|
سبينوزا ونهاية المغامرة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 12:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
284 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 32 موت سبينوزا
في 21 فبراير 1677، توفي باروخ سبينوزا، الفيلسوف ومصقل العدسات، بسبب نوبة عنيفة من مرض السل في منزله في لاهاي. ولكن هناك من يتسائل: ماذا لو كان موت سبينوزا ليس بسبب سوء الصحة، بل بسبب آخر، كالإعتيال على سبيل المثال؟ عندما توفي باروخ سبينوزا عن عمر يناهز 44 عامًا في لاهاي، ترك وراءه عملًا فلسفيًا ثوريًا، ولكنه ترك أيضًا عددًا من الألغاز. من هو هذا الشخص الغامض الذي زاره يوم وفاته؟ ولماذا اختفت بعض الرسائل والمخطوطات غير المنشورة من من مكتبه؟ من المستفيد من جريمة هذا الموت الغريب؟ الكاثوليك، البروتستانت، الملكيون، اليهود، الخصوم النظريون، الفرنسيون، الهولنديون... خلال حياته، قائمة الأعداء طويلة لدرجة أنه هو نفسه لا يعرف كل من يناصبه العداء. نحن في هولندا في القرن السابع عشر، مفترق طرق المعرفة والتجارة والتجريب السياسي، أرض السلام والتسامح، ظاهريا، حيث يمارس اليهود والكاثوليك والبروتستانت دينهم بحرية. لكن التوازن هش والحرية تبدو نسبية لدرجة كبيرة. يبدو أنه هناك حذر من سبينوزا، فهو حر للغاية، حرية مفرطة، وغير قابل للتصنيف. وكانت فلسفته الأخلاقية مثيرة للقلق بقدر ما كانت تستهوي العديد من المغامرين، في وقت كانت فيه الحروب الدينية تمزق أوروبا، سبينوزا يعلن إن الله ليس ليس شيئا آخر غير الطبيعة. لا توجد عناية إلهية، ولا معجزات، ولا جنة، ولا جحيم، ولا خلود للروح ولا كتب مقدسة. هناك الكثير من المباديء التي تتحدى النظام الاجتماعي والسماوي، من أعلى مستويات الحكومة إلى هيئة الكنيسة المسيحية واليهودية، ودوائر الفكر المتنافسة، كل شيء يتآمر سراً لإسكات هذا الصوت "الشيطاني" المثير للفتنة. وبعد موته تم نقل حقيبة كتبة التي تحتوي على بعض كتاباته غير المنشورة، بما في ذلك ما يعتبر تحفته الفنية، كتاب الأخلاق، على الفور إلى ناشره في أمستردام. ولكن ماذا سيفعل آصدقاء الفيلسوف بكل هذه المخطوطات؟ إن نشر نصوص هذا المفكر، المعروف بإلحاده والمشهور بهرطقته ومعاداته للكنيسة اليهودية، أمر حساس ومكلف: فقد تخلى سبينوزا نفسه عن الأمر قبل عامين، معتبراً نشر كتابه الأخير مشروعاً محفوفاً بالمخاطر. ولعدم توفر المال لديه، عرض أحد أصدقائه بيع مخطوطة كتاب الأخلاق إلى لايبنتز بمبلغ 150 فلورينًا. ولحسن الحظ، لم ينجح هذا المشروع. وفي هذه الأثناء، تم تشكيل فريق للإهتمام بنشر كتابات سبينوزا، وبعد أقل من عام من وفاته، تم نشر بعض المخطوطات دون أي إشارة إلى الناشر أو مكان النشر ومع الأحرف الأولى فقط "ب. دي إس." مثل اسم المؤلف. لقد تم طرد سبينوزا من الكنيسة في سن الرابعة والعشرين من قبل المجتمع اليهودي في أمستردام، وبالتالي اضطر إلى الانسحاب إلى العزلة الذاتية لبقية حياته، بالتناوب بين التأملات الفلسفية والكتابة وممارسه عمله في تلميع العدسات البصرية ليتمكن من دفع إيجار حجرته. وبهذه الطريقة، تمكن من وضع أسس فلسفة أصلية إلى درجة الاعتراف به باعتباره