياسي. كل شيء يُخلط عمدًا ليبقى الاتهام معلقًا: أي مطالبة بحقوق جماعية تُقرأ تلقائيًا كخطر تقسيمي. في المقابل، يُقدَّم نزع السلاح، والمناطق العازلة، واشتراط التنسيق الأمني المسبق، بوصفها “مبادئ” مشروعة، لا انتقاصًا من السيادة ولا وصاية دائمة.
وحتى حين يعترف النص بتراجع الحماس الإسرائيلي لبعض الشخصيات، فإنه لا يتراجع عن جوهر السردية، بل يعيد ضبطها: تدخل أقل صخبًا، دعم أصغر حجمًا، لكن الاتهام مستمر. فالمساعدات الطبية والدروع الواقية—التي تُقدَّم في أي نزاع بوصفها إجراءات إنسانية—تُصوَّر هنا كأدوات نفوذ، بينما تُمحى من المشهد الأسباب التي جعلتها ضرورية أصلًا: مجازر، حصار، وخطاب إبادة لم يتوقف.
هذا المقالة لا تضيف معرفة، بل تُغلق الدائرة، تثبت الاتهام مهما تبدلت الوقائع، وتحوّل التعدد الداخلي إلى دليل إدانة، وتجعل من غياب الدولة حجة ضد من حاولوا النجاة خارجها. إنها كتابة تُدين من يبحث عن الأمان، وتبرئ من صنع الخوف، وتعيد إنتاج منطق التخوين ذاته الذي دمّر سوريا سابقًا، لكن هذه المرة بلغة “تحليل” و” خبراء”. وفي هذا، تكمن خطورته السياسية والأخلاقية معًا.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
24/12/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة السورية الانتقالية على حافة السقوط
- كيف بدّدت واشنطن بوست ما تبقّى من مصداقيتها في سوريا،
- الحكومة السورية الانتقالية بلا إنسانية: أسرى منذ 2012 بلا عف ...
- من البيت الأبيض
- سياسة واشنطن في سوريا إدارة الإرهاب بدل اجتثاثه
- حوار مع الظلام أم شراكة واعية في محو الكورد؟
- التحالفات المتحوّلة في سوريا
- من يُختطف السُّنّة باسم صدام حسين، حكومة انتقالية أم إمارة ت ...
- منبر الأموي يكرّر خطيئة الكوفة الجولاني يخطب بلسان الحجاج
- ترامب يسلّم جنوده للتكفيريين دمٌ أميركي على عتبة الجولاني
- من جامع النوري إلى الأموي سلالة الحكم بالمحراب
- يوم سقوط المجرم في سوريا وصعود التكفير
- أحمد الشرع في مرآة الأسد ليست مقارنة، بل فضيحة
- من يقف خلف تقرير رويترز؟
- الجزيرة ليست صامتة من يصادر صوتها هو من يخاف الحقيقة
- حين تتحوّل الصحافة إلى تبييض للإرهاب، ويصبح الكذب “تحليلاً س ...
- تفكيك المجتمع السوري بخطاب التكفير
- كيف صنعت الحكومة الانتقالية أقوى حُجّة لتقسيم سوريا
- التلميذ غير النجيب
- في زمن العفن المقدّس


المزيد.....




- الجيش الأمريكي ينفذ ضربات -قاتلة- في نيجيريا.. لماذا؟
- من البراءة إلى الإثارة.. لماذا نرتدي الدانتيل؟
- تركيا.. أخذ عينات وقود من الناقلة وطائرة رئيس أركان ليبيا ال ...
- أمطار غزيرة وفيضانات تسفر عن قتلى في كاليفورنيا
- عيد ميلاد مجيد
- ما تفسيرات انضمام بلجيكا إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟
- غزة في 2026.. أحلام بسيطة تصطدم بحرب لم تنته
- عاجل | مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية على محيط مدينة الهرمل ...
- هل تكبح واشنطن إسرائيل أم يتجه لبنان إلى مواجهة جديدة؟
- روسيا تحظر واتساب وتفرض ماكس.. سيادة رقمية أم رقابة شاملة؟


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - حين تتحوّل واشنطن بوست إلى أداة تخوين لا إلى مساءلة