أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - من يقف خلف تقرير رويترز؟















المزيد.....


من يقف خلف تقرير رويترز؟


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 09:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التفكيك المفصل لرواية مشبوهة تُهيئ لمرحلة خطيرة في سوريا...

ما نشرته وكالة رويترز في تقريرها الصادر من دمشق بتاريخ 5/12/2025م، تحت عنوان (تقرير خاص - من منفاهما في روسيا.. رئيس المخابرات السوري السابق وابن خال الأسد يخططان لانتفاضتين) ليس تحقيقًا صحفيًا بقدر ما هو نصّ سياسي موجّه، يقف خلفه قوى إقليمية والحكومة السورية الإنقتالية، يُراد له أن يُقرأ على أكثر من مستوى، وأن يُستثمر في أكثر من اتجاه. فالوثيقة ليست محايدة كما تدّعي، بل تحمل في بنيتها خطابًا تحريضيًا محسوبًا، يُعيد إنتاج آليات النظام السوري المجرم البائد نفسه، من خلال إحياء الشخصيات المجرمة والفاسدة للنظام السابق إلى الساحة السورية، ولكن هذه المرة تحت لافتة “الانتقال السياسي”، وبأدوات إعلامية دولية تمنح الرواية غطاءً من الشرعية.
الرسالة الأولى: ترهيب المكوّن العلوي
التقرير يبدأ من الساحل وينتهي عند الساحل، وكأن البلاد اختُزلت في منطقة واحدة.
الغاية واضحة، خلق حالة خوف جماعي داخل الطائفة العلوية عبر التلميح إلى أن هناك انتفاضة ستنطلق من داخلهم، يقودها رجال النظام السابق أنفسهم، وأن “العلويين سيُستدرجون إلى معركة جديدة”.
لكن الحقيقة الفعلية هي أن، لا رامي مخلوف يملك سيولة قادرة على تحريك 500 شخص، فضلًا عن 50 ألفًا، ولا كمال حسن يملك أداة تنفيذية واحدة تحت الظروف الراهنة، هؤلاء أشخاص محروقون سياسيًا، فقدوا أدواتهم وشرعيتهم قبل سقوط النظام المجرم البائد بسنوات، وإعادة تضخيمهم الآن ليست قراءة واقعية، بل هندسة خوف مقصودة لترويض الساحل وإعادته إلى حضن سلطة انتقالية لم تستقر بعد.
الرسالة الثانية: صناعة عدوّ تخييلي لجرّ الطائفة إلى الاصطفاف
التقرير يوحي بأن “العلويين على وشك التمرّد”، ليضعهم في موقع الاتهام والريبة، ويجبرهم على الالتفاف حول الحكومة الانتقالية، وكأن التقرير يقول لهم، إمّا الرضا الكامل، أو أنتم مشروع حرب جديدة.
هذه هي الميكانيزمات القديمة للنظام الأسد المقبور والمجرم، خلق تهديد داخلي وهمي لفرض الطاعة الجماعية.
رويترز هنا لا تنقل رواية؛ هي تصنع تهديدًا سياسيًا يتغذّى عليه من يريد إعادة هندسة المجتمع السوري بالإكراه.
الرسالة الثالثة: وهي غير مباشرة، دسّ اسم الكورد وقوات قسد في المعادلة.
هنا تكمن أخطر نقطة في التقرير. الإشارة إلى أن قوات قسد جندت "قرابة 5 آلاف علوي"، وهي كذبة كبيرة، خطيرة، وقابلة للتسييل السياسي.
لماذا؟
لأنها تربط الكورد بالمكوّن العلوي بطريقة ملغومة، لأنها توحي بوجود “تحالف سرّي” يهدّد الحكومة الجديدة.
لأنها تمنح القوى التكفيرية الذريعة لاستهداف قسد والكورد. ولأنها تهيئ الأرضية لحرمان الكورد من مكتسباتهم السياسية والعسكرية لاحقًا.
المعادلة واضحة:
إلصاق أي توتر علوي بقسد، لتصوير الكورد باعتبارهم القوة التي “تتلاعب بالطوائف”، وبالتالي خلق مبرر لحرمانهم من حقوقهم الدستورية المقبلة، هذا هو الهدف الحقيقي من هذه الفقرة “العابرة” في التقرير.
