أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - حرية الحجر















المزيد.....

حرية الحجر


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 14:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


282 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
30 ‪‬ سبينوزا وحرية الرأي

نعرف أن سبينوزا قد درس العبرية والتلمود واللاهوت في مدرسة يهودية في أمستردام، وأن عائلته، وبالذات والده كان يريده أن يكون حاخاما يرشد الجالية اليهودية في هذه المدينة، غير أن سبينوزا كان له رأي آخر في الأمر. ولكن هذه الخلفية الدينية والأخلاقية التي ترجع أصولها إلى هذه الفترة من تكوينه الفلسفي، لا يمكنها أن تتبخر فجأة وتغيب من الذاكرة دون أن تترك أي أثر. لذلك فإن سبينوزا رغم راديكاليته العقلانية المطلقة بخصوص الدين اليهودي، والأديان عموما، إلا أنه أحتفظ مع ذلك بفكرة "ضرورة الدين" إجتماعيا، وأحتفظ بفكرة الله كجوهر مطلق من الناحية الفلسفية.
ولا يمكننا إلا أن نرجع هذه الفكرة إلى إهتماماته الفلسفية الأولى، وإعتبار أنها من بقايا وآثار فلسفة ديكارت، والذي توفى عندما كان سبينوزا في الثامنة عشرة من عمره. ديكارت في كتابه "تأملات في الفلسفة الأولى"، شرع يشكك في كل معلوماته ومعارفه التي تحصل عليها وتعلمها طوال حياته، وذلك من أجل إيجاد أسس المعرفة القائمة على العقل واليقين. طريقة الشك المنهجي الجذرية قادت ديكارت إلى التشكيك في وجود الله وموثوقية الإدراك الحسي. فإذا طبقنا منهج الشك في كل شيء، بما في ذلك وجود العالم ووجود الله، فلن يتبقى لنا سوى حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها، حسب منطقه: وجودنا ككائنات مفكرة Cogito, ergo sum والتي تعني تقريبيا أنا أفكر إذا أنا أكون، كما ترجمت بالفرنسية « Je pense, donc je suis » والتي ترجمت بالعربية إلى " أنا أفكر إذا أنا موجود". ( يمكن للقاريء الرجوع إلى الفصول السابقة بخصوص الفرق بين الكينونة والوجود )، غير أنه في نهاية الأمر يؤكد ديكارت على ضرورة وجود الله في نظامه الفلسفي، لأن فكرة الإله الكامل واللامتناهي يجب أن تكون قد نشأت من كائن كامل وغير محدود. ويؤكد أنه من المستحيل على كائن محدود وغير كامل، مثل الإنسان، أن يتصور كائنا كاملا وغير محدود دون أن تكون هذه الفكرة قد أوحتها في ذهنه قوة أعلى. يقدم ديكارت إذا وجود الله كحقيقة ضرورية وواضحة تعمل كأساس لكل المعرفة والفهم. فالله هو الضامن للحقيقة واليقين في العالم. ويفترض أن وجود الله يوفر أساسا موثوقا به للمعرفة والفهم البشري، بالإضافة إلى أن الله هو مصدر كل الخير والكمال في الكون، وأن وجود الله يضمن الانسجام والنظام في العالم الطبيعي. فالكمال فكرة فطرية لا يستطيع الإنسان الناقص، الذي يشكك في كل شيء أن يتوصل إليها وحده، فلا بدّ أن يكون الله هو الذي طبعها في نفوسنا. وهذا ما يسمى بالدليل الوجودي أو الأنطولوجي على وجود الله. الخلاصة عند ديكارت هنا، أن فكرة الله فطرية. وهذا التراجع الديكارتي، الذي أملته الظروف السياسية والدينية للقرن السابع عشر، يشبه إلى حد كبير تراجع كانط بعد أكثر من قرن ونيف من موت ديكارت. كانط أنتقد بدوره فكرة وجود الله وخلود النفس وأثبت عدم إمكانية التدليل عقليا على وجود الله، ووضع الأسس العقلية للمعرفة في كتابه "نقد العقل الخالص"، ولكنه في نهاية الأمر تراجع عن كل ذلك في كتابه النقدي الثاني "نقد العقل العملي" ليعلن ضرورة الأخلاق العملية في المجتمع، والتي لا يمكن أن تتحقق دون إفتراض وجود إله ودون إفتراض خلود النفس وبقائها لتتحمل نتائج أعمالها.
