أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - الجزيرة ليست صامتة من يصادر صوتها هو من يخاف الحقيقة















المزيد.....

الجزيرة ليست صامتة من يصادر صوتها هو من يخاف الحقيقة


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 13:46
المحور: القضية الكردية
    


ردّي المفصّل على مقالة (عمر الهويدي) وعلى الكاتب الصحفي (محيي الدين اللاذقاني) الذي تلقّفها بوصفها مادّة جاهزة للهجوم على الإدارة الذاتية وقوات قسد والحراك الكوردي، ليس مجرّد اعتراضٍ على رأي، ولا سجالٍ صحفي تقليدي، بل مواجهة ضرورية مع خطابٍ مأزوم يُعيد إنتاج الاستبداد بلغةٍ جديدة، ويغسل منطق داعش ومشتقّاته السياسية بمفرداتٍ ناعمة وخداعٍ صحفي فاضح.

ما كُتب بقلم عمر الهويدي في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2025 تحت عنوان «عامٌ على السقوط.. والجزيرة على صفيح ساخن» لا يندرج في خانة القراءة التحليلية الرصينة، ولا يحقق شروط الوصف الصحفي المهني، ولا يرقى حتى إلى اختلافٍ مشروع في الرأي؛ بل يُمثّل انزلاقاً واضحاً إلى تفريغ الوقائع من سياقها، وانهياراً في المصداقية الفكرية، وإعادة تدويرٍ مبتذلة لمفردات السلطة الجديدة، مع تمريرٍ واعٍ أو غير واعٍ لخطابٍ كان، ولا يزال، جوهر خطاب داعش، لكن هذه المرّة بصيغة لغوية ناعمة ومخادعة.
أما ما يقدّمه الكاتب محـي الدين اللاذقاني من أطروحات، ومن ضمنها المقالة المنوهة إليها، تُستخدم أداةً للطعن في الإدارة الذاتية، والحراك الكوردي، وقوات سوريا الديمقراطية، فلا يمكن قراءته إلا بوصفه خرقاً سافراً لمعايير الإنصاف، واعتداءً على أبسط مبادئ العدالة الإنسانية، ومحاولة لتجريد مكوّنٍ أساسي من السوريين من حقه في الفعل السياسي والوطني. وهو خطاب لا يهدف إلى بناء سوريا وطنًا للجميع، بل يسعى، بوعيٍ أو بوظيفةٍ سياسية، إلى إعادة إنتاج الاستبداد ذاته الذي ثارت عليه البلاد، مع تغيير الواجهة والإبقاء على الجوهر الإقصائي نفسه.
ليس أخطر من خطابٍ يبدأ بالعاطفة وينتهي بالتضليل، ويستعير لغة “الحداد” ليُخفي حقيقة مَن قتل المدينة، ومَن دافع عنها، ومَن يريد اليوم إعادة إخضاعها بالقوة بعد أن عجز عن كسرها بالإرهاب.
القول إنّ الجزيرة السورية “صامتة” بعد سقوط النظام، ليس توصيفاً بريئاً، بل مصادرة متعمّدة لصوت منطقة اختارت ألّا تصفّق للخراب مهما تغيّر اسمه. فهل المطلوب من الرقة، التي سُوِّيت بالأرض لأنّها واجهت أبشع تنظيم إرهابي في التاريخ المعاصر، أن ترقص فوق المقابر كي تُرضي مشهداً تلفزيونياً صُنع في دمشق؟

