أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - ثقوب المرايا















المزيد.....

ثقوب المرايا


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 20:27
المحور: الادب والفن
    



وسط الصالة المقفرة المؤدية إلى مجموعة من الأروقة والمكاتب، دخل الرجل وجلس على أحد المقاعد العديدة المنتشرة عشوائيا هنا وهناك، وعلى المقعد المقابل كانت هناك تجلس امرأة وفي يدها جريدة أخذتها عندما دخلت قبل قليل. في أحد أركان الصالة كان هناك دولاب حديدي ذو رفوف وضعت عليه بعض الأوراق والمنشورات والمطبوعات المختلفة، وما عدا ذلك لم يكن هناك أي شيء آخر. كان الرجل يحمل ساعة بلا عقارب، والمرأة تبدو كأنها تجرّ خلفها ظلًّا ليس على مقاسها. كان الرجل ينظر حوله باحثا عن عقارب ساعته كما يبدو، حين لاحظ وجود المرأة:
ـ أظن أننا جئنا مبكرين.
ردّت المرأة وهي تضع جريدتها على الكرسي المجاور:
ـ مبكرين ربما، أو ربما تأخّرنا أكثر مما يجب. الوقت ليس حيوانا موضوعيا.
النيون الذي يضيئ الصالة انتابته نوبة من الفواق وبدأ يرتعش مصدرا أزيزا متواصلا يشبه الأصوات الداخلية للدماغ. في الحقيقة النيون كان يرتعش قبل أن ينتابه أي نوع من الأمراض الكهربائية.
سكتا للحظات. كانت الصالة تتّسع أكثر فأكثر كلما حل الصمت، وتضيق نسبيا حين يفكّران بالكلام.
فكر الرجل: "لو قلتُ شيئًا سيسقط جزء من السماء."
وفكرت المرأة: "لو صمتُّ أكثر سيتآكل صوت هذا الرجل ويلتهمني ليستحوذ على صوتي."
قال الرجل فجأة، وكأنه يعلن نتيجة مباراة لم تبدأ أو لأنه يريد سقوط قطعة من السماء:
ـ إنهم لن يأتوا.
سألته المرآة وهي ترفع رأسها:
ـ من "هم"؟
أجاب الرحل بنفس ثقة من لا يعرف:
ـ الذين لن يأتوا.
أخذت المرأة المطبوعة التي كانت بجوارها على الكرسي، ألقت عليها نظرة وتصفحت بعض صفحاتها ثم ألقت بها ثانية على المقعد. في ذات الوقت، أنفتح باب الصالة المقابل ودخلت إمرأة تدفع عربة أطفال بلا عجلات وبلا أطفال، تُصدر صريرا يشبه صوت حلم يحتضر. العربة كانت مليئة بالأوراق، ربما ملفات أو جرائد أو أشياء أخرى من هذا القبيل. حاول الرجل والمرأة المتقابلين تجاهلها، لكن المرأة التي تدفع العربة تجاهلت نفسها أيضًا، فتركت فيهما شعورًا غريبا بالفراغ عندما غادرت الصالة من الباب الآخر، وانصفق الباب خلفها. أختفت كما ظهرت دون أن تترك أي أثر.
بعد لحظات قال الرجل:
هل رأيتِ ما رأيته، أم إنني أحلم؟
أعتقد أنك تحلم.
الرجل: لكنني رأيت هذا الطيف
قالت المرأة وهي تمدّ يدها كأنها تلتقط ذبذبة:
ـ هل تسمع هذا؟
ـ لا شيء يُسمع.
ـ بالضبط. هذا ما أردتُ أن ألفت انتباهك إليه. حاول أن تسمع الأصوات التي تتصارع في دماغك، إززززز
نهض الرجل من مكانه ووضع إحدى يديه في جيبه والأخرى يحك بها رأسه، ووقفت المرأة بدورها وأخذت تمشي جيئة وذهابا من حائط لآخر، ومن المدخل إلى النافذة، الرجل كان يتابع حركتها دون أن يتحرك.
قال الرجل وهو يواصل حك رأسه:
ـ ماذا سنفعل الآن؟
ـ ننتظر. قالت المرأة وهي تنظر من النافذة.
ـ ننتظر ماذا؟
ـ أن يحدث شيء. أو يجيء شخص ما.
ـ ومن الذي سيأتي؟ وما الذي سيحدث؟
ـ أي أحد، كل شيء. وربما لاأحد ولا شيء. لا فرق. لكنه من الضروري أن يحدث شيء.
سمعا صوت سقوط شيء ما في أحد الممرات ثم أصوات تتحدث بصوت خافت، تبدو بعيدة بعض الشيء ثم انفتح الباب فجأة كأنه دفعته ريح قوية، ودخل رجل مسرعا زوبعة يحمل في يده ورقة، ثم توقف مترددا أمام المرأة، تفحصها لعدة لحظات، ثم كمن غير رأيه، استدار، ثم توجه نحو الرجل ومد له ورقة مطوية. ثم غادر الصالة وهو يعرج وعلى وحهه إبتسامة من أكمل مهمة كبرى.
قال الرجل بصوت مرتجف وهو يحاول قراءة الورقة:
ـ "هذه الورقة ليست رسالة."
رفعت المرأة حاجبيها وهي تقترب من زجاج النافذة دون أن تلتفت له، وقالت بصوت من اكتشف الحقيقة دفعة واحدة:
ـ إذن… نحن لسنا الشخصين المقصودين.
هز الرجل رأسه بطمأنينة غير مبرّرة:
ـ ولا المكتب المقصود.
- تقصد أخطأنا صالة الإنتظار.
وبعد لحظة طويلة، سأل الرجل دون قناعة:
ـ هل نغادر؟
أجابث المرأة بثقة عبثية:
ـ أبدا. هذا المكان هو المكان المناسب.
ظلّ الرجل والمرأة جالسين، لكن شيئًا ما في الهواء بدأ يتغيّر، كأن الصالة نفسها بدأت في التنفس للمرة الأولى منذ قرون.
قالت المرأة، بعد صمت امتدّ حتى ظنّت نفسها جزءًا منه:
ـ هل تشعر… بأن هناك شيئًا يراقبنا؟ ليس شيئًا خارجنا، بل شيئًا في الداخل… يقف خلف عيوننا وينظر إلى الداخل، ويتأمّلنا كما نتأمّل بعضنا؟
لم يجب الرجل. كان مشغولًا بالنظر إلى يده. كان يتأمل خطوط كفّه التي كانت تتحرك وكأنها تحاول رسم شيء ما، أو كتابة إسم ما هرب من الذاكرة وسقط في كفه.
قال بصوت خافت:
ـ أعتقد أنني أفقد شكلي.
ابتسمت المرأة بابتسامة ليست اطمئنانًا بل اعترافًا:
ـ لا أحد يحتفظ بشكله طويلًا. نحن مجرد مرور. المرور لا شكل له. أنت الآن لست الذي دخل منذ لحظات هذه الصالة، لقد تغير كل جزء في شكلك الخارجي.. أما داخلك ف ..
وتوقفت حين جذب انتباهها سقوط ورقة صغيرة من أحد الرفوف في ركن الصالة، عندما انفتح الباب نتيجة التيار الهوائي الناتج عن فتح باب أو نافذة في أحد الممرات والأروقة، وراحت الورقة تدور حول نفسها ببطءٍ لا يبعث على الدهشة بقدر ما يبعث على التساؤل والقلق حتى لامست الأرض واستقرت مؤقتا.
قال الرجل:
ـ كل الأشياء هنا تتصرّف كما لو أنها تتذكّر شيئًا لا نعرفه.
أجابت المرأة:
ـ أو كأنها تنسى شيئًا لم يحدث بعد.
بعد عدة لحظات من إستقرار الورقة على أرضية الصالة، بدأت تتململ في حركة خفيفة بصمت مكتوم، تاركة دائرة شفافة تحوم في الهواء تعكس صورة الصالة كمرآه محدبة. اقترب منها الرجل بتوجس. ولمسها بطرف حذائه محاولا تحريكها، وفي الحال أشتعلت فيها النار واحترقت في بضعة ثوان.
قال الرجل وهو يشير إلى رماد الورقة على الأرض التي ما يزال يتصاعد منها دخان خفيف:
ـ هذا ليس نحن.
قالت المرأة بتردد:
ـ نحن غير قابلين للاحتراق، ومع ذلك قد يكون هذا نحن قبل لحظة، أو بعد لحظة. اللحظة لا تعرف أين تقع، فكيف نعرف نحن؟
الرجل والمرأة، كل منهما يرى الآخر كطيف يمر، كصوت يتلاشى، كحضور غائب ومجرّد إحساس يمشي. حين يقترب أحدهما بالآخر، ينتاب كل منهما إحساس بثقل لا ينتمي لأي مادة معروفة.
قال الرجل وهو يشير إلى ما تبقى من رماد الورقة المحترقة الذي ألتقطه بين أصابعه:
― هل هذا… وجودًا؟
قالت المرأة وهي تنظر إلى أصابعها:
― ربما. الوجود يمرّ أحيانًا ليطمئن أننا ما زلنا نحاول فهمه، ثم يكمل طريقه دون أن يهتمّ بفهمنا. لا أعتقد، إنها بقايا الورقة التي التقطها منذ لحظة، إنها مجرد شيء، شيء كائن، مجرد كينونة. المادة لا تفنى .. ولا تُخلق.
نظر الرحل إلى السماء، دون أن يحاول أن يفهم. لم يجد السماء، ولم يجد سوى نيون السقف الذي يرتعش ويفتقد للزرقة. كانت هناك فراغات معلّقة، تشبه ثقوبًا في لوحة لا نهائية.
قال:
ـ الزمن يتسرّب. انظري، كل شيء يتسرّب من خلال تلك الثقوب. الزمن يتسرب ومعه الحياة تذوب وتتلاشى.
قالت المرأة:
ـ الزمن لا يمكنه أن يتسرّب، إنه أكبر من هذه الثقوب. نحن الذين لا نعلَق به كما يفعل الآخرون. نحن… خارج الجدول.
أحسّا فجأة كأن وزن العالم يتحوّل إلى صوت، والصوت يتحوّل إلى سؤال، والسؤال إلى شيء مبهم يقف بينهما لا يمكن رؤيته ولكن حضوره يبدو واضحا كالأرضية التي يقفون عليها.
قال الرجل:
ـ أشعر كأنني موجود فقط حين يشكّ أحد بوجودي.
ردت المرأة:
ـ هذا طبيعي. الوجود واللاوجود مثل أبواب بلا مفاصل: لا يمكن فتحها لأنها لايمكن أن تغلق. أنت موجود لأنني أنا التي أوجدتك في هذه اللحظة. لولا وجودي لبقيت محاصرا في قوقعتك إلى الأبد.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
- روسيا بلاد النبلاء والعبيد
- مرايا الزمن
- بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
- معرض -تكوين- التشكيلي
- أفول العقل المطلق
- فويرباخ والإستلاب
- نهاية هيجل
- الصيرورة في الكينونة والعدم
- هيجل وعلم المنطق
- السلب والإيجاب عند هيجل
- هيجل
- الجسد معبد اللغة
- تفتت الأنا
- ميلاد الموتى
- دهاليز الروح
- سبينوزا ونهاية المغامرة
- سبينوزا وفكرة السلب
- حرية الحجر
- الجسد المثقوب


المزيد.....




- من أرشيف الشرطة إلى الشاشة.. كيف نجح فيلم -وحش حولّي- في خطف ...
- جدل بعد أداء رجل دين إيراني الأذان باللغة الصينية
- هل تحبني؟.. سؤال بيروت الأبدي حيث الذاكرة فيلم وثائقي
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- -سيرة لسينما الفلسطينيين- محدودية المساحات والشخصيات كمساحة ...
- لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُب ...
- معاناة شاعر مغمور
- الكويت تعلن عن اكتشافات أثرية تعود لأكثر من 7 آلاف سنة
- الصين تجمّد الأفلام اليابانية في ظل اشتعال ملف تايوان


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - ثقوب المرايا