أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميساء المصري - سوريا في العقل الأمريكي، دولة تُدار كي لا تُحسم














المزيد.....

سوريا في العقل الأمريكي، دولة تُدار كي لا تُحسم


ميساء المصري
(Mayssa Almasri)


الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 21:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم تكن سوريا يومًا في العقل الاستراتيجي الأمريكي ساحة حرب تقليدية ولا مشروع تغيير سياسي بالمعنى الكلاسيكي، بل كانت وما تزال مساحة مُدارة بعناية، يُضبط فيها مستوى الفوضى، ويُمنع فيها الحسم، وتُستخدم كأداة موازنة إقليمية لا كدولة ذات سيادة مكتملة. منذ اللحظة الأولى للتدخل الأمريكي، لم يكن الهدف تحقيق نصر، بل تفادي هزيمة جيوسياسية كبرى. واشنطن فهمت مبكرًا أن انهيار الدولة السورية الكامل كان سيعني فوضى إقليمية مفتوحة بلا ضوابط، وأن انتصار النظام السابق كان سيكرّس محورًا روسيًا–إيرانيًا يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، فيما كان انتصار قوى معارضة غير منضبطة يحمل خطر إنتاج قوى راديكالية قد تنقلب لاحقًا على المصالح الأمريكية نفسها. بين هذه الإحتمالات الثلاثة، اختارت الولايات المتحدة الخيار الأبرد والأكثر براغماتية، إبقاء سوريا في حالة تعليق تاريخي، دولة لا تسقط ولا تُستعاد، وصراع لا يُحسم بل يُدار.
هذا المنطق لم يتغير جوهريًا حتى بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، بل أعيد إنتاجه بأدوات مختلفة. فموقع سوريا في الجغرافيا السياسية الإقليمية يجعلها عقدة ربط لا يمكن السماح بالسيطرة الكاملة عليها من أي طرف واحد. هي حلقة الوصل بين إيران ولبنان، وبين تركيا والعالم العربي، وبين روسيا وشرق المتوسط. السيطرة عليها تعني اختلالًا واسعًا في موازين القوى، ولذلك ظل الوجود الأمريكي، خصوصًا في الشرق والشمال الشرقي وقاعدة التنف، وجودًا وظيفيًا لا احتلاليًا، جغرافيًا لا عدديًا، هدفه التحكم بالخرائط ومسارات النفوذ أكثر من خوض الحروب أو حماية الموارد.
دخلت سوريا مرحلة النظام الأمني الجديد، لا بوصفه نظامًا وطنيًا موحدًا، بل كترتيب هشّ يقوم على تعدد مراكز القوة. في الشمال هناك بنى مدعومة من تركيا، وفي الشرق قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، وفي دمشق سلطة مركزية جديدة محدودة القدرة والامتداد، وفي الجنوب سقف إسرائيلي صارم يمنع إعادة العسكرة ويحمي خطوطه الحمراء. بين هذه الأقطاب، أعادت واشنطن تعريف دورها، من فاعل عسكري مباشر إلى مدير مخاطر، ومن قوة ردع ثابتة إلى وسيط يفرض قواعد اشتباك يومية، ويراقب، ويتدخل عند الضرورة لمنع الانهيار لا لفرض حل شامل.
الولايات المتحدة، التي أنهكتها الحروب الأبدية في العراق وأفغانستان، لم تعد معنية ببناء دول أو هندسة نظم سياسية. سياستها في سوريا اليوم تقوم على الحد الأدنى الضروري، منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية ، ضمان استمرار احتجاز مقاتليه وعائلاتهم، إبقاء الطرق الرئيسية مفتوحة، وحماية المواقع الحساسة، من سجون ومراكز أمنية وبنى تحتية. أي خلل في هذه الوظائف الثلاث يفتح الباب أمام فراغ أمني قد تستغله قوى جهادية أو إقليمية، وهو ما تحاول واشنطن تجنبه بأقل كلفة ممكنة.
في هذا السياق، تحولت القواعد الأمريكية إلى عقدة تحكم إقليمية تفوق قيمتها العسكرية حجمها العددي. فهي تراقب المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، وتقطع أي محاولة لإعادة فتح ممرات لوجستية غير منضبطة، وتوفر قدرة استجابة سريعة تمنح واشنطن نفوذًا يتجاوز ملف مكافحة الإرهاب إلى ضبط التوازنات مع إيران، وطمأنة الأردن، والتنسيق غير المباشر مع إسرائيل. فهي ليست قاعدة حرب فقط، بل أداة تحكم، ورمز لفكرة الحضور الأمريكي المحدود لكن المؤثر.
غير أن أخطر ما في المشهد السوري الجديد ليس فقط تعدد مناطق النفوذ، بل هشاشة البنية الداخلية للدولة الناشئة. فالسلطة في دمشق، رغم حصولها على اعتراف دولي متدرج، ما تزال تعتمد على شبكات تعبئة ضيقة ذات طابع أيديولوجي ومناطقي، وتفتقر إلى مؤسسات أمنية مهنية محايدة. اللجوء إلى الحشد الطائفي أو العشائري، سواء عبر المساجد أو شبكات الولاء المحلي، يعيد إنتاج منطق الميليشيا داخل الدولة، ويقوض أي إمكانية لبناء إطار وطني جامع. هذا النمط من الإدارة الأمنية لا يهدد التماسك الاجتماعي فحسب، بل يفتح الباب أمام صراعات هوية في الشرق والشمال والجنوب، ويخلق بيئة مثالية لعودة التنظيمات المتطرفة بأشكال جديدة.
في الشرق السوري تحديدًا، تتقاطع الهشاشة الداخلية مع صراع المصالح الإقليمية. التنافس التركي–الإسرائيلي يضع سقفًا لأي مشروع وطني سوري متكامل. تركيا تريد تفكيك البنية العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية ومنع أي كيان كردي شبه مستقل، فيما تفرض إسرائيل في الجنوب معادلة الردع ومنع التمركز العسكري، مع احتفاظها بحرية الضرب. بين هذين السقفين، تحاول واشنطن الحفاظ على توازن هش، لكنها تدرك أن غياب تفاهم تركي–إسرائيلي أوسع سيُبقي سوريا دولة مجزأة، والشرق منطقة اختبار دائم للإنفجار.
من هنا، لا يمكن فهم السياسة الأمريكية في سوريا بوصفها انسحابًا أو تخليًا، بل بوصفها إعادة تموضع. واشنطن لا تغادر لأنها فشلت، بل لأنها حققت الحد الأدنى الذي تريده، لا نصر لخصومها، ولا كلفة عالية عليها، ولا انفجار إقليمي شامل. سوريا في هذا التصور ليست دولة يجب إنقاذها، بل ملف يجب إبقاؤه تحت السيطرة. ولهذا فإن النجاح الأمريكي لا يُقاس بإعادة الإعمار أو بناء الشرعية، بل بقدرتها على منع الأسوأ وتأجيل الإنفجار.
في الخلاصة، سوريا لن تتحول إلى دولة مستقرة، بل إلى مساحة إدارة أزمات مفتوحة. الولايات المتحدة لم تنتقل من سياسة التعطيل إلى سياسة البناء، بل من تعطيل صاخب إلى تعطيل هادئ، أقل ظهورًا وأكثر تقنية. إنها لا تصنع نظامًا جديدًا، بل تراقب توازنًا هشًا، وتراهن على أن إدارة الفوضى، مهما كانت أخلاقية الثمن، أقل خطورة من محاولة وراثة دولة مدمّرة. وفي هذا المعنى، تبقى سوريا مثالًا صارخًا على منطق أمريكي بات يحكم الشرق الأوسط، لا حلول نهائية، بل أزمات قابلة للتحكم… إلى أجل غير مسمى.