من قتل الرقة، لا يملك حق رثائها:
الرقة ليست في “عزاء مفتوح” لأنّها تفتقد الوطنية، بل لأنّها:
قُصفت لأنها كانت عاصمة لتنظيم داعش، حوصرت لأنها رفضت أن تكون إمارة ظلام، ودمّرت لأن العالم حارب الإرهاب على أرضها ثم تركها تحت الركام.
من يتباكى اليوم على شوارعها المدمّرة ويتناسَى أنّ من يقدّم نفسه اليوم كـ“حكومة انتقالية” ينتمي فكرياً وأيديولوجياً إلى البيئة ذاتها التي أنجبت داعش، لا يكتب قراءة سياسية، بل يمارس تبييضاً سياسياً للتطرّف.
القمع المزعوم، كذبة تُراد لها وظيفة، الحديث عن “اعتقال كل مَن يحتفل أو يعبّر عن رأيٍ مؤيد للحكومة الانتقالية” في الرقة، ادعاء بلا أدلّة، وكذبة وظيفية أُعدّت لشيء واحد: تبرير عودة القبضة الأمنية بوجه جديد.

في الرقة ومناطق الإدارة الذاتية:
تُنظَّم مظاهرات ضد السلطة المحلية دون رصاص.
يُنتقد الأداء الخدمي علناً دون اختفاء قسري.
تُكتب المقالات المعارضة دون الفجر الأمني.
فهل يجرؤ الكاتب أو سيده السياسي أن يقدّم مثالاً واحداً موثقاً يُقارن بما جرى، ويجري، في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، حيث الرأي جريمة، والاختلاف كفر، والمرأة ملف أمني؟

“إمبراطورية على ساق دجاجة” لغة سلطات لا دول، حين يخرج وزير إعلام ليصف قوة محليّة أسقطت داعش، وحاربت دفاعاً عن سوريا كلّها، وتدير منطقة تضمّ كلّ مكوّنات البلاد، بتعابير سوقية من قبيل “إمبراطورية على ساق دجاجة”، فهذه ليست زلّة لسان، بل إعلان صريح عن عقلية السلطة المقبلة:
عقلية الاستخفاف، لا الحوار، والتهديد، لا السياسة، والاستعلاء، لا الشراكة.
الدول تتحدّث بلغة الأرقام والمؤسسات، أمّا الميليشيات فتتحدّث بلغة السخرية والتخوين.
الماء والنفط، متى كانت السلطة المركزية بريئة؟
الادّعاء بأنّ الجزيرة “عطشى رغم دجلة والفرات” اتهام فجّ لمنطقة حُوصرت:
سياسياً، اقتصادياً، وخدمياً، منذ عقود، أولاً بيد نظام الأسد، ثم عبر عقوبات، ثم عبر إغلاق الحدود، ثم بابتزاز سياسي تمارسه دمشق وأنقرة معاً.
فهل كانت الحسكة تفيض ماءً في زمن البعث؟ وهل كانت دير الزور نموذج تنمية قبل الإدارة الذاتية؟
أم أنّ الحرمان كان ولا يزال سياسة مركزية تُستخدم لإخضاع الأطراف؟