رائداً لعصر التنوير والحداثة. ويكفي إلقاء نظرة على البيبليوغرافيا المتعلقة بسبينوزا لنرى أهمية هذا الفيلسوف في تاريخ الفلسفة الأوروبية، رغم إنتاجه الفلسفي المحدود، إلا أنه هناك الآلاف وربما عشرات الآلاف من الكتب والدراسات والتعليقات والشروح والمؤتمرات والرسائل الأكاديمية بخصوص كتاباته وأفكاره التي صاغها في أسلوب يصعب الولوج إليه بدون جهد كبير. ويرجع ذلك حسب بعض المفسرين إلى المواضيع التي أثارها سبينوزا وقدرته على تجديد الفلسفة، رغم إعتماده على المنهج الديكارتي بعد أن خلصه من فكرة الشك، وإعتباره لهذا المنهج كوسيلة أو كأداة للتفكير والوصول إلى نتائجه الخاصة، وبذلك تخلص من ثنائيات الميتافيزيقا القديمة، الجسد والروح، الله والطبيعة، المادة والفكر .. غير أنه من الضرورة التنويه بأن الفكر الغربي قد بالغ في أهمية سبينوزا، كما بالغ فيما بعد في أهمية وعبقرية فتقنشتاين وبروست وفرويد وغيرهم من المثقفين اليهود، بحكم تعرض هذا الشعب للإضطهاد ومحاولة إبادته من قبل النظام النازي. جيل دولوز، على سبيل المثال يذهب إلى درجة إعتبار سبينوزا مكتشفا لفكرة اللاوعي ورائدا ومؤسسا لعلم النفس الحديث. يدعي البعض من مؤرخي الفكر الفلسفي الأوروبي أن فكر سبينوزا أحدث موجة عاتية وصدمة في الفكر الأوروبي، وأن كل الفلسفات اللاحقة اضطرت إلى مواجهة هذا التيار الذي وصف بأنه "جذري" والذي سمي بالسبينوزية. وهكذا يمكن التمييز بين أربعة تيارات في أصل عصر التنوير: تيار نيوتن، وتيار نيوديكارتي، وتيار لايبنتز، وتيار سبينوزي أو التيار الراديكالي، ولكن هذا الأخير هو الذي لعب دورا حاسما في الديناميكية التي ترأست التجديد الفكري في تلك الفترة، والتيارات الأخرى كانت تتفاعل مع السبينوزية، وهو ما رأيناه مع جاكوبي في الفصول السابقة. إن ما يميز "راديكالية" السبينوزيين هو رفضهم المطلق للوحي واعتمادهم على العقل حصرياً لتحليل الحقائق الطبيعية والسياسية والاجتماعية. فقد تم أولا رفض الثنائية الديكارتية للمادة والروح. الكون هو مادة واحدة والفكر هو أحد مظاهرها. إن هذه الراديكالية تعني رفض أي تسوية مع السلطات الدينية أو الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية. وبالتالي فإن التنوير "الراديكالي" هو معادٍ للدين ومعادٍ للملكية ومعادٍ للأرستقراطية، وبالتالي يمكن إيجاد علاقة بين الراديكالية الفلسفية للسبينوزيين والراديكالية السياسية الثورية. أما القطب "المعتدل"، على العكس من ذلك، فيعتزم استيعاب النظام القديم مع محاولة "إصلاحه"، كما فعل ديكارت وليبنتز. سبينوزا، اليهودي المطرود، والمدافع عن حرية الفلسفة، والناقد للدين القائم، والفيلسوف الملحد، يطور ميتافيزيقيا غريبة حيث الله هو الطبيعة، والعناية الإلهية هي النظام الطبيعي للأشياء. غير أنه لا ينبغي الخلط بين هذه "السبينوزية" التي تطورت في أعقاب الفيلسوف وفلسفة سبينوزا نفسه، التي كانت أكثر دقة من تجسيداتها الجذرية. ولنتذكر أيضاً أن الإشارة الدائمة لاسم سبينوزا في نصوص ذلك العصر كافية لتأسيس وحدة العقيدة التي هي اسمية فقط على وجه التحديد. في سبتمبر 1785، أي بعد أكثر من قرن من وفاة سبينوزا، نشر فريدريش