سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 15:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
283 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
31 سبينوزا وفكرة النفي
جيل دولوز Deleuze، في كتابه، سبينوزا، فلسفة عملية Spinoza, philosophie pratique 1981، يعتبر سبينوزا كفيلسوف "الإيجاب" والذي يقول نعم للحياة وإعتبار هدف الفلسفة والفكر هو السعادة في الحياة. ويعتبره بعيدا كل البعد عن أن يكون فيلسوف النفي أو العدمية. كان في نظر دولوز، يثق في الحياة لدرجة التنديد بكل أشباح السلبية، مثل الرقابة والطرد من الكنيسة، الحرب، التسلط، الرجعية، الدكتاتورية، وكل هؤلاء الناس الذين يناضلون من أجل عبوديتهم وكـأنهم يدافعون عن حريتهم، كل ذلك يشكل العالم السلبي الذي عاش فيه سبينوزا وحاول النضال ضده بكل قوته. وإغتيال الإخوة دي ويت، كان بالنسبة له أقصى درجات العنف والهمجية. ففي عام 1672، بعد عامين من نشر الكتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، أدى اغتيال الأخوين دي ويت إلى مخاوف حقيقية من عودة الرقابة الدينية والحكم الدكتاتوري في أمستردام. ومن ثم صحة رسالة سبينوزا وضرورة الدفاع عن حرية الرأي التي كانت مهددة طوال فترة حكم دي ويت.
ودولوز هنا، يعتبر النفي والعدمية من الناحية الأخلاقية وليس من الناحية الأنطولوجية، بإعتبار سبينوزا فيلسوف أخلاقي ولم يهتم إطلاقا بالكينونة ولا بالوجود بطريقة مباشرة. ولكن فيما يخص موضوع العدمية، فإن أهمية سبينوزا ترجع إلى إكتشافه لمقولة "السلب"، رغم أنه لم يطور هذا المفهوم أو يتعمق في تحليله ودراسته، ولكنه أكتشف بطريقة ما الطريق المؤدي إلى العدمية، رغم أن فلسفته مبنية على أسس الثبات والإثبات والإيجاب.
وقد نقل جيل دولوز عن كاتب سيرة سبينوزا، كوريليوس، ان سبينوزا كان يحب مراقبة الحشرات وهي تتقاتل: "كان يصطاد العناكب ويضعها مع بعضها لتتصارع، أو يصطاد الذباب ويرمي به في شبكة العنكبوت، ويراقب هذه المعركة بمتعة بالغة تجعله ينفجرضاحكا في بعض الإحيان". ولا شك أن هذه المتعة الغريبة، والتي تقترب من السادية، يفسرها دولوز بأنها نوع من مراقبة الطابع الخارجي والمطلق لـ"الموت"، فحتى وإن كانت هذه الكائنات تقتل بعضها البعض، فالموت هنا مجرد لقاء عرضي سيء أو غير مناسب mauvaise rencontre.
"كل تحديد هو نفي - Toute détermination est négation". في منهج سبينوزا، التعريف، يعني التحديد والإقصاء. إذا عرّفنا شيئًا ما، فإننا نستبعد كل ما لا يندرج تحت هذا التعريف. يتجاوز مفهوم سبينوزا للنفي مجرد غياب الشيء؛ فهو يعني أن كل فعل أو عملية تعريف يُقلل من لانهائية الاحتمالات. بهذا المعنى، يكون النفي إبداعيًا بقدر ما يختار مسارًا معينًا من بين احتمالات لا نهائية، رافضًا - نافيا جميع المسارات الأخرى. فإذا أردنا مثلا بناء مفهوم مثل مفهوم العدالة، فإن هذا المفهوم لن يُعرّف بما هو عليه فحسب، بل بما ليس عليه أيضًا، أي بما ليس هو. تُعارض عملية التعريف هذه لانهائيّة ما يُمكن أن يكون، من خلال استبعاد الاحتمالات الأخرى. تتضح حقيقة هذا المفهوم ليس بتوسيعه، بل بتقييد ما يُمكن أن يعنيه. من هذا المنظور، يتكشف جوهر المفهوم فقط في عملية الاختزال - إنه