|
|
الثقب السادس
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 14:36
المحور:
الادب والفن
ثقوب المرايا الثقب السادس - الملف
تقدّم نون داخل الممر الطويل، وصوت خطاه يرتجف كبياض صفحة يتساءل عن لون الحبر الذي سيغرقه، وراءه، أودراديك يتحرّك بهدوء مشبوه، كالظل الذي لا يعرف إلى أين ولا إلى من ينتمي، كظل يجتر ماضيه النائم. أصوات خافتة كانت تسمع من وراء أبواب المكاتب المغلقة، همسات حفيف أوراق، تنفس ماكينة تحضير القهوة، تنهد قصاصات ورسائل تتململ مللا في إنتظار إرسلها. الأروقة تتنفس، تنتفخ وتنكمش كأنها عروق مدينةٍ داخلية، تمتدّ بلا خريطة، بلا وجهة معلومة. ودخل أحد المكاتب المفتوحة. كان الرجل واقفًا خلف مكتب صغير، ورأسه مائل قليلاً، وعيناه تحملان ثقل انتظار لم يُعرف مصدره.
قال الرجل بصوت خافت، قبل أن يجلس: - إنك جئت، يا نون… أخيرا.
نون توقف، كمن سمع اسمه يرنّ من بعيد، وأجابه ببطء: - نعم…إنه أنا، كما يبدو، لكني لا أعرف من أين جئت ولا إلى أين؟ أو ولماذا؟ ثم تابع وهو يبتسم إبتسامة رمادية: - بالإضافة إلى أنه لا أعرف من أنا، بالأصح، أناي لا تعرف هويتها. - هذه حالتنا جميعا يا سيد نون، لا تنزعج من ذلك. وعينا اخترع هذه الأنا المتعالية لإمكانية مواصلة الحياة والتواصل وفك الحصار. - أنا إذا ربما أكون أنت،أنا صورتك في المرآة، أو ربما أنت هو أناي المنفصلة، أواجهها أو تواجهني لإمكانية التساؤل.. ابتسم الرجل ابتسامة حزينة، كما لو أن بائعي الأماني في هذا العالم لا يقبلون أكثر من بقايا الأمل: - ربما .. ربما، غير أن المكان الذي تريده ليس هنا، لقد أخطأت العنوان بكل بساطة.
- وما هو هذا المكان؟ سأل نون، كمن يختبر سرًا لا يجرؤ على قوله.
ليس لذلك أية أهمية. أودراديك تحرّك خيوطه برفق، وكأنه يهمس: - أنا المكان الحقيقي، يا نون. أنا فضاءك الحيوى، لا تهتم بما حولك، إنه الهواء، إنه عالم الصور، مرايا .. مرايا .. تعكس ظلالا. نون التفت إليه، وعيناه تمتلئان بوميض غريب: - كيف ذلك؟
لأن كل ما في هذه الأروقة، كل هذه المكاتب، كل هذا الانتظار، فقط أغمض عينيك للحظة .. سيختفي كل شيء. هذا العالم هو أنت… كل هذه الكائنات هي جزء منك، تصبح عدما بدون وعيك. حك نون رأسه مستاءا، ثم ضرب بقدمه قائمة المكتب بطريقة عنيفة وقال وهو يمسك بقدمه متأوها: ولكن هذا الأشياء توجد هنا أمامي تحتل فضائي الحيوي، على مسافة مني وتصطدم بجسدي، فأين أكون منها وأين تكون مني؟ وإذا كانت هي أنا… فأين أنا من نفسي؟ - أنت لا تعاني من الشيزوفرينيا، أنت لست مقسما لى شطرين، أنت كل واحد لا إثنين، ليس هناك أنا تمتلك نفسا ولا نفس تمتلك أناها. هناك وعيك وهناك العالم. ووعيك يتجلى في كل كلمة كتبتها، في كل كراسة تركتها نصف مكتوبة، في كل حرف من الحروف الضائعة، في كل فكرة تسكن وعيك في كل ... ثم انفتح الممر أمامهم فجأة، وكأن الأروقة نفسها تنفجر إلى أبواب غير مرقَمة.