الرسالة الرابعة: تصوير الوضع في الساحل كحرب مرتقبة.

التقرير يكرر أرقامًا غير قابلة للتصديق، 50 ألف مقاتل؟ 14 غرفة قيادة تحت الأرض؟ شبكات عابرة للحدود؟
الأسماء المذكورة لا تملك اليوم القدرة على تحريك 50 عنصرًا، وليس 50 ألفًا، إنها مبالغات تخمينية تُستخدم لصناعة مسرح رعب، لا أكثر.
هذا الخطاب يهدف إلى،
تخويف الداخل العلوي،
تحريض السنة بأن “العلويين يعدّون لانقلاب”.
إيهام القوى الدولية بأن سوريا على حافة حرب أهلية إن لم تدعم الحكومة الانتقالية دون شروط.
هذه ليست صحافة، بل إعادة هندسة للرواية الوطنية.
الرسالة الخامسة: تبييض صورة الحكومة الانتقالية وجعلها المنقذ الوحيد.
التقرير يقدم الحكومة الجديدة كطرف “هادئ، عقلاني، ضابط للأزمة”. بينما يصور أي تحرك علوي، أو أي مكون سوري أخر يطالب بالديمقراطية والعدالة في سوريا، كأنه بداية حرب أهلية.
هنا يتحول التقرير إلى نص ترويجي للحكومة الانتقالية بشكل وقح، وهي حكومة لا تملك أدوات أمنية أو اقتصادية أو إدارية متماسكة، ولا تزال تعتمد على الدعم الخارجي في كل خطوة.
من يقف خلف التقرير؟
اللغة المستخدمة، والجهات المستهدفة، وترتيب المعلومات، تشير إلى أن التقرير، مكتوب بالتنسيق مع قوى داخل الحكومة الانتقالية، وباستشارات مباشرة من أجهزة أمنية إقليمية، ويستهدف الطائفة العلوية والكورد معًا، لتحصيل شرعية سياسية مفقودة عبر صناعة الخوف، وإعداد الأرضية لهندسة السلطة الجديدة بالطريقة التي لم يستطع النظام السابق إكمالها.
إنه نصّ سياسي أكثر مما هو تحقيق، إنه رسالة أمنية أكثر مما هو مادة صحفية.
الغاية النهائية، سوريا جديدة بوجهٍ قديم، لا ديمقراطية ولا تعددية، بل سلطة استبدادية مركزية.
التقرير يعبّد الطريق نحو:
تطويق الكورد وإضعاف قسد.
شيطنة أي حراك علوي مستقل.
إحياء خطاب الطائفية تحت مسمى "الأمن الوطني".
تقديم الحكومة الانتقالية كمرجع أوحد، تمامًا كما كان يفعل الأسد.
فتح الباب أمام القوى التكفيرية كموازن مفيد ضد قسد وبقية المكونات.
إنه نصّ يعيد إنتاج ديكتاتورية بنسخة شَرْعية مصطنعة.
التقرير لا يصف سوريا؛ إنه يصنع سوريا جديدة على الورق، بالشكل الذي تريده بعض القوى، علوية، درزية، كوردية سنية إيزيدية مذعورة، سنية تكفيرية وليست كل السنة مُعبّأة، مثلما كانت سوريا في عهد النظامين المقبور والمجرم لكن اللوحة مقلوبة، حينها كانت المعارضة، والكورد والسنة مذعورة والعلوية معبأة.
كوردية مُشيطنة، وقوى تكفيرية تنتظر الفرصة، وهذا هو الطريق الأقصر نحو حرب أهلية مؤجّلة.

وعليه فإن الرد على تقرير رويترز ليس مسألة رأي، بل واجب وطني وأخلاقي، لأن ترك مثل هذه السرديات دون تفكيك يعني السماح بكتابة فصل جديد من الكارثة السورية.
