|
فيخته بين العقل والأخلاق
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 16:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
278- أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 26 - فيخته
جاكوبي أراد محاكمة العقل والحداثة، وهي المحاكمة التي بدأها ديكارت قبل مئات السنين، وهي محاكمة الآمال المفرطة المعقودة على قوى العقل، والتكبر والغطرسة "l’hybris" البشرية التي اعتقدت أنها قادرة على خلع الله عن عرشه، وتحرير نفسها من وصايته. ومن المفارقات المثيرة، أن الشخصية التي أختارها جاكوبي في نهاية المطاف، وهو فيختة، لتحديدها كالضحية والرمز المثالي باعتبارها تمثل "مسيح العقل التأملي"، وباعتبارها التجسيد النموذجي والحي للظاهرة العدمية التي يسعى إلى إدانتها وإنقاذ البشرية من آثارها المدمرة، هذا الفيلسوف، في نهاية الأمر كان متفقا مع جاكوبي في تشخيصه للداء الذي ينخر الحضارة الأوروبية ويمتص روحها. فيشته، ينضم إلى جاكوبي بشكل مثالي في القراءة التي يقترحها للحداثة ويطور بدوره، بطريقة مستقلة تمامًا، نقدًا للتنوير، حيث يعترف أيضًا بالعلامة المميزة للعصر، التي، في حالته أيضًا، يمكن تصنيفها تحت خانة العدمية. وفي نظر فيشته، فإن جاكوبي على حق، إلا أنه يستهدف الأشخاص الخطأ، يتفق معه في التشخيص ويناقضه في الحلول.ذلك أن الحلول المقترحة لمعالجة تجاوزات عصر التنوير متباينة بشكل جذري. فيشته يثق بالعلم والعقل والمنطق؛ على العكس من ذلك، يعتقد جاكوبي أنه من الضروري تقليص صلاحيات العقل، وهو الشرط الأساسي، وفقا له، لاستعادة سموّ العالم وعمقه وغموضه. وقد أختار فيخته لأنه تلميذ كانط من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت له مشاريع فلسفية مخيفة بالنسبة لجاكوبي، حيث ينوي فيختة إكمال المشروع الكانطي الذي في رأيه يحتاج إلى تقوية الجانب العقلي وإضافة الجانب العلمي لهذه الفلسفة الغير مكتملة. كما أن فيخته كان معجبا بروسو وليسنغ ودافع بقوة عن أهداف ومباديئ الثورة الفرنسية، وبالإضافة إلى كل ذلك كان قد أعلن إعجابه بجاكوبي نفسه وبإنتقاداته الوجيهة ضد كانط. كل ذلك جعل من فيختة الضحية المثلى أو المدخل الأفضل والأكثر فعالية لينهي جاكوبي ما بدأه منذ عدة سنوات، برنامجه الرهيب لتحطيم الفلسفة عموما وفلسفة التنوير بشكل خاص وتحطيم العقل لصالح الإيمان. ولذلك ، في رسالته هذه لفيختة، التي نشرها في ٣ مارس ١٧٩٩، يقوم جاكوبي بهجومه الأخير، مستعملا كل أسلحته دفعة واحدة مستعملا ما يمكن مقارنته بالقنبلة النووية، أي مبدأ أو مقولة "العدمية"، مستعملا هذه الكلمة القاتلة لأول مرة ضد فلاسفة التنوير وضد سبينوزا ومندلسون وليسنغ وفيختة، فيصعقهم جميعا بضربة واحدة. إن النقد العنيف الموجه إلى الفلسفة بشكل عام، والفلسفة الفيختية بشكل خاص، يمكن تلخيصه في نوع من الإستعارة الأدبية، كان جاكوبي فخوراً بها بشكل خاص، والمشار إليها عادة بقصة الجورب. حيث يشبه عقيدة العلم بالخيط الملون الذي نستخدمه لتطريز الجوارب النسائية التي تُحاك عليها الزهور، والشمس، والقمر، والنجوم والفراشات والعديد من الصور الزخرفية. إن العالم الذي يصل إليه الفيلسوف في نهاية تكوينه سيكون مماثلاً لتصميم هذه الجوارب النسائية الشفافة. إن كل الثراء الواضح في التصميم المرسوم هو نتاج خالص لحركة الخيط ذهابًا وإيابًا، أو ما يمكن تسميته بـ "الذات أو الأنا"، دون أي شيء خارجي مختلط به، وهو عبارة عن نقل لهذا العالم من الصور الجوفاء التي أنتجتها العقلانية القائمة على الخيال. وهكذا يتبين أن الفلسفة ليست أكثر من مصنع للصور، وصندوق من الأوهام، يسمح لكل الواقع بالذوبان في لعبة بسيطة من الظلال. وفي مقطع مذهل من رسالتة إلى فيخته، يصف جاكوبي نتيجة عملية الفناء هذه مستعينا بأسطورة بسايكي Ψυχή - Psyché اليونانية على النحو التالي: "تعرف بسايكي الآن السر الذي كان يعذب فضولها لفترة طويلة بشكل لا يطاق، إنها تعلم الآن [في نهاية البحث الفلسفي] أن كل شيء خارجها هو العدم، وأنها ليست إلا شبحًا، وهي ليست شبح شيء ما، بل شبح في حد ذاته، عدم حقيقي، عدم الواقع. لقد أكمل العقل عمله التخريبي. لقد نجحت الفلسفة المتسامية في القضاء على كل التسامي الممكن دون أي بقايا. من يكتشف الخط الأساسي لهذه الحيلة يصبح على دراية بالطبيعة الخيالية للبناء الفلسفي ويجد نفسه يتيمًا ومنعزلاً في عالم محبط". وفي رسالته المذكورة سابقا إلى فيختة، جاكوبي، رغم تظاهره بعدم إتهام فيختة، إلا أنه في الواقع قد أصابه في الصميم "حتى لو أنني أعتبرت نظريتك الفلسفية نظرية إلحادية، مثل سبينوزا، فإنني لن أعتبرك شخصا ملحدا ولا كافرا". وقد كتب فيختة مقالا بعنوان "مصير الإنسان" يدافع فيه عن نفسه ضد تهمة الإلحاد، قبل أن يترك التدريس، على هامش اتهامه بالإلحاد والذي كان سيكلفه كرسيه في جامعة يينا. أنكر فيخته وجود إله خارج الوعي وقابل للمقارنة بشيء حقيقي في حد ذاته. فالله، وفقًا لفيخته، لم يعد شيئًا، ولم يعد مسلمة بالواجب أو فرضية مرتبطة به، بل أصبح تحقيقًا للواجب والأخلاق في الكون من خلال سلسلة لا نهائية من درجات الوعي. "إن الإله الذي يجب أن يكون خادمًا للرغبات هو كائن حقير جدير بالإزدراء، فهو يؤدي وظيفة من شأنها أن تكون مثيرة للاشمئزاز لأي إنسان شريف. إن مثل هذا الإله هو كائن شرير؛ فهو يحافظ على استمرار هلاك البشر وتدهور العقل؛ إن مثل هذا الإله هو، بالمعنى الدقيق للكلمة وبحق، هو أمير أرضي، الذي حوكم وأدين منذ فترة طويلة من قِبل "الكتاب" الذي يحرف كلماته. مكتبه هو مكتب هذا الأمير؛ ووظيفته هي توفير احتياجات الشرطة الأمنية. إنهم الملحدون الحقيقيون، ليس لديهم إله على الإطلاق؛ لقد صنعوا لأنفسهم صنمًا كافرا … من خلال أداء بعض الطقوس، وتلاوة بعض الصيغ، والإيمان بمقترحات غير مفهومة، كل هذه هي وسائلهم للوصول إلى الله والحصول على بركاته. إنهم يسبحون الله، ويمجدونه، وهو ما لا يرضاه حتى الإنسان؛ والأمر الأكثر كفراً هو أنهم لا يصدقون حتى الكلمات التي ينطقون بها، بل يتصورون فقط أن الله يحب أن يسمعهم، وأن ينالوا رضوانه، وهم يذهبون بعيدا في هذا المعنى. » يشير فيخته في كتابه "التبرير القانوني ضد تهمة الإلحاد" (799) إلى أن فكره أقرب إلى اللاكونية l acosmisme منه إلى الإلحاد. واللاكونية مصطلح أبتدعه هيجل في دفاعه عن سبينوزا ضد تهمة الإلحاد، وهي مقولة تنفي وجود الكون وتعتبره وهما، وتعتبر المطلق اللامتناهي اللامرئي هو الحقيقة الوجودية الوحيدة. بالنسبة لفيخته، يُشكّل الله "النظام الأخلاقي للعالم" والذي يصل إليه الوعي من خلال مفهوم الواجب. في سعيها لتحقيق الواجب، تتجه الذات، انطلاقًا من هذا العالم الذي هو عملها، نحو عالم آخر، عالم النظام الأخلاقي. الإيمان بهذا النظام هو الدين. لم نعد بحاجة إلى تصور إله كجوهر مستقل عن فكرة النظام الأخلاقي الشامل حيث يتحقق الخير الأسمى في الحقيقة لا في السعادة. أولئك الذين لديهم الميل والحاجة إلى تصور الله كسبب أولي لهذا النظام، ككيان خاص متعال، لا يدركون أنه من المستحيل أن ننسب إليه الذكاء والشخصية أو أي من الصفات مهما كان نوعها دون أن نجعله روحًا محدودة مثل روحنا؛ إن تصوره ككائن منفصل substance هو خرافة تتناقض مع فكرة الله ذاتها، لأنه في هذه الحالة يعني جعله كائنًا موهوبًا بالحساسية، وبالتالي، يقع في المكان والزمان وهو تناقض صريح مع فكرة المطلق الأزلي واللامتناهي واللامحدود؛ لذلك لا يمكننا أن ننسب إليه الوجود. إن الدين الوحيد بالمعنى الكانطي للواجب ليس الاعتقاد بوجود الله، بل حقيقة التصرف بفعالية في هذا العالم كما لو كان الله موجودًا. إن الإيمان بحكومة إلهية للعالم ليس إيمانًا بسيد العبيد، وموزع السعادة، بل يتألف فقط من اليقين الداخلي للتسلسل المفهوم لأفعال الإنسان، أي أن فيختة يختزل ويختصر الدين في الأخلاق .. غير أن نظريته الأخلاقية قادته إلى نوع من الوطنية المشبوهة، بسبب اشمئزازه من الاحتلال النابليوني، ألقى فيخته خطاباته إلى الأمة الألمانية في عامي 1807 و1808، حيث دعا إلى إنشاء دولة وطنية والدفاع عن الثقافة الجرمانية. وقد تبنى القوميون الألمان فيما بعد، بما في ذلك النازيون، هذا الخطاب على الرغم من أنه لا يخلو من تقدير المباديء الإنسانية العالمية والديمقراطية، وهو ما أكسبه إرثاً كارثياً وسمعة مشبوهه لم يكن فيخته بحاجة إليها، هو الذي مات في حالة من اللامبالاة العامة، بعد أن قضى عليه العمالقة، شيلينج وهيجل. يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إما الثورة وإما العبودية ..
-
فلسفة القفزة القاتلة
-
الله والذكاء الإصطناعي
-
رسالة جاكوبي ضد العدمية
-
المثالية الألمانية
-
بيكيت بين العبث والعدمية
-
الجنون
-
محنة هاملت
-
النفي والإثبات وما بينهما
-
العنصرية والكزينوفوبيا
-
مسؤولية العدسة
-
الفن من أجل الفن .. !
-
ألهة الدمار
-
داغرمان ودكتاتورية الكآبة
-
حدود العقل
-
العلم والجهل والذكاء
-
اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
-
عن الشعر والملل
-
إشكالية الإيمان عند كانط
-
الشوكولاطة وجنية البحر
المزيد.....
-
الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل غاراته على مطار صنعاء ومناطق ال
...
-
رنا رئيس تحتفل بزفافها وتفاعل على حضور ماجد الكدواني
-
الحوثيون: هجمات إسرائيلية وأمريكية على مطار صنعاء
-
ردود مصرية على تصريحات سموتريتش حول حشر سكان غزة قرب مصر
-
شاهد: العائلة المالكة تشارك البريطانيين الاحتفال بثمانين عام
...
-
شاهد: مؤيدون لفسلطين يعرقلون مراسم إحياء الذكرى الثمانين لتح
...
-
هل تتحمل إسرائيل تبعات خطتها باحتلال غزة؟
-
هل يعود شبح هتلر بعد 80 عاماً على انتحاره؟
-
إعلان خطة إسرائيل لاحتلال غزة جاء في توقيت حساس - الغارديان
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن قصف مطار صنعاء ومحطات كهرباء في اليمن
...
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|