أما كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة - Traité théologico-politique" والذي نشر كما سبق القول بدون إسم المؤلف وعن دار نشر وهمية، فقد كتبه سبينوزا لثلاثة أسباب، والتي حددها في رسالة إلى أحد أصدقائه، هنري أولدنبورغ Henry Oldenburg:
أولا، لتدمير الأحكام المسبقة التي يتبناها علماء اللاهوت والتي تمنع ممارسة الفلسفة، هذه الأحكام المسبقة التي تبرر أن تكون الفلسفة في خدمة اللاهوت. ولذلك، يجب على العقل، أن يؤكد نفسه بشكل مستقل عن أي قانون على الإطلاق.
ثانيا، للدفاع عن نفسه ضد تهمة الإلحاد الموجهة إليه. فهو من أنصار نوع معين من اللاهوت العقلاني، مثل موسى بن ميمون الذي يناقش كتابه دليل الحائرين ـ العقل وحده في تفسير الكتاب المقدس. ومع ذلك، وعلى النقيض من موسى بن ميمون، المعروف في الغرب بإسم مايمونيد Maïmonide، فإنه لا يرى جوهر الدين في التكهنات المحضة، بل في الأخلاق التي يدعو إليها. (وُلِد موسى بن ميمون في قرطبة سنة 1135 ميلادية، وتُوفيَ في القاهرة سنة 1204 ميلادية. اشتهر بكونه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى وهو من عائلة يهودية أندلسية، ولموسى بن ميمون تصانيف شهيرة مكتوبة باللغة العبرانية، وله أيضًا في اللغة العربية كتاب «دلالة الحائرين - Le Guide des égarés» الذي طُبع في باريس من سنة 1865 إلى 1866م.)
ثالثا، ترسيخ حرية الفلسفة في المدينة وإثبات أن حرية الرأي ضروريه للسياسة وللإيمان. وقد أدت الأحداث التي تلت نشر الكتاب إلى صحة أفكار سبينوزا في ضرورة الدفاع عن حرية الرأي وممارسة النقد العقلي.
وعندما اكتشف العالم الفكري واللاهوتي، أن هذه الرسالة الملغمة، هي من عمل سبينوزا، أنصب عليه جحيم النقد من كل الجوانب، أصدقاءه وأعدائه، من يعرفه ومن لا يعرفه، من يتابع أفكاره ومن لم يسمع به إطلاقا، بإختصار، كل المجتمع الهولندي ندد بهذا الكتاب ووقف ضد سبينوزا. وأصبح من نقارنه بسبينوزا أو نعته بالسبينوزي يضاهي نعته بالكفر والإلحاد وهي أسوأ الشتائم في ذلك الوقت. يبدو الأمر كأن سبينوزا قام بعملية إرهابية وألقى قنبلة فكرية وسط عاصمة كبرى تتميز بالثروة والرخاء والفكروالحرية والتعايش السلمي بين الأفكار والأديان. وأصبحت حياته لا تكاد تحتمل في هذا الجو الخانق المحيط به من الحقد والكراهية والعداوة الفكرية. وقد أتيحت له فرصة ذهبية للهروب من هذا الجحيم سنة 1673، حيث عرض عليه كرسي الفلسفة، من قِبل أحد وجهاء البلاط، ليدرس في جامعة هايدلبرج، وهي من أرقى الجامعات وأقدمها، أُسست عام 1386، غير أن سبينوزا بعد تردد طويل رفض هذا العرض الإستثنائي. فهو ليس من الذين يحتملون الوظائف الرسمية، ولا يستطيع أن يتخيل نفسه أستاذا جامعيا خاضعا لتدريس منهج منظم ومعتمد من السلطات الأكاديمية العليا، هؤلاء الأساتذة الذين يقول عنهم ليبنتز لمدحهم، حسب جيل دولوز: "لا يهددون الشعور العام القائم ولا النظام الأخلاقي أو الشرطة"، وهو تماما عكس ما يريده سبينوزا الذي يقول ليبرر رفضه لهذا المنصب لتدريس الفلسفة: "بسبب أني لم أكن يوما محبا للتعليم العمومي، فإني لم أختر، حتى وإن كنت فكرت مليا في الأمر، أن أستغل هذه الفرصة الممتازة". فقد كان سبينوزا ذا مزاج أو طبيعة متمردة، يبحث بإستمرار عن الإتجاه المعاكس للرأي العام، ليس من أجل المشاكسة والإستفزاز، وإنما لقناعته بضرورة التخلص من كل النظام الفكري السائد القائم على مقدمات خاطئة. فعندما أعلن على الملأ، وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، بأن الله يكمن في الطبيعة وفي الكون، وأنه لا وجود للخلود ولا للثواب أو العقاب، وبأن النصوص الدينية التي يقدسها العامة، ما هي إلا صور مجازية كتبها رجال الدين لأغراض أخلاقية ولتقريب صورة الله-الطبيعة من العامة الذين لم يتعودوا على الفكر المجرد، عندما قام بهذا العمل، كان هدف سبينوزا كما يبدو هو إثارة غضب السلطة الدينية اليهودية، وأن يطرد من الكنيسة ويعاقب بالنفي والإبعاد .. وقد تحقق ما يأمله مباشرة في سنة 1656. من الواضح أنه لا يستطيع الآن أن يعود إلى الوراء، فكل سمعته مبنية على هذا الطرد الراديكالي وهو لا ينوي التسليم ولا خسارة المعركة. ولذلك يرفض أن ينكر رغبته الدائمة في محاولة تدمير الأفكار القديمة والعادات البالية. ذلك أن هذا العمل هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى السعادة الإنسانية والهدوء الروحي. فالعقل هو الهدف الوحيد الذي يريد الوصول إليه. كان يؤمن بالعقل وبقانون السببية وبأن الطبيعة هي كل شيء، والله ذاته لا يختلف عن الطبيعة في شيء، الله هو الطبيعة والطبيعة هي الله. كان يعتقد أنه لا توجد سعادة أبدية في الحياة الآخرة، وذلك ببساطة لأن الحياة الآخرة لا وجود لها، فيجب البحث عن السعادة الآن وهنا على الأرض. بالنسبة لسبينوزا، كل شيء له سبب. هذه هي الفكرة العقلانية الأساسية والحتمية: العالم عبارة عن سلسلة من الأسباب والنتائج. الحرية، بالمعنى الدقيق للكلمة، أو بالأحرى الحرية الداخلية، غير موجودة، وحرية الإنسان تشبه حرية الحجر في السقوط إذا ما قذفناه في الهواء.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجسد المثقوب
- الرصاصة والثقب
- المعطف المثقوب
- اليهودي الملعون
- فيخته بين العقل والأخلاق
- إما الثورة وإما العبودية ..
- فلسفة القفزة القاتلة
- الله والذكاء الإصطناعي
- رسالة جاكوبي ضد العدمية
- المثالية الألمانية
- بيكيت بين العبث والعدمية
- الجنون
- محنة هاملت
- النفي والإثبات وما بينهما
- العنصرية والكزينوفوبيا
- مسؤولية العدسة
- الفن من أجل الفن .. !
- ألهة الدمار
- داغرمان ودكتاتورية الكآبة
- حدود العقل


المزيد.....




- إيلون ماسك -يفاجئ- إدارة ترامب بعد تركها: -الكونغرس يُفلس أم ...
- في أول انتقاد علني، ماسك يصف مشروع قانون ترامب الضريبي بـ-بش ...
- كوريا الجنوبية تنتخب لي جاي ميونغ رئيسا في انتخابات مبكرة أع ...
- مؤسسة غزة الإنسانية تختار رئيسا إنجيليا أيد اقتراح السيطرة ا ...
- الجيش الإسرائيلي يشن غارات على سوريا، ويحمل النظام السوري مس ...
- زيلينسكي يعلن عن تغييرات في قيادة القوات الأوكرانية
- ماكرون وميلوني يدعوان إلى تعزيز الدفاع الأوروبي
- -سنتوجه لحدود القطاع-.. حركة مدنية إسرائيلية تدعو للتظاهر في ...
- أستاذ بمعهد الفلك المصري: نمر بفترة نشاط زلزالي طبيعية
- الخارجية الروسية: إسطنبول ستبقى منصة للتفاوض مع أوكرانيا


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - حرية الحجر