#ميساء_المصري (هاشتاغ)       Mayssa_Almasri#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واشنطن تُعلن نهاية وادي عربة.. ونتنياهو يغيّر وجه القدس إلى ...
- اقتراب هدم الأقصى حين تتحرك صفقة القرن 2 ويغيب العرب
- كيف حوّلت حماس خطة ترامب إلى مأزق سياسي
- إحذروا ، شرارة الحرب ، من خطط مبرمجة إلى حريق إقليمي .
- طبول حرب في سيناء .. هل تندلع ؟
- عملية الكرامة اليوم تفجر المرحلة الثانية من مخطط (الحارس الج ...
- من قلب الدوحة… تُعلِنها إسرائيل : الشرق الأوسط ساحة نار وسيا ...
- إحذروا : داعش بثوب جديد لتنفيذ صفقة القرن 2
- الأردن .. يا أصحاب القرار لا مناطق رمادية بعد اليوم
- فخ الغاز والدم نحو فيتنام الشرق الأوسط وعزل مصر الكامل
- الأردن على خط النار بين الضم الزاحف وشرعنة الإقليم
- الأردن بين فخ إسرائيلي ناعم وحدود مفتوحة على الخطر
- ورقة الدُّرْز، الجبل الذي ستزرع فيه إسرائيل علمها.
- الفلسطيني في دول الشرق الأوسط… اللاجئ الذي خُطف مرتين
- العراق: من يملك مفاتيح المرحلة المقبلة؟
- التطبيع أولًا... والفاتورة إيرانية المصدر
- هدنة غزة بين مراوغة ترامب وسقوط نتنياهو
- العمامة والكيباه: متى يأتي إنفجار الشرق الأوسط الأخير؟
- رقعة شطرنج الشرق الأوسط: من يسقط أولاً؟
- من مصر إلى إيران :هل تخون الشعوب ؟؟


المزيد.....




- رد فعل شجاع لفتاة لحظة تعرضها لمحاولة اختطاف.. لن تصدق ما فع ...
- مصر.. السلطات تحقق في فيديو يظهر -جسمًا يشبه التمساح- في محا ...
- إسرائيل تهدد بـ-الرد- على -حماس- بعد انفجار في غزة يُصيب ضاب ...
- خبراء أمميون نددوا بالحصار الأمريكي على فنزويلا ودعوا لمحاسب ...
- أمم إفريقيا: محرز يقود الجزائر لفوزها الأول منذ تتويجها عام ...
- مكملات الألياف لإنقاص الوزن.. فوائد حقيقية أم خدعة تجارية؟
- احتفالات عيد الميلاد تعود إلى بيت لحم بعد عامين من حرب غزة
- عاجل | الداخلية السورية: قوات الأمن والجيش استهدفت مجموعة إر ...
- غارات أردنية تستهدف تجار أسلحة ومخدرات جنوبي سوريا
- من السيارات إلى الروبوتات.. شيري الصينية تصنع موظفي المستقبل ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميساء المصري - سوريا في العقل الأمريكي، دولة تُدار كي لا تُحسم