ومع انتقال التقرير إلى الحديث عن الضباط الذين بقوا في سوريا بعد سقوط النظام، يواصل نسج الرواية ذاتها، توسيع نطاق “التهديد العلوي” وتضخيمه، رغم اعترافه الضمني بانعدام القدرة الفعلية. فالمستوى العسكري المتوسط الذي لجأ إلى الساحل لم يكن يملك مشروعًا سياسيًا ولا ماليًا ولا اجتماعيًا، لكن التقرير قدّم وجودهم كأنّه البنية التحتية لتمرّد طائفي قادم، مع أنّ ما جرى لم يتجاوز ردود فعل مشتتة لضباط انهارت وظائفهم فجأة ووجدوا أنفسهم بلا دور وبلا مؤسسة وبلا مورد، وهو ما اعترف به حتى القائد المتقاعد الذي نقلت عنه رويترز قوله إن آلاف الشباب “لقوا حالهم بلا شي”. هذا الانهيار لم يكن أرضية للتمرّد بقدر ما كان تعبيرًا عن الفراغ الذي خلفته منظومة الأسد المجرم في بيئتها نفسها، ومع ذلك أصرّت الرواية الصحفية على تحويل فراغٍ اجتماعي إلى “خلايا صاعدة”.
وتناول التقرير “الانتفاضة الفاشلة” في السادس من آذار، مقدّمًا إيّاها كحدث نوعي يعكس قدرة التنظيم العلوي على المبادرة والاشتباك، رغم أن التفاصيل التي يسردها تكشف هشاشتها، وحدة صغيرة نصبت كمينًا محدودًا، عميد يهرب إلى لبنان بعد فشل العملية، ثم موجة انتقام واسعة طالت الأبرياء أكثر مما طالت المسلحين.
لكن رويترز استغلت الحدث لتثبيت سردية جديدة مفادها أن تلك الساعات كانت “نقطة تحول” لحسن ومخلوف، وكأن الرجلين كانا بحاجة لدماء جديدة كي يعيدا تنظيم نفسيهما ويظهران في الصورة بوصفهما “أمراء ظل” يستعدان لوراثة إرث النظام الساقط. الحقيقة أن هذه القراءة لا تُعبّر عن وقائع، بل عن رغبة سياسية، صناعة مشهد يبرّر توظيف الطائفة العلوية مجددًا في معادلة الخوف، ودفع الحكومة الانتقالية لتصعيد حضورها الأمني في الساحل بحجة إحباط انتفاضةٍ لم تتشكّل أصلًا.
ثم انتقل التقرير ليكرّس شخصية رامي مخلوف بصفته “فتى الساحل”، ليعيد تدوير صورة الرجل الذي كان طوال عقدين رمز الفساد الاقتصادي، فإذا به يتحول فجأة في الرواية الجديدة إلى زاهدٍ متديّن، كاتب تفاسير، يستشهد بالقرآن، ويحلم بدورٍ مقدّس في معركة آخر الزمان. هذا التحوّل الدرامي، المصاغ بعناية في التقرير، لم يكن بريئًا؛ فقد أُريدَ منه خلق صورة “الزعيم الروحي–المالي” الذي يملك أتباعًا ويحرّك جموعًا، رغم أن كل ما يقدّمه التقرير في هذا الاتجاه هو مجموعة ادعاءات دينية ورسائل واتساب ومنشورات فيسبوك، لا وزن لها عمليًا ولا سياسيًا. إنّ الاستخدام المكثّف للخطاب الديني في توصيف مخلوف بدا محاولة لربط الساحل بمخيالٍ مذهبي عميق، يُسهّل لاحقًا على القوى الإقليمية توظيف أي حراك هناك بوصفه بُعدًا شيعيًا أو طائفيًا مرتبطًا بنبوءات وصراعات تمتد أبعد من سوريا.
