|
اليهودي الملعون
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 23:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
280- أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 28 - سبينوزا
لقد ذكرنا سبينوزا في عدة مناسبات في بداية هذا الكتاب، وقد كان كما رأينا هدفا مباشرا لهجمات جاكوبي وغيره من أعداء العقل والفلسفة، وأحد الأسباب المباشرة لإنفجار هذه المقولة الملغمة والمحملة بكل التناقضات، ونعني مقولة "العدمية"، والتي هي خلفية كل هذه الفصول السابقة وكذلك الفصول القادمة. وقد حان الوقت للتعرف على هذا اليهودي الملعون من قِبل أهله وعائلته وكنيسته، وأعتبر كافرا وهرطيقا، حان الوقت لزيارته في حجرته الصغيرة في أحدى ضواحي المدن الهولندية، وحيدا يقرأ ويكتب أو يصقل ويلمع العدسات الزجاجية المستخدمة للنظارات أو الأجهزة البصرية المختلفة. وسنرى أنه يمكن إعتباره حلقة من الحلقات المهمة التي بنيت عليها أسطورة العدمية كنقيض موضوعي للإيمان، وإعتبار العقلانية المفرطة مرادفا للعدمية، رغم أن سبينوزا كان أبعد ما يكون عن العدمية كما تصورها أعداء الفلسفة العقلية. كان باروخ سبينوزا - Baruch Spinoza -1632-1677، ينتمي إلى عائلة غنية من التجار من أصل يهودي ماراني إسباني-برتغالي، وقد فرض عليهم في البداية ترك ديانتهم اليهودية والتظاهر بإعتناق المسيحية للحفاظ على حياتهم، غير أنه في نهاية الأمر اضطرت عائلته إلى الفرار من البرتغال بسبب الاضطهاد الذي تعرضت له من قبل محاكم التفتيش، ولجأت في النهاية إلى أمستردام في هولندا، بعد أن وجدوا مناخًا متسامحًا في هذا البلد فقد عادوا مرة أخرى إلى ديانتهم اليهودية ومارسوا التجارة بحرية نسبية. كان والده تاجرا ناجحًا في أمستردام والذي كان متخصصا في توريد الفواكه المجففة من البرتغال وأسبانيا، ولكنه متزمت للدين اليهودي وكان يريد إبنه أن يكون حاخاما يخدم الطائفة اليهودية البرتغالية. وبالإضافة إلى تجارته تولى كثيرًا من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل وعددًا من المهام التدريسية المتعلقة بتدريس مباديء وتعاليم التلمود. واشتغل منذ صغره في التجارة مع والده ودخل عدة مدارس لتعلم اللاتينية والعبرية والفلسفة.. كانت تربية باروخ اورثودوكسية، ولكن طبيعته المتمردة الناقدة والمتعطّشة للمعرفة وضعته في صراع صريح مع عائلته والمجتمع اليهودي التقليدي برمته. درس العبرية والتلمود في إحدى المدارس اليهودية، من 1639 حتى 1650م. كان سبينوزا تلميذًا مواضبا وموهوبًا، وتلقى تعليمًا دينيًا في مدرسة الجالية اليهودية بأمستردام، وعلى الرغم من تعمقه في دراسة التوراة والتلمود، إلا أنه لم يكمل دراسته ليصبح كاهنًا يهوديًا كما أراد له والده. بعد وفاة أبيه تولى أخوه الأكبر غابرييل شئون تجارته، وعندما مات هذا الأخ، وقع على عاتق سبينوزا إدارة الشركة التجارية التي تركها الأب، لكن لم تكن لسبينوزا مواهب تجارية ولم تكن شئون المال والأعمال من اهتماماته، ولذلك أهمل التجارة حتى تراكمت الديون وتوقفت الشركة عن نشاطها. وفي صيف 1656 نُبذ سبينوزا من أهله ومن الجالية اليهودية البرتغالية في أمستردام بسبب أفكاره الغريبة وإدعائه أن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية اليهودية هي عبارة عن استعارات ومجازات كُتِبت لاحقا، غايتها أن تعرّف بطبيعة اللهّ. صدر هذا القرار بطرده من الطائفة الدينية والكنيسة اليهودية وحرمانه من كافة حقوقه المدنية وتحريم إقامة أي نوع من العلاقات معه، بل تحريم الحديث إليه. هذا القرار يسمى « herem » بالعبرية، وربما تعني التحريم بسبب الكفر والهرطقة المنسوبة إلى سبينوزا، والذي كان في الرابعة والعشرين من عمره آنذاك، ولم ينشر بعد أي من كتبه، غير أن أفكاره المعادية للتقاليد اليهودية كانت معروفة من الجميع. وكان هذا الإقصاء العنيف يعني حرمانه من حقه في ميراث ثروة والده وجعله يعيش غريبا ومنفيا بين قومه وبني جلدته كما يقال. وعندما صدر ضده قرار الطرد من الطائفة اليهودية،، انشغل في عمل ذي طابع نادر في تلك الآونة وهو صنع العدسات الطبية والبصرية، وعمل فيها من 1656 حتى 1660 ويبدو أن هذه المهنة كانت هي الوحيدة التي شدت انتباه سبينوزا وكانت متفقة مع ميوله ورغبته في التوحد والعزلة، إذ كانت مهنة ذات طابع علمي تعتمد على جانب نظري متعلق بعلم البصريات وجانب عملي يعتمد على العلم التجريبي والخبرة المعملية. منذ سن مبكرة للغاية، رفض باروخ سبينوزا الخرافات، والعقائد، والطقوس، والإيمان بالحياة الآخرة، ووجود أي إله متعال منفصل عن "الطبيعة". ويثبت من خلال التحليل النقدي أن الكتاب المقدس هو نص متأخر كتبه العديد من الكهنة على فترات مختلفة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعله يتعرض لهجوم من قبل المجتمع اليهودي بأكمله. وهذا يعني حرمانه من الكنيسة بتهمة الهرطقة، بطريقة جذرية وعنيفة، وهو أمر لم يكن نادرا في ذلك الوقت، غير أن القرار المتعلق بسبينوزا كان عنيفا لأنه دائم وإلى الأبد. وكانت هذه الطريقة التكفيرية شائعة ومستعملة في ذلك الوقت من قبل أعيان الطائفة اليهودية الغنية وذلك لمحاربة البدع والأفكار الجديدة التي يمكن أن تهدد مصالح هذه الطبقة التي كانت تعيش على الدوام في خوف من السلطات الحاكمة والتي كانت على الدوام مشبوهة وغير آمنة، والتي كانت تجاهد للحفاظ على مصالحها ومحاربة كل ما هو خارج عن القواعد الدينية والإجتماعية المتعارف عليها والتي تتقبلها السلطات السياسية. وسبينوزا لم يكن الأول ولا الأخير الذي يعانى من هذا التقليد التكفيري العنيف، فقد سبقه العديد من المثقفين اليهود الذين طردوا من طائفتهم، ومنهم من تاب ومنهم من أنتحر أو هاجر إلى مدن أخرى. أما باروخ سبينوزا فقد كان في حقيقة الأمر ينتظر هذا الطرد بل ويأمله ليقطع العلاقة نهائيا مع عائلته وأهله وكل الجالية اليهودية في أمستردام والتي كانت تضغط على حياته وتمنعه من التفكير ومن التنفس بحرية .. ولذلك فإنه لم يهتم إطلاقا برغبة الحخامات المعتدلين الذين كانوا يريدون منه التوبة والمصالحة لإرجاعه إلى أحضان الطائفة وأحضان الكنيسة، على العكس من ذلك، كتب رسالة يشرح فيها لماذا يجب الخروج من الكنيسة. فقرر بعد ذلك أن يعيش خارج كل دين، وأعلن أن الأخلاق العقلانية غير الدينية فقط هي القادرة