أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإنكار















المزيد.....

كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإنكار


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 00:38
المحور: القضية الكردية
    


خلف
رفضُ الحكومة السورية الانتقالية للنظام اللامركزي والفيدرالي ليس فقط مجرّد موقف إداري أو اختلاف تقني في هندسة الدولة، بل هو تعبير بنيوي عن مشروعٍ سلطويّ يتكئ على إرثين متداخلين، إرث البعث الاستبدادي، وإرث التيارات الجهادية التي ترى السلطة امتدادًا لـ (الولاية الشرعية) لا لعقدٍ اجتماعيّ أو دستور. ورغم أنّ هذه الحكومة تقدّم نفسها بلبوس المعارضة، إلا أنّ بنيتها العقائدية لا تختلف جوهريًا عن الدولة المركزية القديمة، فالاستبداد يتبدّل في اللغة والمصطلح، لكنه يبقى ذاته في الجوهر.
لقد استبدلت السلطة الحالية مفهوم (القائد الملهم) بمفهوم (وليّ الأمر) الذي يستمد شرعيته من تأويلات جبرية دينية تتجاوز المجتمع وتمتصّ إرادته، ومن العروبة الشوفينية انتُقل إلى «الأمة الإسلامية العربية»، ومن طغيان الحزب الواحد إلى طغيان الجماعة الواحدة، وهو تحوّل يكشف أن العقل السياسي الحاكم، مهما تغيّرت واجهاته، لا يزال عاجزًا عن استيعاب أي حضورٍ قوميّ لا يرتكز على اللغة العربية والخطاب الديني الموجّه، وفي مقدمته الحضور الكوردي.
الأدهى أن هذا الالتباس في الهوية السياسية ولّد خوفًا جديدًا، الخوف من (الأسلمة الكوردية) فبعض الكتّاب اليساريين والعلمانيين العرب، وتحديدًا من المكوّن السني، انتقلوا من مواجهة الإسلام السياسي إلى مواجهة الحركة القومية الكوردية، وخلطوا بين PKK وتنظيمات جهادية، بل جعلوا أي نضال كوردي (مشروعًا انفصاليًا) أو (أجندة خارجية) إنّه خوفٌ يشي بأن المشكلة ليست مع الإسلام السياسي ولا مع الماركسية الكوردية، بل مع الكورد أنفسهم، مع حقّهم في الوجود.
غيابُ الصوت الكوردي في الإعلام العربي زاد هذه الأزمة عمقًا. فالمجال العام مُحتكر بالكامل للرواية العربية الرسمية والمعارضة، ولا صحيفة أو قناة عربية كبرى تسمح لكتّابٍ كورد بالكتابة بحرية، فيظلّ الكوردي مُحاصَرًا بين صمتٍ قسريّ واتهامات جاهزة.
وما زاد الطين بلّة أنّ الذاكرة العربية الجمعية استخدمت علاقة بعض الأحزاب الكوردية بإسرائيل كورقة لتشويه كل المطالب الكوردية، منذ الستينيات، حين تحوّلت تهمة (العمالة) إلى أداة جاهزة لنفي أي حقّ قومي. واستُخدمت عقدة (الأغلبية) لتثبيت تفوّق عرقيّ واضح، العرب هم الأغلبية التاريخية، والكورد أقلية طارئة، وكل حقوق الكورد تصبح، في هذا المنطق، (تمييزًا ضد العرب).
وفي العمق النفسي، تحضر جراح فراغ الإمبراطوريات القديمة، سقوط الأندلس، ضياع البلقان، انحسار المدّ العربي إلى حدود ضيقة، لذلك يظهر أي حديثٍ عن حلّ عادل للقضية الكوردية كأنّه «تهديد وجودي»، يوقظ رهابًا أسطوريًا من تقسيم جديد يشبه النهاية الأندلسية.
وهذه الذهنية تجد دعائمها في طبقات عربية وسطى استفادت تاريخيًا من التعريب السياسي والاقتصادي، فالدفاع عن الرواية القومية لم يكن دفاعًا عن الحقيقة، بل عن الامتيازات، وبعد 2003 في العراق و2012 في سوريا، تولّد خوفٌ آخر، الخوف من (الكوردانية العكسية) إذ شعر بعض العرب بأن الكورد استعادوا جزءًا من أراضيهم أو إدارة مناطق مختلطة، فتحول الإنكار من أداة فكرية إلى ردّ فعل غريزي دفاعي.
وتتدخل عوامل أوسع، تضامن قومي–سياسي مع تركيا بحكم الاصطفافات الإقليمية، ما جعل كثيرًا من اليساريين والقوميين العرب يرددون دعاية أنقرة ضد PKK دون تمحيص، وإلى جانب ذلك تنشأ ثقافة (السلام البارد) صمتٌ متبادل بين بعض النخب العربية والكوردية لتجنّب الانفجار، لكن أي صوت كوردي يرتفع يُقابل بعاصفة إنكار.
وهناك ما هو أعمق، متلازمة (الضحية الأبدية) العربي الذي يعتبر نفسه ضحية الاستعمار والصهيونية لا يحتمل أن يصبح جلاّدًا في حقّ شعب آخر، فيلجأ إلى الحلّ الأسهل، نفي وجود الضحية الكوردية، ومن ورائها النرجسية القومية التي تُشرعن التفوق العرقي، وتحوّل الكورد إلى (هوامش بشرية) في خطاب يشي بأن العرب (خير أمّة) وتاليًا كل غير عربي، خصوصًا إن لم يكن تركيًّا أو فارسيًا، يصبح (أدنى).
