أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - في زمن العفن المقدّس














المزيد.....

في زمن العفن المقدّس


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 22:52
المحور: القضية الكردية
    


في سوريا المنهكة، حيث تراكمت الأوهام فوق العقول حتى صارت أثقل من الجبال، لم يعد المشهد يحتمل تزيينًا ولا لغة مجاملات. بات حمل صندوق ماسح الأدمغة فعل إدانة سافر، صادمًا إلى حدّ الفضيحة، إذ هناك من يُجبر اليوم على تنظيف ما حوّلته قرون من الاستبداد والعنصرية والتكفير إلى عفنٍ مزمن في الرؤوس، بعد أن صارت العقول مكبّات أيديولوجية عاجزة عن التمييز بين الجريمة والعقيدة، وبين الطاغية والقداسة.
يُصرّون على تقديم صورة الكوردي وهو يحمل صندوق ماسح الأحذية، لكن الحقيقة الفجّة أنّه صندوق ماسح الأدمغة. غير أنّ غباءهم البنيوي يحول دون إدراك الفارق، لأن من نشأ بعقلٍ متّسخ لا يفرّق أصلًا بين حذائه ودماغه. فالعقول التي استأنست بالقذارة الفكرية لم تعد ترى الإهانة في تفسّخها، بل فيمن يفضحها ويحاول تنظيفها، ولهذا يختلط عليهم الرمز وتضيع الحقيقة في وحل عجزهم.
المسألة هنا ليست تنظيف أحذية، بل تنظيف عقول تحوّلت إلى مستودعات للبعث، وللفاشية الدينية، وللغرائز البدائية التي ارتدت أقنعة العقيدة والقومية. وهذا ليس تجريحًا ولا تهكّمًا، بل تشخيصًا قاسيًا لواقعٍ وُلد مريضًا، وأُدير طويلًا بعقول متعفّنة، حتى صار الخراب فيه بنية ذهنية لا عارضًا سياسيًا.
هذا الدور لم يسقط من السماء، بل هو امتدادٌ لتاريخ طويل. فالكورد لم يكونوا عابرين في مسار الشرق ولا طارئين على حضارته أو على الإسلام نفسه. منذ اللحظة التي دخل فيها الإسلام هذه الجغرافيا، كان الكورد في مقدّمة حمايته وتوسّعه، لا بوصفهم أدوات غزو، بل بناة دولة وحملة فكرة. عسكريًا، لم يُحرَّر الشرق من الحروب الصليبية ولا من التفكك الداخلي إلا بسواعد قادة كورد أعادوا للإقليم توازنه وقوّته، وسياسيًا، لم يُصَن الكيان الإسلامي ولا استمر إلا عبر نظمٍ وإداراتٍ أسهم الكورد في تشييدها، ثقافيًا وفكريًا، لم تكن مدارس الفقه والفلسفة واللغة بعيدة عن العقول الكوردية التي اشتغلت بصمت على إنتاج المعرفة وتثبيت أسسها.
لكن المأساة أنّ الشرق لم يتعلّم من تاريخه. فحين سقط في العصر الحديث في قبضة أنظمة بعثية وتكفيرية وعنصرية، لم يكتفِ هؤلاء بتدمير الدول، بل دمّروا الإنسان من الداخل، صياغةً وتفكيرًا. أنتجوا أدمغةً مشلولة، تقدّس الطغاة، وتكفّر المختلف، وتعيش على أساطير السوق السياسي والديني. وهنا، مرة أخرى، وجد الكورد أنفسهم في قلب معركة لا تخصّهم وحدهم، لكنها فُرضت عليهم: معركة تشذيب هذا العقل المريض، وكشف عُريه، وتنظيفه من الأوساخ المتراكمة باسم العروبة، وباسم الأمة، وباسم الدين.
اليوم، لا يظهر الكورد في هيئة المُنقذ المتعالي ولا في صورة الواعظ الأخلاقي، بل في موقعٍ أشدّ قسوة وإيلامًا: موقع ماسح أدمغةٍ متراكمة القذارة. يحملون صندوقهم لا لمسح الأحذية، بل لغسل ما تعفّن في الرؤوس، وتنظيف ما لوّثته قرون من الاستبداد والتكفير والعنصرية. إنها واحدة من أخطر المهمات في تاريخ الشرق: إعادة تأهيل الوعي، تعرية الخرافة، وتحطيم بنية تفكير جعلت من الطغيان قدرًا محتومًا، ومن الجريمة نظام حكم. مهمة جارحة، ومهينة حتمًا لمن يرفض الاعتراف بمرضه، لكنها ضرورة تاريخية لا مفرّ منها. فلا نهضة بلا عقل سليم، ولا مستقبل بلا دماغ نظيف، ولا خلاص لمنطقة ما تزال تُدار بعقول تُركت قرونًا في العتمة حتى تحوّلت إلى مستنقع للأوبئة الفكرية.