وتوسّع التقرير لاحقًا في عرض حياة مخلوف في موسكو، ومعه تفاصيل لا قيمة لها في ميزان التحليل السياسي، الفندق، الحراسة، التدين، الكتب، كأن الغاية ليست تقديم معلومات، بل بناء أسطورة. الأسطورة هنا تُستخدم كأداة لتضخيم الدور، ولخلق انطباع بأن مجرد وجود الرجل في موسكو كافٍ لخلق “خطر مستقبلي”، ثم تُوظّف هذه الأسطورة في الفقرة التالية مباشرة، حين يتحدث التقرير عن تحويل الأموال لشراء الولاءات والسلاح. ورغم الاستعراض الكبير للأرقام، خمسة آلاف مقاتل هنا، ثمانية عشر ألف ضابط هناك، ثمانون كتيبة موزعة على أربع محافظات، يعترف التقرير في نهاية المطاف بأن معظم هؤلاء تركوا القتال بعد سقوط النظام، وأن الموارد شحيحة، وأن الرواتب لا تتجاوز ثلاثين دولارًا للمقاتل. أي باختصار، “جيش رقمي” بلا وجود فعلي، يُبنى بهدف نشر الخوف لا بهدف الإخبار.

كما أعاد التقرير دمج أسماء ضباطٍ مثل سهيل الحسن وقحطان خليل، وكلاهما فقد مكانته وسلطته في اللحظة التي سقط فيها النظام البائد، لكنه صُوّر كأنّه ما يزال قادرًا على تشكيل كتائب، وتوزيع عناصر، وشراء ولاءات. وهذا التضخيم المتكرر لأسماءٍ انتهى دورها الفعلي يدخل في استراتيجية واضحة، خلق طبقة “أشباح قيادية” تحوم فوق الساحل، بما يساعد على استمرار الاعتقاد بأن المنطقة على شفا انفجار، وأن السلطة الانتقالية وحدها القادرة على منع انهيارها.
ويُلاحَظ أن التقرير يستند، في كل فقرة تقريبًا، إلى مصادر مجهولة، “خمسة قادة”، “ضابط سابق”، “مدير مالي”، “مقربون”، “مصادر مطلعة” … وفي الوقت ذاته يعتمد على وثائق لا يقدّمها للقارئ، وصورٍ لا ينشرها، وتخمينات لا يثبتها. ومع ذلك يبني سردية كاملة عن “اثني عشر ألف رجل جاهز للقتال”. هذه ليست صحافة تحقيقية؛ إنها ممارسة ترويجية تُستخدم لتبرير الحاجة إلى السلطة الحالية، ولقطع الطريق على أي تحوّل سياسي يخرج عن الخط الذي ترعاه القوى الإقليمية والدولية.
وتتكرر المفارقة عندما يقول أحد القادة العسكريين، “رح نشيل سلاح ونحمي أهلنا… بس لما تسمح الظروف السياسية”. الجملة ليست أكثر من إيحاء ملغوم، يُستعمل لتسويق فكرة أن “التحرك مؤجّل لكنه موجود”، وهي الجملة التي تُستخدم عادة كأداة ضغط نفسي على الطائفة وعلى الحكومة الانتقالية في آنٍ معًا. وعلى الجانب المقابل، تأتي السخرية من مخلوف على لسان قائد آخر لتقدّم مشهدًا ساخرًا عن رجل يحاول شراء الولاء بأموال قليلة، وكأن الخلافات الشخصية الداخلية تؤكّد مصداقية الرواية لا تُسقطها. فالتقرير يوظّف التناقضات الداخلية بين هؤلاء القادة ليؤكّد شيئًا واحدًا، رغم الفوضى، هناك “خطر كامن”.
ثم يختم التقرير هذا الجزء بمشهدٍ يرسّخ صورة الانهيار الاجتماعي داخل الطائفة، آلاف العلويين الذين فقدوا وظائفهم يعيشون “فقرًا مدقعًا” … والجميع يأخذ “قرشين من هالحيتان”. هذه الجملة بحد ذاتها ليست توصيفًا اجتماعيًا، بل أداة سياسية لبناء مسار خوف مضاعف، الطائفة جائعة، الطائفة مُهانة، الطائفة تبحث عن أي يد تمتد إليها، حتى لو كانت يد مخلوف أو حسن، وبالتالي فمجرد وجود هذه البيئات الهشة يصبح مبررًا لصناعة تهديدٍ لا وجود له.