هاينريش جاكوبي رسائل إلى موسيس مندلسون حول فلسفة سبينوزا. وكشف أنه خلال محادثة في يوليو 1780 مع ليسينج، قال له هذا الأخير: "Έν καì Πν - Hen kai pân، الواحد هو الكل، ولا يوجد شيء آخر. الفلسفة هي فلسفة سبينوزا." كان جاكوبي معارضًا للسبينوزية وكذلك للعقلانية عموما، والتي تعتبر الحرية وهمًا، والتي تؤدي في المقام الأول، حسب رأيه، إلى الإلحاد. وهكذا ولد الخلاف حول وحدة الوجود، الذي استمر من عام 1785 إلى عام 1815 على الأقل. حيث اكتشف موسيس مندلسون أن ليسينج، أستاذه وصديقه، أحد رموز التنوير، كان متمسكًا بالسبينوزية وبوحدة الوجود، وبالتالي يمكن إتهامه بالإلحاد. ولا ننسى أن النهج الفكري الانفرادي السبينوزي مشبع بالشكوك والتناقضات، وإعتبار العقل والبحث الفلسفي أهدافا أخلاقية والهدف الأسمى للإنسان، وكذلك عدم قدرته على التخلص من فكرة الله، يقطع الطريق بالضرورة أمام مواصلة البحث الفلسفي وتطوره. يقول: "إننا جميعًا لدينا هذه القدرة على التفكير بشكل مشترك، وسوف تأتي الجنة الحقيقية على الأرض في اليوم الذي يحل فيه التزامنا بفهم الطبيعة، أو الله، محل جميع الارتباطات الأخرى، سواء كانت دينية أو ثقافية أو أيديولوجية". وإنه من المبالغ فيه القول بأنه لو لم يتمكن أصدقاء سبينوزا من نشر هذه النصوص، فربما لم يكن العالم الحديث كما هو عليه اليوم، كما يدعي البعض من مؤيدي وأتباع سبينوزا. لأنه، بطريقة ما، رغم أن التاريخ الفلسفي للغرب يعتبر كل ممثلي حضارة الغرب الفكرية اليوم، هم الورثة الفكريين لهذا اليهودي المرتد من القرن السابع عشر، رغم هذه الفكرة الشائعة، فإن سبينوزا لم يكن سوى مفكرا أخلاقيا ولم يقدم أية مقولات فلسفية جديدة، رغم أنه يمكن إعتباره من بعض النواحي كمؤسس للعقلانية الأخلاقية وللعلمانية الحديثة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سبينوزا وفكرة السلب
-
حرية الحجر
-
الجسد المثقوب
-
الرصاصة والثقب
-
المعطف المثقوب
-
اليهودي الملعون
-
فيخته بين العقل والأخلاق
-
إما الثورة وإما العبودية ..
-
فلسفة القفزة القاتلة
-
الله والذكاء الإصطناعي
-
رسالة جاكوبي ضد العدمية
-
المثالية الألمانية
-
بيكيت بين العبث والعدمية
-
الجنون
-
محنة هاملت
-
النفي والإثبات وما بينهما
-
العنصرية والكزينوفوبيا
-
مسؤولية العدسة
-
الفن من أجل الفن .. !
-
ألهة الدمار
المزيد.....
-
ردّا على ترامب.. الكنديون يلغون رحلاتهم إلى أمريكا.. من يدفع
...
-
الجيش الإسرائيلي: قتلنا قائدا آخر بفيلق القدس.. ونخوض -واحدة
...
-
لماذا رشحت باكستان ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام؟
-
تايمز: أوكرانيا تلجأ لحل غير تقليدي لتعويض النقص بالجنود
-
كاتب أميركي: 4 أسئلة حاسمة على ترامب التفكير فيها قبل الضربة
...
-
إجلاء رعايا عرب وغربيين وصينيين من إيران
-
على وقع الاقتحامات.. انطلاق امتحانات الثانوية العامة بالضفة
...
-
تحذير خليجي من استهداف المنشآت النووية بإيران
-
كاتب إسرائيلي: لهذه الأسباب الثلاثة تفشل إسرائيل في غزة
-
عاجل | الجيش الإسرائيلي: نهاجم حاليا بنية تحتية عسكرية في جن
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|