والحقيقة السوداء التي لا يُقال، لو كان الكورد شعبًا ذا ديانة مختلفة، مسيحيًا أو يهوديًا مثلاً، لوجدوا تضامنًا عربيًا أكبر، لكن كونهم مسلمين سنة مثل غالبية العرب جعل اضطهادهم أمرًا (عاديًا) يُترك في خانة (الشأن الداخلي) وتحوّل قتلهم إلى (تفاصيل).
إنّ ما يختبئ خلف ماكينة الإنكار لدى الشرائح العنصرية والتكفيرية وفلول البعث والممسوسين بالوهم القومي، ليس خلافًا سياسيًا عابرًا، بل بنية وعي عميقة تتلاءم فيها الأسطورة مع السلطة، ويتداخل فيها الخوف مع ادّعاء السيادة. إنّه وعيٌ لا يحتمل المرآة؛ لأنّ الاعتراف بوجود آخرٍ راسخ الجذور يعني الاعتراف بحدود الذات أولًا، وبأنّ الهيمنة لم تكن يومًا قدرًا مقدّسًا، بل حدثًا تاريخيًا قابلاً للنقد والزوال.
في هذا المخيال، لا يصبح الكوردي شعبًا، بل (مسافة فارغة) يجب شغلها بسردية جاهزة؛ ولا يصبح وجوده امتدادًا طبيعياً لجغرافيا صنعها الزمن، بل (خللًا) ينبغي تصحيحه. ولهذا تتحوّل الخرائط إلى أسلحة أيديولوجية، وتصبح الجغرافيا وثيقة اتهام، ويغدو التاريخ مجرد ورشة لإعادة تدوير الروايات بما يخدم قداسة (الأغلبية) المتخيّلة.
هذه الذهنية ترفض التعدد لا لأنها لا تفهمه، بل لأنها تدرك أنّ قبول التعدد يعني انهيار مركزيتها، وتعرف أنّ الاعتراف بالشعب الكوردي يفتح الباب لطرح سؤالٍ خطير، مَن الذي وُجد أولًا؟ ومن الذي فُرض لاحقًا؟ ولذلك تحوّل هذه المجموعات اعترافًا بسيطًا بالحقيقة إلى تهديد وجوديّ، وتستدعي كل أدواتها النفسية والسياسية لطمسه.
فالاحتلال يُقدَّم كقدر، والتقسيم يُرفع إلى منزلة القانون الطبيعي، والاعتراض الكوردي يُجرَّد من معناه القومي ليُقدَّم كتمرّدٍ على (وحدة الأمة) إنها آلية دفاع نفسي أكثر منها موقفًا سياسيًا، رفضٌ للاعتراف بأنّ الآخر يحمل ذاكرة أعمق من ذاكرة السلطة، وأرضًا أقدم من نشوء الدول، وهويةً لا يمكن اختزالها في دفتر إقامة أو تصنيف أمني.
ومن هنا تأتي قسوة هذا الإنكار، فهو لا ينفي الحقوق فحسب، بل ينفي الوجود ذاته؛ ينفي الذاكرة، واللغة، والحق في الحكاية، ويختزل الشعب في رقمٍ يُمحى عند الحاجة، وفي جغرافيا يعاد رسمها مع كل موجة هيمنة.
ولهذا فإنّ مواجهة خطاب الإنكار ليست جدلًا سياسيًا، بل إعادة بناءٍ للعقل قبل الدولة؛ محاولة لفكّ الارتباط بين القداسة والزيف، بين الأغلبية والحق، بين التاريخ والامتلاك. فبدون هذا التفكيك العميق، سيظل الكورد مجرد (وجود زائد) في المخيال العنصري، وسيظلّ الوطن مشروعًا ناقصًا، يعيد تدوير الخراب ذاته مهما تغيّرت المسميات.
إنّ سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى فوق عقلٍ قديم. ولا يمكن لبلدٍ يسعى إلى الخلاص أن يحمل في قلبه إنكارًا بحجم أمة.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
23/11/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفكيك خطاب الناشطة الجولانية – الأميركية ميساء قباني
- الديمقراطية فخٌّ قاتل والفيدرالية هي النجاة الوحيدة للكورد
- منتدى ميبس في دهوك عودة الجغرافيا الكوردستانية إلى مركز التا ...
- بين الاستراتيجيات الكبرى ومسارات التغيير السعودية وتركيا وال ...
- على طرفي النقيض بين زيارة محمد بن سلمان والجولاني للبيت الأب ...
- بين ظلام التكفير واغتيال الكلمة دفاع عن حرية الفكر والمثقفين ...
- بين وعي الانتماء وزيف الهوية المصطنعة
- أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا
- الجولاني من ساحات الإرهاب إلى عتبة البيت الأبيض
- لماذا تُجمّل أمريكا وجه الإرهاب بدعوتها الجولاني إلى البيت ا ...
- من فاتن رمضان إلى عبد العزيز تمو وغيرهما من المرتزقة الكورد ...
- بعض الأخوة المسيحيين يختارون عبودية الماضي على حرية كوردستان
- من مناهج البعث والتكفيريين إلى مناهج كوردستان
- حين عرّى الوعي الكوردستاني الزيف الانتقالي
- التغيير الديمغرافي في غربي كوردستان هو استمرار لجريمة البعث ...
- ترامب الابن في الرياض وسوريا بين الإعمار والمساومة
- الإعلام العربي بين تلميع السفهاء وإقصاء الكورد
- خدم السلطان بلباس المثقف والمحلل السياسي
- إلى الأخت الكاتبة (نسرين تيلو) حكاية الغياب والذاكرة.
- قامشلو البوابة السياسية لوطنٍ يُعاد بناؤه