خطى نون خطوة وهو ما يزال يمسك بساقه متوجعا، وأودراديك يليه يحاول أن ينهي جملته. - دعنا نتحرك، سأقودك إلى مكتب الإستعلامات، قال الرجل وهو ينهض من وراء مكتبه الضخم. وبدءوا الحركة في أماكنهم، يرفعون أقدامهم ويضعونها كالعسكر في وضعية "مكانك سر"، غير أن مع كل خطوة بدأ فضاء الأروقة يتغير، تزداد ضيقًا، ثم اتساعًا، النور يتلوّن كقصيدة شاعر يغني قصة فراق داخلي، وظلال نون وأودراديك تمتدّ وتتشابك، لا كظلّال، بل كبخار أو ضباب يتشكل، ويتحرك على الدوام. قال نون أخيرًا:
أريد أن أعود…
قال أودراديك:
لا يمكن العودة يا نون. لا نستعيد ما فقدناه.
بل نُعيد. نعيد كتابة ما لم يُكتب، نعيد حضور ما لم يكن مرئيًا، كل شيء يعود، ونحن لا نتوقف عن العودة، لا نفعل سوى ذلك طوال الوقت.، لقد عشت هذا الموقف مرات ومرات سابقة، بل وأعرف بقية النص. اختفى أودرادِك كخيط من الذكريات يتلاشى في صفحة كبرى. ولكن في الأفق، تردّد صدى يشبه صوت الرعد البعيد، نون رفع يده، ولمس الهواء الذي كان يشبه كراسة مفتوحة، تنتظر الكلمة التالية، تنتظر ظهوره من جديد. الممرُّ استدار عليهم كما لو أنه يقرأ استعلامًا قديمًا، كان يطل عليهم من باب المكتب الموارب. الجدران لم تكن ثابتة، كانت تتذكّر خريطة ما رسمها ذلك المهندس المجنون. نون يتقدم بخطوات حذرة نحو الباب، وكفى أن يتنهّد ليتغيّر مكان الضوء على الجهة الأخرى من الردهة، كأنما الضوء نفسه يجيب على سؤاله الذي لا يمكن صياغته. أودراديك ظهر خلفه هذه المرة أقرب إلى طيف متحرّكٍ منه إلى كيان مادي. ابتسامته تشبه توقيعًا قديمًا على صك غير مستخدَم. أودراديك تحرّك بخفة، كمن يلتقط هامشًا من الهواء، استل خيطًا صغيرًا من بكرته ووضعه على الطاولة التي تحتوي على عدة ملفات مكدسة. وأخذ الخيط يتحرك ببطء كدودة حتى استقر على الملف المفتوح، الخالي من الأوراق. حروفٌ باهتة لا تزال تحاول أن تنسجم مع جملة ما على غلاف الملف. قال نون موجها كلامه نحو الرجل وراء المكتب: هل هذا ملفي؟ لم يرد الرجل، وقالت ألمرأة، والتي كانت جالسة بعيدا عن المكتب الذي يحتله الرجل:
هذا المكان يصادر الأسماء ويقايضها بأرقام انتظار.
- الأرقام لا تقول إنك كنت هنا، - تدارك الآخر، - الأرقام لا تتكلم. نهض الرجل ببطء من مقعده مرة أخرى، ومرّر يده فوق حافة الطاولة التي كانت أمامه، كمن يقرأ قائمة حضورٍ طويلة ثم قال بنوع من الرصانة المزيفة: - لا نحاول أن نشرح النومَ هنا ولا أن نفسر الأحلام، فالنوم هنا يُسجَّل بالبصمة قبل أن يُعطى اسما. ثم يتم تخزينه في الإرشيف المناسب.
وماذا إن لم تكن لديّ بصمة؟ سأل نون، وكان صوته يُتضائل كلّما اقترب من مكتب الرجل. قال الرجل الرصين بهدوءٍ تقطّعه أوراقٌ مرّت من بين أصابعه: - حين لا تكون لديك بصمة، يُعطونك يدا صناعية وبطاقة وكلمة سر.
أي أنني سأبقى بلا حلم؟ تلعثم نون.
- ستبقى مع من يسمعك حين لا تسمع نفسك، هذه هي مرآتك تنتظر أن تسألها متى تعود. سرت في الممرّ ريحٌ خفيفة، كهواء صادر عن صفحة كتاب تُقلب.الأروقة تنبّهت، وكأنها تعرف أن حدثًا ما سيُسجّل في هامش الزمن. أودراديك اقترب من الملف، ولمس فراغ الورق.انزلق خيطٌ من داخله وانبثق منه اسمٌ لا يكاد يظهر، اسم يقرأه نون دون أن يسمعه أحد: - «أنتَ أنت، حين لا تكون أنت»، همس الخيط، فارتجفت أضلاع نون بلا سبب واضح. التفتت المرأة نحوهما، ثم قالت: - ستتعلم أننا لكي نوجد لابد أن نكون أولا، غير أن هذا لايكفي.