على قيادة الإنسان إلى الحرية. وعلى المستوى السياسي، وضع سبينوزا نظرية للحرية، حيث يجب أن تخضع الأديان للقوانين العامة، ويجب على الدولة حماية حرية الفكر والرأي من أجل السلم الأهلي. وهذا هو الشرط للتغلب على الصراعات وإنهاء الحروب الدينية. ويمكن اعتباره مؤسس العلمانية الحديثة قبل الثورة الفرنسية بأكثر من مئة عام. سبينوزا هو فيلسوف السعادة الذي سوف يبحث طيلة حياته عن كيفية تحقيق "الطمأنينة"، هذه "السكينة الروحية" الناتجة عن الاعتدال والانسجام في الوجود، هذا الهدوء العميق، الذي كان يبحث عنه الأبيقوريون. توفي سبينوزا عن عمر يناهز 44 عامًا في لاهاي، وترك مكتبة عظيمة غنية بالأعمال اللاتينية ... ألف سبينوزا عدداً قليلًا من المؤلفات، وعلى الرغم من قلة مؤلفاته إلا أنها أحدثت تأثيراً واسعاً في الفكر الفلسفي اللاحق، وخاصة كتاب «الأخلاق» الذي نشر بعد وفاته بدون إسم الكاتب ولا الناشر، والذي سندرسه لاحقا. أول مؤلفاته كان «مبادئ الفلسفة الديكارتية» والحقيقة أن كل فلسفة سبينوزا يجدها المرء في كتابه «الأخلاق»، أما كتابه الشهير الآخر «رسالة في اللاهوت والسياسة» فهو بحث نقدي في العلاقة بين الدين والسياسة، والمؤسسة الدينية والدولة. ويتناول فيه قضية العلاقة بين العقل والإيمان، والسلطة الدينية والسلطة السياسية، وفيه يثبت أن التفلسف ليس خطراً على الدولة أو على الإيمان، وأن الحرية الفكرية والدينية ضرورية في دولة ديمقراطية حديثة، وقد نشره سبينوزا في 1670 دون وضع اسمه على الغلاف، وقد اتبع هذا الأسلوب أيضاً مع كتاب الأخلاق سنة 1677. وعلى الرغم من ذلك فإن كل من عاصروا سبينوزا والمتابعون له كانوا يعلمون أنه هو مؤلف الكتابين.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيخته بين العقل والأخلاق
-
إما الثورة وإما العبودية ..
-
فلسفة القفزة القاتلة
-
الله والذكاء الإصطناعي
-
رسالة جاكوبي ضد العدمية
-
المثالية الألمانية
-
بيكيت بين العبث والعدمية
-
الجنون
-
محنة هاملت
-
النفي والإثبات وما بينهما
-
العنصرية والكزينوفوبيا
-
مسؤولية العدسة
-
الفن من أجل الفن .. !
-
ألهة الدمار
-
داغرمان ودكتاتورية الكآبة
-
حدود العقل
-
العلم والجهل والذكاء
-
اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
-
عن الشعر والملل
-
إشكالية الإيمان عند كانط
المزيد.....
-
حرب غزة: لماذا يتعرض الفلسطينيون من طالبي المساعدات الإنساني
...
-
-ما قمنا به في إيران كان رائعًا-.. ترامب: إذا نجحت سوريا في
...
-
الاتحاد الدولي للسلة: إعلان هزيمة منتخب الأردن تحت 19 سنة أم
...
-
ألمانيا... داء البيروقراطية حاجز بوجه العمالة من أفريقيا
-
طهران تبدي -شكوكا جدية- بشأن احترام إسرائيل لوقف إطلاق النار
...
-
الحكومة الفرنسية أمام اختبار سحب الثقة
-
الموفد الأمريكي إلى سوريا: اتفاقات سلام مع إسرائيل أصبحت ضرو
...
-
خبير عسكري: فقدان جيش الاحتلال قوات اختصاصية خسارة لا تعوض
-
40 عاما من الحكم.. الرئيس الأوغندي يترشح مجدّدا للرئاسة
-
47 شهيدا بغزة وعمليات نزوح كبيرة شمال القطاع
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|