المشكلة ليست في “قسد”. بل في عقلية الدولة الغنيمة
جوهر هذا الخطاب ليس نقد تجربة، بل رفض مبدأ الشراكة. هو خطاب يخاف من نموذج: لا مركزي، تعددي، لا تُدار فيه البلاد من غرفة عمليات.
لذلك تُستدعى الخرائط العسكرية، وتُسرَّب تسجيلات التهديد، ويُعاد إنتاج فكرة “الأولوية الأمنية” …
لأنّ من فشل في كسب الناس، لا يتقن إلا إخافتهم.
الجزيرة السورية ليست “ملفاً غامضاً”، الجزيرة مرآة سوريا المقبلة، إمّا سوريا الشراكة والتعدّدية، أو سوريا المركزية المتوحّشة باسم “الدولة”.
ومن يهاجم الجزيرة اليوم، لا يدافع عن وحدة البلاد، بل عن حقّه الحصري في حكمها. وهذا ما لن يعود.
ما يُقدَّم هنا عن اتفاق 10 آذار، على أنّه “ساعة رملية” و” عدٌّ تنازلي” ليس سوى لغة ضغط سياسي مقنّعة بخطاب تحليلي. اتفاق 10 آذار/مارس لم يكن يوماً عقدَ شراكةٍ وطنيّة متكافئة، بل وثيقة اختبار للقوة:
– هل تنصاع قسد؟
– هل تُفرَّغ الإدارة الذاتية من مضمونها؟
– هل تُعاد الجزيرة إلى منطق “الملف الأمني” بدل كونها مساحة سياسية-اجتماعية؟
توصيف الاتفاق كعبء لأنه “غير مطبّق” يتجاهل حقيقة أساسية:
كيف يُطبَّق اتفاق في ظل حكومة لم تقدّم دستوراً، ولا عقداً اجتماعياً، ولا ضمانات شراكة، ولا تعريفاً واضحاً لشكل الدولة؟
هل يُطلب من قسد تسليم مكتسبات تحقّقت بدماء آلاف الشهداء على بياض، لحكومة لم تُثبت بعد انفصالها البنيوي عن العقلية ذاتها التي أنجبت داعش؟
“استعادة الملف” تعني: عسكرة السياسة، حين يُقال إنّ “الحكومة تستعيد الملف وتعيد دفعه إلى الواجهة بوصفه أولوية أمنية”، فالمعنى واضح ولا يحتاج تفكيكاً لغوياً: الجزيرة لا تُرى بوصفها مجالاً للحل، بل ساحة يجب إخضاعها.
الصور المسرّبة من غرف العمليات ليست “رسائل سياسية”، بل وثائق نية.
السياسة لا تُدار بالخرائط العسكرية، والدول لا تُبنى على شاشات قيادة نيران.
من يبدأ بإشارةٍ عسكرية، سينتهي بتفجير سياسي أو حرب أهلية موضعية.

“البركان الخامد”… توصيف كسول لإخفاء الفاعل
تشبيه الجزيرة ببركان “ساكن ظاهرياً يهتزّ تحته” ليس توصيفاً ذكياً، بل تهرّب من تسمية الأسباب:
– من يهدّد؟
– من يحشد؟
– من يلوّح بالسلاح؟
ليس البركان هو المشكلة، بل من يرمي في جوفه الشرارات عمداً.
الجزيرة ليست خامدة؛ هي مستقرّة نسبياً لأنّ من يحكمها يعرف معنى التوازن، لا لأنّها عاجزة عن الانفجار.
سردية “انتهاكات قسد” اتهام بلا محكمة، تكرار عبارة “استمرار انتهاكات قسد” دون تسمية، دون توثيق، ودون مقارنة، هو تقنية إعلامية معروفة، اتهام معلّق في الهواء، يُستخدم لتبرير ما سيأتي لاحقاً من قمع أو اجتياح.
أين هي المقارنة؟
– هل تُقارن قسد بهيئة تحرير الشام؟
– هل تُقارن بإمارة إدلب حيث القضاء شرعي، والمرأة ملف، والاعتراض تهمة؟
– هل تُقارن بالنظام السابق الذي دمّر كل سوريا؟
إن إخراج قسد كـ” عبء أمني” يتجاهل حقيقة لا يمكن شطبها:
لولا قوات سوريا الديمقراطية، لبقي داعش يسيطر على نصف الجغرافيا السورية.
حادثة الغانم العلي: حين تتقاطع الروايات، ويغيب السؤال الأخطر
عرض الاشتباك العسكري شرق الرقة على أنّه “تباين روايات” خدعة متعمّدة لإخفاء السؤال المفصلي:
لماذا تظهر خلايا داعش دائماً حيث تتحرّك فصائل مرتبطة بدمشق؟
رواية قسد ليست ادّعاءً جديداً، بل تراكماً موثّقاً:
– تسجيلات إطلاق درونات من مواقع مشتركة.
– هجمات متزامنة.
– نشاط متجدّد لخلايا نائمة كلما ارتفع منسوب الضغط السياسي.
حين تتلاقى النيران، لا بد من الشك فيمن يشعلها.
داعش لم يعد تنظيماً يمتدّ ذاتياً؛ صار أداة في صراعات النفوذ.
“نفوذ بلا ضمان سياسي” مغالطة مقصودة
القول إن قسد “قوية على الأرض لكنها هشّة شرعياً” يفترض أن الشرعية تأتي من فوق، من دمشق، من وزارة، من حكومة انتقالية.
هذه هي المغالطة الكبرى:
الشرعية الحقيقية تُكتسب من المجتمع، لا من البيانات.
وقسد، شئتم أم أبيتم، تمتلك:
– قبولاً اجتماعياً عريضاً،
– شراكات مكوّنات،
– نموذج إدارة لم ينهَر رغم الحصار.
الهشاشة ليست في قسد، بل في الدولة التي تريد استعادة السيطرة دون إعادة تعريف ذاتها.
هذا المقطع، بكل لغته “التحليلية”، ليس قراءة، بل:
– تمهيد نفسي للتصعيد،
– تسويغ مسبق للعسكرة،
– وتحضير رأي عام لقبول صدام باسم الدولة.
الجزيرة ليست ملفاً عالقاً، وليست بركاناً، وليست عبئاً.
الجزيرة اختبار سوريا الحقيقي:
– إمّا دولة تعددية لا مركزية،
– أو نسخة جديدة من الاستبداد، بوجهٍ مختلف.
وأيّ طريق آخر سيعيد إنتاج داعش، لا القضاء عليه.