المزيد.....




- تقرير عبري: إسرائيل تجوّع الأسرى الفلسطينيين بسجونها
- 3 شهداء وعشرات المصابين والمعتقلين بعملية طوباس شمالي الضفة ...
- 3 شهداء وعشرات المصابين والمعتقلين بعملية طوباس شمالي الضفة ...
- الأمم المتحدة: نقص التمويل يعرقل حمايتنا للمدنيين بالسودان
- أبو هولي يطالب السويد بعودة تمويلها للأونروا واستعادة دورها ...
- الأمم المتحدة: نقص التمويل يعرقل حمايتنا للمدنيين بالسودان
- سوريا: العلويون ينددون بتعرضهم لـ-عقاب جماعي- في ظل -نظام يس ...
- رغم -التدابير القسرية- ضد المحكمة.. الجنائية الدولية: تقدم غ ...
- سوريا.. القبض على مسؤول سابق بأمن الدولة متورط بجرائم حرب
- الإعلام في تونس ... أي هامش لحرية الصحافة اليوم؟


المزيد.....

- الى جمهورية كردستان الاشتراكية المتحدة!، الوثيقة 3 - كردستان ... / كوران عبد الله
- “رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”. / أزاد فتحي خليل
- رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر / أزاد خليل
- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإنكار