سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 16:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
286 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
34 هيجل وقوة السلب
بدأ هيجل عملية البناء لنظامه الفلسفي الجديد بعملية نقدية للمقولات الفلسفية التي تشكل عالم الفلسفة التاريخي والأكاديمي. ولا شك أن رغبة هيجل في إنشاء نظام فلسفي جديد لم تسقط عليه فجأة من السماء، بل ناتجة عن الظروف السياسية والفكرية والإجتماعية في بداية القرن التاسع عشر، ليس في ألمانيا فقط وإنما في كل أوروبا. فالثورة الفرنسية قد تركت أثرا كبيرا في كل هذا الجيل من المثقفين والفلاسفة، بالإضافة إلى التقدم العلمي الذي بدأ يغير معالم الحياة الإجتماعية والإقتصادية في كل أوروبا.
تُعتبر الثورة الصناعية، والتي أنطلقت من إنجلترا ما بين عامي 1750- 1760، واحدة من أهم الفترات التحولية في تاريخ البشرية، حيث أثرت بشكل كبير على تقدم العلوم والتكنولوجيا، وقد كان لها أهمية بالغة في تسهيل الإنتاج والازدهار الاقتصادي وتحسين أنظمة التجارة والصرف وتطور الرأسمالية، فبعد أن كان الاعتماد منصبًّا على الجهود البشريّة والحيوانيّة، أصبح بالإمكان تسهيل التصنيع بتشغيل الآلات؛ كالمحرك البخاري، وآلات الغزل والنسج، وآلات الدرفلة لتصنيع الحديد وغيرها. إلا أنّ الثورة الصناعية عادت على الفقراء بتفاقم الفقر والجوع، إضافةً إلى اتّساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية أو بين الفقراء والأغنياء. الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وحروب نابليون ومحاولة إجتياحه لأوروبا، كل ذلك ساهم مساهمة كبيرة في إنتشار أفكار جديدة في أوروبا ونمو الحس القومي من ناحية والحس الثوري المناهض للقمع والحكم المطلق من ناحية أخرى.
بينما كان هيغل يضع اللمسات الأخيرة لكتابه فينومينولوجيا الروح Phénoménologie de l esprit، غزا نابليون بروسيا في أكتوبر 1806، فيما عرف باسم «معركة يينا la bataille de Iéna» ضمن حرب التحالف الرابع. قبل يوم من المعركة، كتب هيغل رسالة بين فيها مشاعره تجاه نابليون إلى صديقه من أيام الكلية «فريدرك نيتهامرNiethammer»، قال فيها:
«رأيت الإمبراطور - روح العالم - يخرج لضواحي المدينة للإستطلاع. إنه لشعور رائع أن ترى مثل هذا الشخص هنا مركزا في هذه اللحظة، ممتطيا جواده يجول في هذا العالم ويخضعه. هذا الرجل المذهل، يدفعك حتما لاحترامه.» وقد تكون هذه القصة مجرد أسطورة، إلا أن هيجل ساند الحملة الفرنسية ضد بروسيا، والتي انتهت بأن هزمت جيوش نابليون في حرب التحرير 1811-1813، والتي كانت بمثابة كارثة دراماتيكية بالنسبة لهيجل.
ويرى هيجل أن سبب كل هذه الأفكار الخاطئة، القديمة منها والجديدة، وجذور الأفكار المسبقة والتصورات الجاهزة التي غالبا ما تستحوذ على الموضوع المفكر، ترجع أصولها إلى عامل نفسي، وليس إلى عامل إقتصادي أو إجتماعي، يسميه التكبر والخيلاء أو حتى العجرفة التي تمنع العقل من أن يقيم علاقة ثرية وحيوية مع موضوعه. بل أن هذا الإنسان المتكبر يقوم غالبا بإسقاطات لما يجري في داخله من عمليات نفسية خاصة بحياته الشخصية على الموضوع الخارجي الذي يحاول الإحاطة به أو دراسته، مما يجعل الموضوعية المطلقة، أحد شروط الفلسفة، شديدة الصعوبة إن لم تكن مستحيلة تماما. وهذه في حقيقة الأمر إشكالية مزمنة في تاريخ الفكر، حيث إستحالة الفصل الكامل بين العقل وموضوعه، لأن العقل ليس جهازا منفصلا عن الإنسان المفكر المنغمس في العالم والذي يتأثر بكل العواصف والزوابع التي تمر على جسده المادي. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بالعلوم النظرية كالفلسفة وعلم النفس أو التاريخ، وإنما العلوم التطبيقية تعاني من نفس الصعوبة في إستحالة الفصل بين المجرب في معمله وبين موضوع التجربة.