اتفاق 10 آذار، تفاوض أم محاولة إخضاع؟
حين يُقال إن “المفاوضات الجادّة” بدأت في 10 آذار 2025، يُفترض أولاً سؤال بسيط:
جادّة بالنسبة لمن؟ وبأي ميزان قوى؟
التوصيف الذي يضع دمشق في موقع “الساعي لاستعادة مركزية الدولة”، ويصوّر مطلب قسد بالاعتراف بالإدارة الذاتية ودمج قواتها كـ“كتلة صلبة” على أنه عائق، هو قلبٌ كامل للوقائع.
فما تطلبه قسد ليس امتيازاً خارج الدولة، بل تعريفاً حديثاً للدولة نفسها: دولة لا تعيد إنتاج المركزية التي دمّرت سوريا، ولا تستبدل استبداداً مهزوماً بآخر مؤجَّل.
المركزية ليست “صيغة دولة”، بل سبب انهيار الدولة.
وكل تفاوض لا ينطلق من هذا الاعتراف هو تفاوض شكلي، هدفه إعادة ضبط السيطرة لا بناء الشراكة.
“من يملك القرار؟ من يتحكم بالنفط؟” أسئلة مُضلِّلة
طرح هذه الأسئلة بهذه الطريقة ليس بحثاً معرفياً، بل اتهاماً سياسياً.
فالقرار السياسي في الجزيرة لم يُغتصَب، بل فُرض واقعاً بغياب الدولة لعقد كامل.
والنفط لم يُنهَب، بل استُخدم، بحدوده الدنيا، لتمويل الأمن والخدمات في منطقة حوصرت من كل الجهات.
السؤال الحقيقي الذي يتم القفز فوقه هو:
من دمّر الدولة حتى غابت عن شرق الفرات؟ ومن ترك فراغاً ملأته قسد بدم أبنائها لمنع عودة داعش؟
أما “القوى الدولية التي تتقاطع خطوطها”، فهي لم تأتِ لأن قسد دعتها، بل لأن سوريا تحوّلت بفعل الاستبداد إلى ساحة مفتوحة.
الانعزال الجغرافي: من صنع الحصار؟
تحميل “الانقسام” و”الممرات المقطوعة” لقسد وحدها هو تزوير فجّ.
الطرق لم تُغلق لأن الرقة أو الحسكة أرادت العزلة، بل لأن:
– تركيا فرضت حصاراً سياسياً واقتصادياً،
– دمشق تعاملت مع المنطقة كخصم لا كمكوّن،
– والمعارضة الرسمية قبلت بذلك صمتاً أو تواطؤاً.
حين يُجبر المريض على السفر عبر دير الزور إلى دمشق، فذلك ليس نتيجة “نقاط قسد”، بل نتيجة انهيار الدولة الصحية وغياب أي مشروع إنقاذ وطني حقيقي.
الأنفاق في الرقة: أمن أم ذريعة؟
الحديث عن “حفر الأنفاق” يُقدَّم كدليل على استعداد لحرب طويلة، بينما الحقيقة أبسط وأقسى:
هذه مدن عاشت داعش، ثم التحالف، ثم حصار الإهمال.
حين لا توجد ضمانات سياسية، ولا ثقة بالدولة، ولا التزام بحماية المكتسبات،
فالسؤال ليس: لماذا تستعد قسد؟
بل: لماذا لا تستعد؟
من لا يرى في التحصينات سوى “نوايا عسكرية”، يتجاهل أن التجربة السورية علّمت الجميع أن من لا يحمي نفسه يُباد أو يُهمَّش.
دير الزور: الجريمة معروفة، لكن الاستنتاج مُضلِّل
الكاتب يعترف، وهذا نادر في النص، بأن دير الزور دُمّرت على يد النظام الهارب.
لكن بدلاً من البناء على هذا الاعتراف لاستنتاج مسؤولية الدولة المركزية التاريخية، يتم القفز إلى “الانقسام” كأنه قدر جغرافي فرضه النهر!
النهر لم يقسّم دير الزور، الاستبداد هو من قسّمها، ثم جاء الفراغ، ثم جاءت الخرائط العسكرية.
والفرق بين الضفتين ليس “سيادة قسد” مقابل “سيادة الدولة”، بل خراب مهجور غرباً مقابل إدارة قائمة شرقاً، رغم كل نقصها.