هكذا يواصل التقرير هندسة الخوف، سطرًا بعد سطر، بدمج الواقع المتصدع مع الخيال الأمني، وتحويل تشتت الضباط، وفقر الساحل، وانهيار النفوذ العلوي إلى “مشروع انتفاضة” لا يملك أدوات الانتفاض، وإلى “تحالف مالي–ديني” لا يملك عناصر القوة، وكل ذلك يخدم غاية واحدة:
إبقاء الساحل السوري منطقة مرتجفة، قابلة للتوظيف السياسي، ومؤهلة دائمًا لأن تكون ذريعة في يد من يريد التحكم برقاب السوريين، أو الطعن بالشعب الكوردي وقوات قسد عبر إلصاق التهم، وجرجرتهما إلى ساحة صراع لا علاقة لهما بها.
ومع انتقال التقرير في فقرته الأخيرة إلى رسم صورة “كمال حسن” بوصفه اللاعب الأخطر والأكثر طموحًا، يستمر البناء السردي ذاته، تحويل رجلٍ مهووس بالسلطة، غارق حتى أذنيه في جرائم النظام السابق، إلى “قائد ظلّ” يقود معركة متعددة الجبهات لاستعادة الساحل. فالتقرير يستحضر أولًا دوره الدموي في منظومة الاعتقال العسكري، ثم يقفز فجأة إلى تفاصيل درامية عن هروبه إلى سفارتي الإمارات وروسيا، وكأنه يعيد إنتاج أسطورة رجلٍ “لا يقبل الجلوس على كرسي خشب”، ليمنح الشخصية هالة بطولية مقلوبة تثير التعاطف أو الدهشة، رغم أن ما يقدمه في الواقع ليس أكثر من غرورٍ شخصي لرجلٍ متورط في أعظم الجرائم.

ثم تتوسع الرواية، فيلا بثلاثة طوابق، لقاء وحيد مع ماهر الأسد، علاقات وثيقة مع الروس، ثم إنفاق 1.5 مليون دولار على 12 ألف مقاتل. ولكن كما في كل أجزاء التقرير، تتكرر المفارقة ذاتها، أرقام ضخمة بلا أدلة، شبكات ولاء بلا قدرة ميدانية، وقوة “محتملة” لا تتجسد في أي فعل عملي. وكأن الغاية ليست توصيف واقع، بل صناعة مشهد يراد له أن يبقى مُعلّقًا بين الخطر والخيال، يتيح للقارئ أن يتخيل انقلابًا بينما تعترف الوقائع بأن أي نواة لعمل عسكري فعلي غير موجودة.
ويواصل التقرير تضخيم الصورة عبر الإشارة إلى “منظمة إنماء سوريا الغربية” بوصفها غطاءً إنسانيًا، وتقديم مبالغ صغيرة كمؤشرات على “بناء نفوذ”، رغم أنها لا تعبّر إلا عن محاولات يائسة لإعادة تجميع جمهورٍ مُفكَّك. ثم يضيف عنصرًا جديدًا، تجنيد 30 مخترقًا إلكترونيًا لتنفيذ هجمات رقمية، ليكتمل المشهد الأسطوري حول “معركة متعددة الأوجه” وحتى هذا العنصر، رغم أنه مذكور بصيغة مسرحية، يعترف في النهاية بأن ما سرقوه من بيانات بيع في شبكة الإنترنت المظلمة مقابل مبالغ هزيلة لا تتجاوز 500 دولار. أي أننا أمام “هجوم إلكتروني” لا يختلف كثيرًا في قيمته الفعلية عن الرواتب الزهيدة التي وُزعت على المقاتلين المزعومين.
ثم ينتقل السرد إلى المجرم ماهر الأسد نفسه، شقيق الدكتاتور المجرم، ليقدمه التقرير بصفته اللاعب الذي لم يتحرك بعد، لكنه قادر على تغيير المعادلة، هنا تتجلى استراتيجية التقرير بوضوح، خلق سلسلة من “اللاعبين المحتملين”، بحيث يبدو الساحل منطقةً مكتظة بقيادات تنتظر لحظة الانقضاض. كل شخصية تُرسم بشكل يضمن استمرار التهويل، ماهر يمتلك 25 ألف مقاتل “إذا أصدر الأمر”، مخلوف يمتلك عشرات آلاف “إذا استعاد السيولة”، حسن يمتلك آلافًا “إذا نضجت الظروف”. إنّ كلمة “إذا” هنا ليست شرطًا لغويًا، بل أداة سياسية لتثبيت الخوف ومنع الاستقرار.