ولكي يبدأ في تحقيق أو بناء مشروعه الفلسفي الضخم، هيجل كان في حاجة إلى شيء يشبه الخريطة، علامات على الطريق يتبعها لتقوده في تشعبات ودهاليز العقل والفكر والتصورات، شيء يشبه الخيط الذي أعطته آريان Ariane لتيزياس Thésée ليتمكن من الخروج من المتاهة. ولقد وجد هيجل هذا الخيط أو هذا الشعاع الضوئي الذي قاد خطواته من محطة إلى أخرى طوال رحلته -القصيرة- في متاهة الفلسفة، وهو فكرة "السلبية - La Négativité"، والتي وجدها مخبأة في ثنايا كتابات سبينوزا والتي سبق أن ذكرناها في الفصول السابقة. سبينوزا أعتبر أن كل تحديد وتعيين هو سلب، فما أن نعين شيء ما ونحدد ماهيته بأية صورة من الصور، فإننا بالضرورة نفصله عن بقية العالم وننفي ما عداه من الكائنات. فالقول بأن هذا الكائن الذي أمامي هو "كرسي"، يعني أن أنفي عن هذا الشيء إمكانية أن يكون شجرة أو كتاب أو كلب أو أي شيء آخر. وكذلك القول عن شيء ما أنه أحمر، يساوي القول بأن الشيء ليس أصفر أو أسود أو أخضر .. ومن هذا الشق الضيق في جدار اللغة يدخل السلب في صميم الكينونة. ورغم أن سبينوزا يحذر بأن هذا يكون حقيقيا في حالة التجريد المفاهيمي، أي عندما نعتبر "الحال" في ذاته منفصلا أو معزولا عن الأسباب التي جعلته يتكون كجوهر وككائن. ولذلك فإن "السلب" في نظريته هو كائن عقلي، أي مفهوم أو مقولة مجردة لا تنطبق على الواقع الحقيقي الذي يتمتع بالإيجاب على الدوام. والسلب في هذه الحالة هو "لا شيء"، لأنه لا يوجد أي شيء في العالم الواقعي الذي نعرفه ينقصه أي شيء. غير أن هيجل يطور هذا المفهوم وذلك بقلب مقولة سبينوزا وتطبيقها بطريقة معاكسة، فيقول بأن كل سلب هو بالضرورة تحديد وتعيّن. فكما أن الإثبات يتضمن النفي، كذلك النفي يتضمن الإثبات. فعندما نقول عن شيء ما بأنه لا ينتمي إلى فئة معينة، فإن ذلك يعني بالضرورة أنه ينتمي إلى فئة أخرى قد تكون مجهولة أو معلومة. فالسلب والإيجاب متلازمان ويتضمن الواحد منهما الأخر. مبدأ سبينوزا "إيجاب الشيء هو نفيه، أو وضع الشيء هو سلبه" يتحول عند هيجل إلى "سلب الشيء يعني وضعه وإيجابه"، كما يقول في كتابه علم المنطق الجدلي.
السلبية إذا هي هذا "الإختلاف والتناقض" في صميم الوعي والذي ينتج "قوة السلب الهائلة"، والتي هي في نهاية الأمر مصدر الخلق أو التكوين، أو عملية الخلق ذاتها. ذلك أن الطبيعية الإيجابية لأي شيء من الأشياء تتوقف على تحديداته، أي على شكله ولونه ووزنه وحرارته وكثافته إلخ. وكل هذه التحديدات تعتمد على عملية السلب والإقصاء ونفي كل التحديدات ألأخرى.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