في مقطع من النص نقف أمام سابقه، لا يشرح الأزمة، بل يعيد إنتاج خطابها:
– يفترض الدولة بريئة،
– يشيطن الإدارة الذاتية،
– ويعتبر المركزية حلاً لا مأزقاً.
لكن الحقيقة أكثر بساطة ووضوحاً:
لا استقرار في الجزيرة دون اعتراف سياسي،
ولا دولة دون لامركزية حقيقية،
ولا وحدة تُفرض بالقوة أو تحت مسمى “استعادة القرار”.
كل طريق لا يعترف بهذه المسلّمات لن يقود إلى دولة،
بل إلى نسخة جديدة من الصراع، مؤجلة فقط، لا منتهية.
يبلغ الخطاب ذروته في المراوغة الأخلاقية، اعترافٌ متأخرٌ بالخطايا البنيوية للنظام الأسدي، يعقبه التفافٌ محسوب لتحميل تبعات الخراب والحصار واللا دولة لسلطةٍ نشأت أصلاً نتاجاً لانهيار الدولة لا سبباً له. هكذا يُصاغ النصّ ببلاغة حزينة، لكنه يُنهي إلى استنتاجٍ خاطئ لأن مقدماته مبتورة.
أزمة المياه في الحسكة ليست حادثة إدارةٍ محلية ولا “سطوة” سلطةٍ أمر واقع؛ هي جريمة دولةٍ مركزية استمرّت نصف قرن. من عطّل مشاريع الخابور؟ من أهمل محطات الضخّ؟ من دمّر البنية التحتية وحوّل الزراعة إلى رهينة الأمن والمخابرات؟ ومن الغرابة نسيان ما تقوم به تركيا ومرتزقتها، والمنظمات الإرهابية، التي تتحكم بمنابع المياه في علوكه، بعدما استولت عليها عام 2019، ومن حينها تقطع المياه عن مدينة الحسكة بين فينة وأخرى، كورقة ضغط لفرض شروطها على الإدارة الذاتية، وقوات قسد.
الاعتراف هنا يجب أن يكون كاملاً، العطش الذي طال الحسكة هو إرث النظام الهارب، وصنع تركيا وأدواتها، وتحميله اليوم لقسد ليس سوى تزوير سببيّ يخلط بين الفاعل والنتيجة. بل إن الوقائع تشير إلى أن ما تمّ من ترميم إسعافي وتشغيل محطات وتنظيم توزيع، رغم الحصار والعقوبات، كان محاولة إنقاذ لا إدارة رفاه.
ثم يأتي القول “خاصّة في ظل سطوة قسد” ليُدخل حكماً قيميّاً بلا دليل. أي “سطوة” هذه في منطقة محاصرة اقتصادياً من الشمال بإرادة تركية، ومُعاقَبة سياسياً من دمشق، ومعلّقة دولياً على تفاهمات الخارج؟ إن كانت هناك سطوة، فهي سطوة الجغرافيا المُغلقة، لا سلطةٍ محلية تحاول إبقاء الناس أحياء بأدوات شحيحة.
أما تكرار لازمة “تغيّر الرايات دون تغيّر الواقع”، فصحيح توصيفاً ومضلّل تفسيراً. لأن الراية الوحيدة التي غيّرت الواقع إلى جحيم كانت راية الاستبداد، ومن بعدها راية داعش، وحين سقطتا، لم يُتح للإدارة التي ورثت الخراب زمنٌ ولا موارد لتصنع معجزة. إن مطالبة الإدارة الحالية بإصلاح ما دمّره نصف قرن خلال سنوات حرب، وحصار هو ابتزاز أخلاقي باسم الواقعية. ليلحقها القصف التركي المستمر للبنية التحتية للمنطقة.
ويبلغ النص ذروة ارتهانه حين يحوّل القلق الاجتماعي إلى حجّة سياسية ضدّ الإدارة الذاتية، متناسياً أن هذا القلق هو أثر مباشر لِـ:
دمار حرب التحالف على داعش (الذي لم تختَرْه الرقة)،
وإهمال الدولة المركزية لعقود، وحصار الطرق والمعابر، وتسييس المساعدات.