نفيٌّ يُصبح تكوينيًا. تتناول فلسفة سبينوز التحديدَ كاختزالٍ لللامُحدَّد إلى مساحةٍ أضيق، لكن هذا ليس خيارًا بسيطًا؛ إنه فعلٌ يُشكِّل عالمَ الإمكانيات من خلال نفي كل ما هو خارج المُحدَّد. فهنا ك جوهر واحد فقط عند سبينوزا‘ يمكن تسميته الله أو الطبيعة أو العالم. والإنسان هو حال من أحوال هذا الجوهر. هو حال من أحوال الإمتداد بإعتبار الإنسان كجسم مادي، وهو حال أيضا من أحوال الفكر بإعتبار الإنسان نفسا أو كائنا روحيا غير مادي. ولذلك الإنسان خاضع للضرورة السببية وقوانين العلة، سواء المادية أو الفكرية. وحريته الظاهرة مجرد سراب ووهم، نظرا لغياب "الإرادة" الحرة في عالم النفس، كما أنه ينفي المصادفة والإستثناء في عالم الطبيعة. فنظريته في "السلب" تعتمد على مقولتين أساسيتين، مقولة التمييز Distinction وهي مقولة إيجابية، ثم مقولة التحديد والتعيين Détermination وهي مدخل السلب النظري في فلسفة سبينوزا. فالصفات - les attributs، والتي هي حسب تعريف سبينوزا، ما يدركه العقل من الجوهر، والذي يكون ماهيته، هذه الصفات أو الخصائص هي "متميزة" ومنفصلة أو مستقلة الواحدة عن الأخرى ولا علاقة بينها مهما تعددت. كل منها منغلقة في ذاتها بهويتها الموجبة، ولا شيء، من نفس الطبيعة، يحددها أو يعينها. وهي أيضا لا متناهية في نوعها وفي طبيعتها، وهذا ما يتطلب وجودها بالضرورة. الإيجابية كهوية يقابلها الإثبات كوجود ضروري. فالخصائص أو الصفات المتميزة، تتأكد وتترسخ بواسطة الجوهر، والذي تعبر عن ماهية ووجود هذا الجوهر الواحد في نفس الوقت. الخصائص والصفات، هي إذا الأشكال الإيجابية لماهية الجوهر، وهي أيضا القوى الإثباتية لوجوده. ومن الناحية الأخرى، نجد أن كل الكائنات المتناهية فهي محدودة وتتمتع بالتعيين. حال الوجود المتناهي أنه محدود في جوهره ومتعين في وجوده. بمعنى أن التحديد يتعلق بالجوهر، أما التعين فيتعلق بالوجود. والتحديد والتعين صورتان من صور السلب. فما أن نعين شيء ما ونحدد ماهيته بأية صورة من الصور، فإننا بالضرورة نفصله عن بقية العالم وننفي ما عداه من الكائنات. فالقول بأن هذا الكائن الذي أمامي هو "كرسي"، يعني أن أنفي عن هذا الشيء إمكانية أن يكون شجرة أو كتاب أو كلب أو أي شيء آخر. وكذلك القول عن شيء ما أنه أحمر، يساوي القول بأن الشيء ليس أصفر أو أسود أو أخضر .. ومن هذا الشق الضيق في جذار اللغة يدخل السلب في صميم الكينونة. ورغم أن سبينوزا يحذر بأن هذا يكون حقيقيا في حالة التجريد المفاهيمي، أي عندما نعتبر "الحال" في ذاته منفصلا أو معزولا عن الأسباب التي جعلته يتكون كجوهر وككائن. ولذلك فإن "السلب" في نظريته هو كائن عقلي، أي مفهوم أو مقولة مجردة لا تنطبق على الواقع الحقيقي الذي يتمتع بالإيجاب على الدوام. والسلب في هذه الحالة هو "لا شيء"، لأنه لا يوجد أي شيء في العالم الواقعي الذي نعرفه ينقصه أي شيء.
ومع كل هذه الإحتياطات والتحذيرات، فإن هذه المقولة البسيطة "كل تعين هو سلب"، ستأخذ طريقها في الفلسفة وستحيا طويلا وتتطور وتغذي العديد من التيارات والنظريات على مر العصور، وبالذات على يد هيغل، لتصبح منهجا معرفيا متكاملا هو المنهج "الديالكتيكي أو الجدلي".
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