ويتابع التقرير توظيف روسيا في هذا البناء التخيلي، فالقارئ يُمنح انطباعًا بأن موسكو قد تدعم الطرفين إذا نظما نفسيهما، ثم يعاد سحب الفكرة عبر الإشارة إلى برود الروس ورفضهم الواضح. هذا التقلب المتعمد بين “احتمالية الدعم” و” استحالة الدعم” ليس ارتباكًا صحفيًا، بل استراتيجية لزرع الشكوك وتأجيج الهواجس داخل الطائفة العلوية، وإشعارها بأنها مكشوفة بلا حماية وبلا ظهير دولي، وبالتالي دفْعها للارتماء في حضن السلطة الانتقالية بوصفها “الضامن الوحيد”.
ثم تأتي شخصية خالد الأحمد، ليُصاغ دوره في سياق يُظهره “منقذ الطائفة” و” جسر الثقة” بين العلويين والحكومة، لا مشكلة في سرد دوره، لكن طريقة توظيفه داخل البناء السردي تكشف الغاية، تحويل الحكومة السورية الانتقالية إلى مركز ثقل أخلاقي–سياسي يقف بين الطائفة العلوية وبين “الخطر المزدوج” خطر ضباط النظام السابق، وخطر الانتقام السني المؤجل. إنّ إدراج شخصيات كالأحمد ضمن هذا السياق ليس بريئًا؛ إنه استخدام واعٍ لرمزية “العلوي المعتدل” الذي يجب أن تتجمع الطائفة خلفه، ليكتمل مشهد الترهيب والترغيب.
ويختم التقرير بتوصيفات تُظهر الساحل في حالة تململٍ متوترة، مخابئ أسلحة مدفونة، غرف تحت الأرض “جاهزة عند الحاجة”، خلايا تُعتقل هنا وهناك. لكن كل هذه المؤشرات ليست إلا شذرات من واقع خلقه النظام الطاغية السابق، وقد انتهى مفعولها منذ اليوم الأول لسقوطه، ومع ذلك، يوظفها التقرير كعناصر إثارة لربط الماضي بالحاضر، وإبقاء الساحل مساحةً معلقة بين السلم والحرب.
إنّ قراءة التقرير كاملًا تكشف أن خطورته لا تنبع من المعلومات التي يقدمها، إذ إن أغلبها مبني على التخمينات، ومصادر مجهولة، وتهويلات مفضوحة، بل من الرسائل التي يُراد لها أن تُبنى عليه. فالمشهد الذي رسمته رويترز ليس إلا أداة سياسية لترويع المكونات السورية، وعلى رأسها الطائفة العلوية، ودفعها إلى الارتماء في أحضان الحكومة السورية الانتقالية بوصفها الملاذ الوحيد من “وحوش الماضي”. وهي أيضًا محاولة لفتح الباب أمام القوى التكفيرية كي تُسوّق نفسها بوصفها شريكًا ضروريًا في “محاربة فلول العلويين”، وهو استدعاء خطير لذاكرة القتل، يعيد إنتاج خطاب الانتقام بمسميات جديدة.
لكن الأخطر كان تمرير تهمة خبيثة ومبطنة ضد الشعب الكوردي وقوات قسد، عبر إيحاء خبيث، وإتهام غير مباشر، مدروس يربط بين ما ورد في التقرير وبين مزاعم تجنيد “خمسة آلاف علوي” لصالح قسد. هذا الاتهام ليس خطأً صحفيًا، بل دسيسة سياسية هدفها تغذية الشكوك بين المكونات، وتشويه صورة القوات التي احتضنت العرب والكورد والآشوريين والعلويين معًا، وقدمت نموذجًا وحيدًا لسوريا المتعددة. ومن خلف هذا الافتراء يُراد خلق مبرر مسبق لمحاربة قسد، والطعن في نزاهتها، والبدء بهندسة رأيٍ عام يحمّل الكورد ثمن صراعات النظام المجرم السابق، تمهيدًا لتهميشهم سياسيًا والتلاعب بمطالبهم المشروعة، علما أن الشعب الكوردي كان من اكثر المتضررين في العقود الستين الماضية.