ثم تُطرَح الأسئلة الكبرى بصيغة تُشيطن الشراكة وتُقدّس المركز:
هل ستقبل قسد بالدمج؟ بشروط من؟ وبأي دولة؟ وبأي ضمانات؟
السؤال المغيَّب عمداً هو: هل تقبل الدولة الجديدة بسورية جديدة؟ أم تريد دمجاً شكلياً يعيد إنتاج المركزية نفسها، ويحتفظ بأدوات الإقصاء ذاتها؟
أما تصوير الرقة “ورقة سياسية” بين “حماية قسد” و“حذر الدولة” فتبسيط مخادع. الرقة ليست ورقة؛ هي مدينة مكسورة دفعت ثمن حربٍ عالمية على أرضها. القول إن الترميم “سطحي” صحيح، لكن إغفال سبب السطحية، غياب التمويل، الحصار، وانسداد الأفق السياسي، تحريف. فالترميم ليس قراراً أخلاقياً، بل معادلة موارد وسيادة.
وأخيراً، قصة “الهجرة المعنوية” ليست قدراً غامضاً ولا نتاج إدارة محلية؛ إنها نتيجة تعليق الاعتراف السياسي بالجزيرة، ورفض اللامركزية، واستخدام المنطقة كورقة ضغط متبادلة. حين تُترك مدينةٌ بلا هوية دستورية وبلا شراكة سيادية، تتحوّل إلى هامش، حتى لو حماها أهلها بدمهم.
الرقة والجزيرة لا تقفان “بين جغرافيتين”؛ بل بين رؤيتين:
رؤية تُعيد إنتاج الدولة القديمة مركزيةً وصايةً وشبهة أمن،
وأخرى تحاول، بكل نواقصها، بناء شراكة محلية تحمي المجتمع من عودة الكوابيس.
إن لم يُكسر منطق تحميل الضحية وزر الخراب، وإن لم يُعترف بالإدارة الذاتية شريكاً سياسياً لا ملفاً أمنياً، فستظل الأسئلة معلّقة لا لأن قسد تُعطّلها، بل لأن الدولة الجديدة لم تحسم أمرها مع الماضي.
ولا ولادة دون قطيعة، ولا دولة دون لامركزية، ولا أمل لجزيرةٍ تُخاطَب دائماً بوصفها “مشكلة”، لا باعتبارها جزءاً مؤسِّساً للحل.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
3/12/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتحوّل الصحافة إلى تبييض للإرهاب، ويصبح الكذب “تحليلاً س ...
- تفكيك المجتمع السوري بخطاب التكفير
- كيف صنعت الحكومة الانتقالية أقوى حُجّة لتقسيم سوريا
- التلميذ غير النجيب
- في زمن العفن المقدّس
- شكرًا للخلافة على خراب الوطن
- كوردستان الفرصة التي دمّرها الغرب
- في سوريا الحرية جريمة
- كيف صُنِع العدم الكوردي في الوعي العربي؟ تفكيك جذور خطاب الإ ...
- تفكيك خطاب الناشطة الجولانية – الأميركية ميساء قباني
- الديمقراطية فخٌّ قاتل والفيدرالية هي النجاة الوحيدة للكورد
- منتدى ميبس في دهوك عودة الجغرافيا الكوردستانية إلى مركز التا ...
- بين الاستراتيجيات الكبرى ومسارات التغيير السعودية وتركيا وال ...
- على طرفي النقيض بين زيارة محمد بن سلمان والجولاني للبيت الأب ...
- بين ظلام التكفير واغتيال الكلمة دفاع عن حرية الفكر والمثقفين ...
- بين وعي الانتماء وزيف الهوية المصطنعة
- أمريكا بين فخّ الاستراتيجية وضياع البديل في سوريا
- الجولاني من ساحات الإرهاب إلى عتبة البيت الأبيض
- لماذا تُجمّل أمريكا وجه الإرهاب بدعوتها الجولاني إلى البيت ا ...
- من فاتن رمضان إلى عبد العزيز تمو وغيرهما من المرتزقة الكورد ...