وهل من رجوع؟ - سأل نون بخفوت.
الرجوع هنا سؤالٌ مطروح دائمًا على ورقة تنتظر توقيعًا لن يأتي، من الأفضل أن تركز على ما يحدث هنا، الآن..
فماذا نفعل إذًا؟
ننتظر. ونترك الملفَ يغلق على نفسه. ونُعيد كتابة العنوان في وجهِ الدهر. فهم نون - أو خُيّل إليه أنه فهم - أن ثمن البقاء هنا ليس أن تستعيد كينونتك، بل أن تعترف أن هذه الكينونة لا تساوي فلسا، وأن الوجود قد تسلّل إلى ورقةٍ دون عنوان داخل سجل متعفن بالرطوبة، وأن أودراديك، بكونه وعيه المتوسّل، سيبقى يفتح ويغلق تلك الصفحات حتى يصير اسمٌ ما بينهما خاتمةً أو بداية. ثم انطلقوا. مكانك سر لا مركز ولا قرار ولا علامة وبدون خارطة. الأروقة تُصنع من خطواتهم، والمكاتب تظلّ تسجل وصولهم بلائحة انتظارٍ لا تنتهي. في آفاق هذه الأروقة، تلوّن الغيابُ وجوههم بألوان جديدة: أزرقٌ يتذكّر شيئًا ما، رماديٌّ يكتفي بالانتظار، وحبرٌ شفاف يوشك أن يجفّ تكتب به قوائم الغرقى. اختفى الرجل دون أن يترك أثرًا، إلّا كلمةً واحدةً معلّقة في الهواء كختم: - تذكّروا: الكلمة والفكرة شيء واحد، هذا ليس توصيةً بل وصية. ضحك نون، ضحكة من يعرف أنه ليس له إمكانية البكاء، ثم لمس رأسه بسبابته. كان يشعر بأن جزءًا منه قد رُفِع وتبخر، أو أندس بين طيات بطانية قديمة، بين صفحات كراسة تسجيل ضخمة. أودراديك، كعادته، هزّ خيوطه بخفة، وكأنّه يرسم صورة سيزيف على هامش العالم. وهكذا أستمرّ الإنتظار. في كل مكتبٍ يمرّون به، في كل باب يُفتح ثم يُغلق، تزداد المسافة بين نون وما كان يظنه ذاته، وتقصُر المسافة بينه وبين أودرادِك الذي كان يدرك كيفية ترتيب الكلمات حين لا نملك أصواتا لنطقها.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقب الخامس.. اليقظة
-
الثقب الرابع
-
عاصمة القياصرة
-
عن « غباء- الذكاء الصناعي
-
الذكاء الاصطناعي
-
-لماذا يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟-
-
الحجرة رقم 22
-
بيروقراطية المعاطف
-
أودرادِك
-
ثقوب المرايا
-
من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
-
روسيا بلاد النبلاء والعبيد
-
مرايا الزمن
-
بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
-
معرض -تكوين- التشكيلي
-
أفول العقل المطلق
-
فويرباخ والإستلاب
-
نهاية هيجل
-
الصيرورة في الكينونة والعدم
-
هيجل وعلم المنطق
المزيد.....
-
«كعكة الرئيس» يدخل القائمة القصيرة للأوسكار في إنجاز تاريخي
...
-
فيلم وثائقي يكشف أسرار معركة حلب وتفاعل واسع على المنصات
-
مصادر: سيمون كرم الممثل الوحيد للبنان في -الميكانيزم-
-
تعرف عليهم.. 4 أفلام عربية مرشحة لجائزة الأوسكار
-
نجل المخرج روب راينر متهم بـ-قتل والديه عمدًا-.. ومصدر يكشف
...
-
4 أفلام عربية تتنافس على أوسكار أفضل فيلم دولي
-
ترشيح 4 أفلام عربية للمنافسة على جوائز الأوسكار
-
وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور اختناقًا إثر حريق داخل شقته
...
-
بالتفاصيل.. حادث مروع يودي بحياة فنانة مصرية -شهيرة-
-
من هم -الحشاشون- وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|