ما يجري هو عملية إعادة إنتاجٍ مدروسة لروح الاستبداد السوري، لكن هذه المرة بوجهٍ تكفيري مموّه، يستند إلى الفتاوى بدلاً من الأجهزة الأمنية، وإلى خطاب الطهورية السنية العروبية بدل خطاب “الوحدة الوطنية”. وإن تُرك الأمر دون تفكيك ومواجهة، فلن تُولد سوريا الجديدة، بل ستُعاد سوريا القديمة بثوب ديني أكثر ظلامًا.
التقرير ليس تحقيقًا صحفيًا؛ إنه خارطة طريق لصناعة الخوف وإخضاع السوريين، ومحاولة مكشوفة لإطلاق يد المحاور الأكثر راديكالية في صياغة مستقبل البلاد، مواجهة هذا الخطاب ليست خيارًا، بل ضرورة وطنية لمنع سقوط سوريا مرة أخرى، هذه المرة تحت سطوة الاستبداد المُقنّع بالشريعة.
إنّ الحقيقة الواضحة خلف كل الفوضى المُصطنعة هي الآتي:
الغاية ليست حماية العلويين، ولا فضح ضباط النظام السابق، بل إعادة ضبط المشهد السوري على قاعدة الخضوع، وتمهيد الطريق لإسكات الشعب الكوردي والالتفاف على مشروعه العادل، وتبرير ضرب قوات قسد، وتقويض أي أفق لسوريا تعددية، ديمقراطية، عادلة.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
5/12/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزيرة ليست صامتة من يصادر صوتها هو من يخاف الحقيقة
- حين تتحوّل الصحافة إلى تبييض للإرهاب، ويصبح الكذب “تحليلاً س ...
- تفكيك المجتمع السوري بخطاب التكفير
- كيف صنعت الحكومة الانتقالية أقوى حُجّة لتقسيم سوريا
- التلميذ غير النجيب
- في زمن العفن المقدّس
- شكرًا للخلافة على خراب الوطن
- كوردستان الفرصة التي دمّرها الغرب
- في سوريا الحرية جريمة
- كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإ ...
- تفكيك خطاب الناشطة الجولانية – الأميركية ميساء قباني
- الديمقراطية فخٌّ قاتل والفيدرالية هي النجاة الوحيدة للكورد
- منتدى ميبس في دهوك عودة الجغرافيا الكوردستانية إلى مركز التا ...
- بين الاستراتيجيات الكبرى ومسارات التغيير السعودية وتركيا وال ...
- على طرفي النقيض بين زيارة محمد بن سلمان والجولاني للبيت الأب ...
- بين ظلام التكفير واغتيال الكلمة دفاع عن حرية الفكر والمثقفين ...
- بين وعي الانتماء وزيف الهوية المصطنعة
- أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا
- الجولاني من ساحات الإرهاب إلى عتبة البيت الأبيض
- لماذا تُجمّل أمريكا وجه الإرهاب بدعوتها الجولاني إلى البيت ا ...


المزيد.....




- لحظات مبهجة.. كلب مفقود يعود إلى أصحابه بعد 5 سنوات
- لويس هاميلتون يسرق الأنظار بإطلالاته في سباق الفورمولا 1 في ...
- -وفينا بوعودنا-.. شاهد ما قاله أحمد الشرع لـCNN بعد عام من س ...
- شهادة إسرائيلية غير مسبوقة.. من قتل الرهائن في جباليا؟
- تأديب المجتمع: تقرير جديد للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية حو ...
- بيان الشبكة العربية لاستقلال القضاء حول قضية التآمر في تونس: ...
- اجتماع أوروبي طارئ يبحث مستقبل الدعم لأوكرانيا
- تصاعد القتال بين تايلاند وكمبوديا على طول الحدود المتنازع عل ...
- توتر متصاعد على الحدود الباكستانية الأفغانية
- إندبندنت: المسيرّات الأوكرانية تجبر الأسطول الروسي على الترا ...


المزيد.....

- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - من يقف خلف تقرير رويترز؟