المزيد.....




- دول الاتحاد الأوروبي تتفق على تشديد الإجراءات الخاصة بطالبي ...
- تحرير المعتقلين في سوريا: لحظة تاريخية بعد عقود من القمع
- الأونروا تدين مصادرة إسرائيل لممتلكاتها في القدس
- إسرائيل تنزل العلم الأممي من مقر الأونروا بالقدس الشرقية وتر ...
- عودة النازحين السوريين بعد عام على سقوط الأسد: الفرحة لا تُخ ...
- المجلس الوطني الفلسطيني يدين اقتحام الأونروا في القدس
- الأمم المتحدة توثق انتهاكات جنسية مروعة ضد النازحات السوداني ...
- ما تداعيات إنهاء العلاج المجاني على اللاجئين السوريين في ترك ...
- بن غفير يثير جدلا بدبوس مشنقة لدعم إعدام الأسرى الفلسطينيين ...
- إصابات واعتقالات في شجار عائلي بمحكمة بئر السبع


المزيد.....

- الى جمهورية كردستان الاشتراكية المتحدة!، الوثيقة 3 - كردستان ... / كوران عبد الله
- “رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”. / أزاد فتحي خليل
- رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر / أزاد خليل
- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - محمود عباس - الجزيرة ليست صامتة من يصادر صوتها هو من يخاف الحقيقة