من هنا، فإن ما يقدّمه الكورد اليوم ليس جديدًا في جوهره، بل استمرار لدورٍ قديم، حماية سوريا من نفسه، وإنقاذه، مرة بالسيف، ومرة بالدولة، ومرة بالفكرة، ومرّة، وهذا هو الأصعب، بتنظيف ما أفسدته الأنظمة والعقائد في أعماق العقول. قد لا تُشكر هذه المهمة، وقد يرى البعض صندوق مسح الأحذية وضيعة، لكنها في الحقيقة صندوق لمسح الأدمغة، فكما علمنا التاريخ، مهمة لا ينهض بها إلا من تعوّد أن يدفع الثمن حين يعجز الآخرون عن مواجهة حقيقتهم.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
28/11/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شكرًا للخلافة على خراب الوطن
- كوردستان الفرصة التي دمّرها الغرب
- في سوريا الحرية جريمة
- كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإ ...
- تفكيك خطاب الناشطة الجولانية – الأميركية ميساء قباني
- الديمقراطية فخٌّ قاتل والفيدرالية هي النجاة الوحيدة للكورد
- منتدى ميبس في دهوك عودة الجغرافيا الكوردستانية إلى مركز التا ...
- بين الاستراتيجيات الكبرى ومسارات التغيير السعودية وتركيا وال ...
- على طرفي النقيض بين زيارة محمد بن سلمان والجولاني للبيت الأب ...
- بين ظلام التكفير واغتيال الكلمة دفاع عن حرية الفكر والمثقفين ...
- بين وعي الانتماء وزيف الهوية المصطنعة
- أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا
- الجولاني من ساحات الإرهاب إلى عتبة البيت الأبيض
- لماذا تُجمّل أمريكا وجه الإرهاب بدعوتها الجولاني إلى البيت ا ...
- من فاتن رمضان إلى عبد العزيز تمو وغيرهما من المرتزقة الكورد ...
- بعض الأخوة المسيحيين يختارون عبودية الماضي على حرية كوردستان
- من مناهج البعث والتكفيريين إلى مناهج كوردستان
- حين عرّى الوعي الكوردستاني الزيف الانتقالي
- التغيير الديمغرافي في غربي كوردستان هو استمرار لجريمة البعث ...
- ترامب الابن في الرياض وسوريا بين الإعمار والمساومة


المزيد.....




- ضابط بريطاني يكشف تستر قادة القوات الخاصة على جرائم حرب محتم ...
- فيينا: الأمم المتحدة تستضيف فعالية اليوم الدولي للتضامن مع ا ...
- بريطانيا تحقق في تستر ضباطها على جرائم حرب بأفغانستان
- رايتس ووتش: معاهدة حظر الألغام الأرضية تواجه تهديدات غير مسب ...
- برنامج الأغذية العالمي: ملايين السودانيين معزولون ويواجهون ا ...
- برنامج الأغذية العالمي: السودان يواجه أكبر أزمة نزوح إنسانية ...
- أمنستي ورايتس ووتش تناشدان الدول الأطراف حماية الجنائية الدو ...
- لقطات اعتقال مقاوم جريح في رفح تهز المنصات
- لقطات اعتقال مقاوم جريح في رفح تهز المنصات
- غرفة العمليات الحكومية تستعرض خطة الإغاثة والتعافي المبكر لق ...


المزيد.....

- الى جمهورية كردستان الاشتراكية المتحدة!، الوثيقة 3 - كردستان ... / كوران عبد الله
- “رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”. / أزاد فتحي خليل
- رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر / أزاد خليل
- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - في زمن العفن المقدّس